ويأبى السيّد إلا أن يُذكّرنا بجرائم ميليشياته

مثنى عبد الله

ربما هو الأكثر تقلبا في المشهد العراقي، ربما هو الأقوى في الشارع، وليس في أروقة السياسة، لكنه يقينا الأكثر معاناة من أمية الوعي السياسي، تجرجره المواقف والمصالح الإقليمية والدولية يمينا وشمالا، بينما تبقى مصالح الأمة والوطن أبعد ما تكون في فعله على أرض الواقع، إنه مقتدى الصدر وتياره الصدري.

جمّد تياره السياسي مرات عديدة، سحب نوابه من البرلمان ووزراءه من الحكومة في مواقف كثيرة، أعلن اعتزاله العمل السياسي والتفرغ للشؤون الدينية مغادرا إلى قم في إيران أكثر من مرة، وعلى الجانب الآخر اتخذ مواقف كثيرة كانت أقرب إلى قلب العملية السياسية رأسا على عقب. دعوات متكررة إلى تظاهرات مليونية ضد الشركاء في العمل السياسي والفساد. رفض للمحاصصة الطائفية والاثنية والعرقية. مبادرات لعودة العراق إلى الحضن العربي، وزيارات لدول عربية مؤثرة. ابتعاد عن السياسات الإيرانية واستنكار لتأثيرها في القرار العراقي. لكن القاسم المشترك في كل تلك المواقف السلبية والإيجابية، أنها كانت مجرد كلمات لا أكثر، حتى بات هنالك قول شائع في العراق، هو أن لا تعجبوا ولا تتعجلوا فالسيّد سوف يغير موقفه 180 درجة من اليمين إلى الشمال، أو بالعكس خلال ساعات وربما بضعة أيام.

منذ انطلاقة التظاهرات المناوئة للسلطة في العراق في الاول من أكتوبر/تشرين الأول 2019، التأم شمل بعض أنصار التيار الصدري مع الشباب الثائرين في بغداد، ومحافظات الوسط والجنوب، فشاركوهم الانتفاضة بشكل شخصي، بما يمثلهم كأشخاص، وليس كتيار صدري. ولأن السيد مقتدى الصدر يعتبر نفسه قائدا شعبيا وزعيما جماهيريا، ولانه يعتبر نفسه المحتكر الأول والأخير لتطلعات وآمال وأحلام الطبقات المسحوقة والمقهورة والحراكات الشعبية، فلم يشأ أن يكون هذا الحراك الشعبي بعيدا عنه، فاضطرته مشاركة أنصاره في التظاهرات إلى توزيع بركاته على المحتجين، وزيادة في ممارسة التأثير والاحتواء والتجيير له، دفع بعض عناصره ممن سماهم أصحاب القبعات الزرق، كي يقوموا بحماية المتظاهرين من قوات الأمن، لكن مقتل قائد فيلق القدس الإيراني قاسم سليماني، بعد استهدافه من قبل القوات الأمريكية على الارض العراقية، جعل الفاعل الإيراني يُقلّص مساحة حرية الحركة التي كان يتحرك بها الرجل، وبات الضغط باتجاه إنهاء الاحتجاجات العراقية، التي كانت ترفع شعارات واضحة ضد الوجود الإيراني، خاصة أنها أكلت كثيرا من جرف الحاضنة الشعبية التي كانت الأحزاب السياسية والميليشيات المسلحة القريبة من إيران تدعي احتكار ولائها زورا وبهتانا، فكيف يمكن أن تسمح إيران بهذا المشهد المضاد لها في ساحات التظاهر، وهي في حلقة مواجهة مع الولايات المتحدة بعد مقتل رجلها الثاني؟ هنا حصل اجتماع في مدينة قم الإيرانية، ضم كبار قادة الحرس الثوري وبعض قادة الميليشيات العراقية، وكان السيد مقتدى الصدر أحد الحاضرين في الاجتماع. كان الهدف من هذا اللقاء هو البحث في موضوع إنهاء الوجود العسكري الأمريكي في العراق، تنفيذا للوعد الذي قطعه المرشد الأعلى على نفسه بطرد القوات الامريكية من المنطقة، ردا على مقتل سليماني. ومباشرة أدار الصدر بوصلته داعيا أتباعه من ذوي القبعات الزرق للانسحاب من ساحات التظاهر، وإزاحة المتظاهرين من بناية المطعم التركي، والتعاون مع الأجهزة الأمنية في إعادة الطلبة إلى الدوام المدرسي وفتح الطرق المغلقة بسبب الإضراب، لكن هذا الفعل قلب معادلة الصدر من كبح جماح المتظاهرين إلى زيادة الزخم، وانطلقت الجموع الغفيرة تشارك المتظاهرين، وعلى عكس ما قاله أحد زعماء تياره من أن انسحابنا من التظاهرات لم يبق في الساحات أكثر من مئة شخص. فما كان منه إلا إعادة المحاولة مجددا وبطريقة أخرى، فدعى إلى تظاهرة مليونية بجهد الدولة العسكري والمدني، وبجهد الميليشيات العسكري والمدني، وكلا الطرفين كان الرجل دائما ما يشتمهم ويدعي أنه ضدهم. وتكرر الفشل مرة أخرى بعد أن لم يصل عدد المليونية إلى أكثر من مئتي ألف، وبذلك لم يعد أمامه من وسيلة يثبت بها لصانع القرار الإيراني قوته وصحة المراهنة عليه، إلا أن يندفع لتنفيذ الصفحة الأكثر دموية بقتل المتظاهرين بالذخيرة الحية، وحرق خيمهم وتهجيرهم من الأماكن التي كانوا يتقون فيها من البرد والمطر.

