الإعلام المصري يبيع “العربية” في موقعة أردوغان!

سليم عزوز

وخير ما قالت العرب العاربة: «ما أشبه الليلة بالبارحة»، فقد ذكرتنا قناة «العربية» في ليلتها ببارحتها. حيث احتشدت في ليلة صدور قرار البرلمان التركي بتفويض الحكومة بإرسال قوات إلى ليبيا، تماما كما احتشدت في ليلة المحاولة الانقلابية الفاشلة على الرئيس أردوغان!

وقفت قناة «العربية» على خط النار، ودقت طبول الحرب، وقامت باستضافة أكثر من ضيف في كل فقرة، معظمهم من القاهرة، بينما الأخبار العاجلة لا تتوقف: «البرلمان العربي يدين التدخل العسكري التركي في ليبيا»، «مصر تحذر من مغبة أي تدخل عسكري»، «مصادر العربية: مصر تشكل لجنة أمنية لتقييم الأوضاع في ليبيا»، «شيوخ ترهونة يطالبون الشعب الليبي بالتحرك لمواجهة الغزو التركي»، «مصادر العربية: مصر تبدأ اتصالات عربية ودولية لوقف التدخل التركي في ليبيا»، «المرصد السوري: 300 مقاتل سوري في ليبيا»!

وانغمست القناة في الدور فأعلنت هذا الخبر العاجل على شاشتها: «الجيش الليبي يقصف طائرة تركية». مع أن قرار البرلمان التركي لم يدخل بعد طور التنفيذ، وبالتالي فلا طائرة ولا دبابة لتركيا هناك، لكنه حماس قناة «العربية»، دفعها لهذا التوهم، على النحو الذي ذكرنا بعشرات الأخبار التي أذاعتها وهي تغطي محاولة الانقلاب الفاشلة في تركيا، وثبت أنها أخبار كاذبة، والدليل على هذا أنها حذفتها من أرشيفها، فقد كانت كلها تدور حول أن الانقلاب نجح، وأن الجيش استولى على السلطة، وأن أردوغان فر للخارج!

بيد أن الخلاف بين البارحة والليلة، أنها في الأولى كان معها إعلام عواصم الثورة المضادة، ومن السعودية، إلى القاهرة ومن هناك أعلن أحمد موسى أن الليلة عيد، وعليه فالسهرة «صباحي»، فقد كان هناك احتفال مشترك بسقوط أردوغان، واستيلاء «الجيش التركي العظيم» على الحكم، وفي الليلة التالية وبعد التأكد من دحر الانقلاب كانت «العربية مشغولة بستر عورتها التي تبدت للناظرين، بينما إعلام السيسي يعلن مرة إدانته للاعتداء على الجيش التركي، باعتبار القوم أولياء أمور جيوش العالم، ويعلن مرة أنه لم تكن هناك محاولة انقلاب ولا يحزنون، ولكنها خطة من أردوغان لثبيت دعائم حكمه!

أما في هذه الليلة، فقد كانت قناة «العربية» تقف على الجبهة بمفردها، بينما قنوات التلفزيون المصري خارج إطار الخدمة، وتتعامل مع القرار التركي، على أنه خبر يشبه سقوط أمطار رعدية خفيفة في بنغلادش، أو سقوط شابين في حفرة شمال شرق الصومال، فقرار البرلمان التركي، بل واجتماع مجلس الأمن القومي برئاسة المشير عبد الفتاح السيسي، يعامل معاملة خبر «مصرع 8 أشخاص بينهم رئيس أركان الجيش التايواني جراء تحطم مروحية»!