وقد شمل القتل محتجين في بغداد والنجف وكربلاء ومحافظات أخرى، فأعادت إلى الاذهان هذه الحادثة تلك الجرائم البشعة التي ارتكبتها عناصر التيار، تحت مُسمّى جيش المهدي في العشرية الأولى في ظل الحكم الحالي، حيث كان الغوغاء من هذا الفصيل المسلح يمارسون القتل على الهوية في الشوارع والمدن، بحرية تامة. لقد غاب عن وعي الصدر أن القدسية التي ورثها عن عائلته لا يعرفها الكثير ممن هم في ساحات التظاهر، أو ليست ذات أهمية بالنسبة لهم على الأقل. فهم ولدوا بعد عام 2003 في ظل العملية السياسية الحالية، وأن تكوينهم السياسي في ظل أزمات كبرى كالظلم والفساد وسلب الوطن، ونهب ثرواته، والطائفية السياسية، كلها بثت فيهم ردا راديكاليا واعيا، انتقل بهم من حالة التأثر بقدسية الأشخاص والرموز إلى التضحية من أجل قدسية الوطن وليس غيره، ما فتح نافذة كبرى من الوعي أمامهم، كي ينظروا إلى حاضرهم ومستقبلهم، وليس إلى ماضي الشخصيات السياسية الحالية والرموز الدينية. هذه هي النقطة الفاعلة التي دفعت المتظاهرين إلى رفض إملاءات الصدر عليهم، ومحاولاته فرض صيغة احتجاج رفع وخفض منسوبها مرتبط بما تمليه عليه المراجع الدينية التي يقلدها في إيران، والمراجع السياسية التي تطلب منه موقفا سياسيا يتناغم مع مصالحها والموجودة في طهران أو بحساباته الشخصية، وهذه كلها تتقاطع مع الحسابات والمصالح الوطنية.

إن المواقف المتقلبة بشكل فجائي وغير موزون، لا تنطبق بأي حال من الأحوال ومقولة إن السياسة هي في الأساس متقلبة، تبعا للمصالح والتوازنات، ما يتطلب التكيف السريع معها، فيظهر على شكل موقف يتناقض مع موقف آخر من المصدر نفسه. السياسة هي فن الممكن، لكن بمواقف ثابتة لا بد أن تنبع من إدراك علمي واع لمتطلبات ليس اللحظة الآنية وحدها، بل بدراسة عميقة لمتطلبات الحاضر والمستقبل أيضا، بما لا يجعل الحركة السياسية متأثِرة بالحدث بل مؤثرة فيه. لقد أطلق الصدر النار على قدميه حينما أطلق العنان لغوغائه بقتل المتظاهرين السلميين، الذين طالما تغنى بهم وبمعاناتهم، التي يقول إنه يتقاسمها معهم ويشاركهم فيها. وبسرعة فائقة نسي مقولته من أن (حريتكم بيد الفاسد، فإن أردتم أن تكونوا أحرارا في وطنكم عليكم التخلص من الفساد والمفسدين)، فحاول تحويل بوصلة الاحتجاج من موقعها ضد السلطة الفاسدة، إلى خدمة الأجندة الإيرانية في الصراع الدائر مع واشنطن. فما كان رد المتظاهرين إلا إفشال ادعاءات الرجل بأنه قائد جماهيري، بل تبيان كيف أنه يتلاعب بالمفاهيم الوطنية ومستقبل العراق، وكل ذلك ستكون نتيجته إن عاجلا أو آجلا انفضاض الكثير من جماهيره عنه.

وسوم: العدد 863