ساعة العمل الثوري

وقد مارست القنوات التلفزيونية المصرية، (التي تدار بواسطة السادة الضباط) حياتها بشكل طبيعي، وفي اللحظة التي كانت فيها «العربية» تعلن دقت ساعة العمل الثوري، كانت قناة مصر الإخبارية «النيل للأخبار» تقدم برنامجها «القرن الأفريقي» في موعده، وبعده جاء موجز الأخبار، لدقائق معدودات وفيه اجتماع الجنرال عبد الفتاح السيسي في مجلس الأمن القومي، مجرد خبر باهت، روعي فيه استخدام لغة هادئة، وعندما تمت مناقشة القضية مع خبراء بعد ذلك، كانت أيضاً مناقشة غير معنية، تفتقد للحماس، وتتسم بالبرودة، ربما متأثرة بحالة الطقس، فالجو لم يعد في بلادي «حارا جافا صيفاً. دافئا ممطرا شتاء»، فدرجة الحرارة فيها صارت تشبه مدينة الضباب، التي قال عنها «الطيب صالح» في روايته «موسم الهجرة إلى الشمال»: «تموت حيتانها من البرد»!

وإذ كانت برامج «التوك شو»، تحصل على إجازات في يومي الخميس والجمعة، لأسباب غير معروفة، والمعروف منها غير صحيح، فإن أحمد موسى في الأحداث الكبرى يقطع إجازته ويشد مئزره، وهو ما لم يفعله في هذه المرة!

أما أن المعروف غير صحيح، فهناك قواعد استقرت على أن في هذين اليومين تقل نسبة المشاهدة باعتبار أن ليلة الخميس تأتي استعدادا للإجازة الرسمية في اليوم التالي، حيث يقضيه الناس في الزيارات العائلية، وهو أمر لم يعد قائما، كما هو وارد في الأدبيات الخاصة بالمصريين القدماء، ثم جاء ارتفاع أجرة المواصلات العامة والخاصة بالتالي، لتجعل الناس يبقون في بيوتهم والاكتفاء «بالواتساب» كوسيلة للحفاظ على الترابط الاجتماعي، وهذا ليس موضوعنا.

فلم تحرص القنوات التلفزيونية المصرية على قطع الاجازات الخاصة ببرامج «التوك شو»، والبلد تبدو مقبلة على حالة حرب، بعد القرار التركي، ولأنها قنوات تدار بواسطة جهات أمنية معروفة، فإن أمرا بالتصعيد لم يصدر، وعليه تم التعامل مع خبر موافقة البرلمان التركي على إرسال قوات إلى ليبيا، كما لو كان لا يعني القوم، إلا في حدود ما يعنيه لهم تسمم خمسة أفراد في الإسكندرية من جراء خمرة مغشوشة في ليلة رأس السنة، بدون التطرق لدلالته؛ فانعدام الضمير وصل لساحة غش الخمور، وفي ليلة رأس السنة!

ومثلي لا يفهم هذا إلا في سياق التهدئة، فقد تم شحن الناس على دخول الحرب، لملاقاة العدو التركي، وتم الحديث عن الخيانة الوطنية وأحد ملامحها عدم الوقوف خلف الجيش في معركته التاريخية، وبعض المعارضة خضعوا للمزايدة، وبعضهم عنده رغبة دفينة في الخضوع، فأعلنوا أنه رغم خلافهم مع نظام الحكم في البلاد، إلا أنهم في هذه اللحظة التاريخية من عمر الأمة هم مع «جيش بلدهم»، ولكن كما قالت العرب: «تبات ناراً تصبح رماداً»، فعندما تم الإعلان عن اجتماع لمجلس الأمن القومي برئاسة السيسي، قال القوم هي الحرب، وعليه فقد تمادوا في إثبات وطنيتهم بالإعلان أنهم خلف الجيش ومعه، وفي الصباح وعندما تمخض الجبل فولد بياناً هادئاً يطالب المجتمع الدولي بالاضطلاع بمسؤولياته، عندئذ تغيرت النغمة في منشورات القوم على منصات التواصل الاجتماعي، إلى تفويضهم للقيادة السياسية في اتخاذ ما تراه مناسبة لرد العدوان التركي على ليبيا!

التسخين على خط «العربية»

وعدم التصعيد الإعلامي في مصر مقصود، لأن السيسي ليس في نيته الحرب، أو ملاقاة العدو، وعندما كان الشحن والتصعيد، فلسبب مهم وهو اعتقاد القوم أن المعارضة التركية قد تنجح في عرقلة القرار بإرسال قوات إلى ليبيا، أو تنجح الضغوط الدولية في هذا الصدد، ألا وأن القرار قد صدر، فإن التصعيد يعني عدم قبول الناس بغير قرار إعلان الحرب، وما دون هذا هو الضعف، وإن كان قناة «العربية» وقفت على الجبهة، وهي تنادي ولا أحد يستجيب، واستضافت ضيوفا مصريين، تمددوا في فضاء التسخين استجابة لرغبة لقناة!

وجاءت «العربية» بالخبير العسكري، ومستشار أكاديمية ناصر للعلوم العسكرية اللواء محمود خلف، فأعلن بشموخ العسكري الموهوب: أن مصر لن تسمح، وأن مصر لديها من الإمكانيات ما يمكنها من التدخل، وأن مصر ستكون في هذه المعركة جواً، وبراً، وبحراً، بينما الأداء هادئ على جبهة «النيل للأخبار» فالضيف فيها يؤكد أن تركيا لن تقدم على خطوة ارسال قوات إلى ليبيا، وأن قرار البرلمان يهدف لتقديم رسالة معينة لقوة معينة، فلما سألته المذيعة عن «الرسالة المعينة»، ونسيت أن تسأله عن «القوة المعينة»، وعموما هو لم يجب، واكتفت المذيعة بأن خاطبها الضيف بـ «حضرتك»!

أول مرة سمعت فيها باسم اللواء محمود خلف، كانت عن طريق صديق مجند في وحدته، وحكى لي كيف أنه يملك مكتبة ضخمة في هذه الوحدة، وقد كلفه بالاعتناء بها، فهرسة وتنظيما، وكيف أن الرجل يعد بحوثاً تطلب منه في مؤتمرات ونحو ذلك، لكن عندما أشاهده محللاً عسكريا عبر الشاشة الصغيرة، يدهشني هذا المنتج بعد هذه المكتبة، لأتذكر في كل مرة وصفنا عندما كنا شباباً لصحافي كبير، كان قارئا لكتب التاريخ، لكنه يروي الأحداث بدون دلالة أو إسقاط على الحاضر ودون أن نعرف الدروس المستفادة منها، فقد كنا نقول وصفا له: لقد دخل المكتبة ولم يخرج منها.

لقد هرمنا ولم نعد شباباً يمكننا أن نقول هذا الآن، فألا ليت الشباب يعود يوماً، فلم يكن الإعلام السيساوي فقط هو من تعامل مع الحدث بلا مبالاة، فالقناة التركية العربية، تصرفت على هذا النحو، مع أنها في هذه الليلة كان من المفترض أن تثبت وجودها وأن تكون هي وليست «الجزيرة» أو «العربية» هي ما يشد إليها الرحال، لكنها فوتت فرصا كبيرة لإثبات الحضور بدون جهد، ومن بينها الموقف من جريمة جمال خاشقجي.

لقد كان الحدث الأبرز لدى «تي آر تي» التركية، هو تطورات الموقف الأمريكي لحماية سفارة واشنطن في بغداد!

بيد أنها كانت أفضل حالاً من قناة «الحرة» الأمريكية التي تعاملت كما لو كانت غير معنية بما يجري على كوكب الأرض، ولكنها القناة الرسمية لكوكب المشتري، فتنظر اليها فتجد مناقشات في موضوعات بلا قيمة، وكأنها خارج المجرة. ومهما يكن، فقد أثبتت الأحداث، أن التعامل مع أردوغان سيكون في حدود الهجوم عليه في الإعلام، أو أن يجتهد أحدهم، كما اجتهد عمرو أديب فجاء بمن قدمها على أنها «عرافة» قامت بقراءة طالع أردوغان، وانتهت إلى أن السنة الجديدة ستكون سيئة عليه وأنهم سيبيعونه، كما باعوا ريتشارد من قبل، ليعلق عمرو أديب أن هذا لو حدث فإنه سيحلي لها بقها (فمها)، وهي عبارة نسائية ترددها المرأة من نساء «المصاطب» بعد بشارة العرافة لها، أن ابن ضُرتها سيسقط في امتحان الثانوية العامة!

كان بودي أن أقف مع جيش بلدي!

وسوم: العدد 858