الغرب ليس “الخواجة بيجو”!

وبينما كان “الباص”، الذي ينقل عدداً من المراسلين الأجانب، بقيادة الفيلق “راندا أبو العزم” مراسلة قناة “العربية” عن عمر يناهز سبعين سنة ميلادية، يقف أمام السجن، كان صوت المذيع يعلن عن استقبال أحد السجون للوفد، ومن قنوات سماها بالاسم، مثل “روسيا اليوم”، و”الحرة”، و”العربية”، بطبيعة الحال!

ومن الواضح أن هذه الجولة المباركة، لم تكن فقط في السجن، ولكنها شملت مستشفى نقل إليه زميلنا محمود حسين الصحافي في قناة الجزيرة، بينما المذيع يعلن أنه مراسل لواحدة من القنوات، التي تهاجم مصر، وتتحدث عن الأوضاع السيئة للسجون، وإن لم يسمها، حتى لا يساهم في الترويج لقناة الأعداء!

في الفيديو، الذي أذاعته قناة وزارة الداخلية على اليوتيوب، تمددت مراسلة “العربية”، فهي من أدارت اللقاءات، بينما لا حس ولا خبر للمراسلين من القنوات الأخرى، فـ”أبو العزم” هي من فازت باللقاء مع زميلنا محمود حسين، وقد تحدث عن حُسن معاملته في السجن، فنصبت “العربية” لهذا الاعتراف “فرح العمدة” باعتبار أنه يمثل تكذيبا لما تبثه “الجزيرة” عن أوضاع السجون السيئة!

تدرك “العربية” أنه ليس بمقدورها تحقيق انتصارات استراتيجية وكبيرة، لذا فإنها تهتم بالانتصارات الصغيرة المؤقتة، التي يزول أثرها في اليوم التالي، ولا ننسى تغطيتها الفضيحة للمحاولة الفاشلة للانقلاب في تركيا، حيث ظلت ليلة كاملة تبث الأكاذيب وتؤكد نجاح الانقلاب، وتقرأ بيانات أصدرها العسكر المنقلبون، كما تؤكد هروب أردوغان، وفي الصباح تبين أن كل ما أذاعته هو أمنيات، بما في ذلك البيان العسكري، الذي لم يثبت إلى الآن أن الانقلابيين هم من أصدروه، ولم تعتذر لمشاهديها عن هذا التضليل الذي استمر ليلة كاملة، والذي شاركتها فيه “سكاي نيوز عربية”!

وعدم الاعتذار له ما يبرره، فلو ظلت “العربية” تعتذر في كل مرة عن تضليلها للمشاهد، لكان الاعتذار فقرة يومية فيها، ولهذا فهي لا تكترث كثيراً بما يشغل الإعلام الجاد، لأن رسالتها تقوم على المكايدة، والتضليل، والابتعاد عن الحقيقة!

الهزيمة في “موقعة محمد فهمي”

يعتقد أولياء الأمر في قناة “العربية”، أنهم بالترويج لاعتراف زميلنا محمود حسين، الذي يشيد فيه بوضعه كسجين، إنما ترد الاعتبار لنفسها ولأصحابها للهزيمة في “موقعة محمد فهمي”، المراسل السابق لقناة “الجزيرة” الإنكليزية، الذي اضطر لسحب دعوى قضائية رفعها ضد شبكة “الجزيرة”، وذلك لأنه يدرك أن جلسات المحاكمة ستكون فرصة مناسبة لمحاكمته ومحاكمة من يقفون خلفه، وقد صارت فضيحة يتغنى بها الركبان، بعد الوثائق التي نشرتها إحدى المجلات عن تعامله مع أحد المسؤولين الإماراتيين حول هذه القضية!

لقد بحثت “العربية” عن انتصار سريع، فكان في رحلة مصلحة السجون، وفي اعتراف محمود حسين بأنه يتلقى معاملة جيدة في السجون، وإذا كانت “العربية” مدفوعة بالغرض، فما الذي يدفع مصلحة السجون للقيام بهذا العمل، الذي لن يصدقه أحد، والتي لا نعرف هل هي رسالة للخارج، الذي يتحدث عن سوء أحوال سجون المصرية، أم هي رسالة للداخل لن يصدق هذه الدعاية أبداً، تماما كما أن الغرب ليس هو “الخواجة بيجو”، في برنامج “ساعة لقلبك” على الإذاعة المصرية زمان، والذي كان يتلاعب به “أبو لمعة” بأكاذيبه!

بيد أن هذه المحاولة للرد على ما ينشر عن السجون المصرية، تأتي في سياق فقرات الدعاية، فلم تكن جولة المراسلين الأجانب، بقيادة “راندا أبو العزم” هي الأولى وإنما سبقتها جولات أخرى كان أولها لما يسمى بالمجلس القومي لحقوق الإنسان، عندما رأينا الحقوقي حافظ أبو سعدة يتذوق طعام السجن، مقلدا بذلك ربما بدون وعي منه، مشهداً ساخراً وفكاهياً صاغته الدراما المصرية، ثم كانت الزيارة التالية، التي تشرح القلب لأحد السجون، ورأينا فيها مطاعم لا توجد في الفنادق الكبرى، وكأنه مطلوب من السجن أن يكون منتجعاً ليقضي فيه الأثرياء إجازاتهم الصيفية!

وفي تقديري أن هذه الرحلة، تشبه إلى حد كبير حالة التوتر التي كان عليها النائب العام وأحد أعضاء مجلس العسكري، ووزير الداخلية، وهم في فزع لأن النيابة العامة (التابعة للنائب العام) ستعاين مقر احتجاز الرئيس محمد مرسي، ولأنه قاعدة عسكرية وليس من أماكن الاحتجاز المنصوص عليها في القانون، فإن النائب العام طلب أن يصدر قرار ينشر في الجريدة الرسمية بتاريخ قديم، ينص على أنه من أماكن الاحتجاز، وأن تعلق على بوابته لافتة تشير إلى هذا المعنى، وبدا القوم في فزع لافت، على النحو الذي ورد في التسريبات التي اذاعتها قناة “الجزيرة”، فانزعج “عراب الانقلاب” الأستاذ هيكل لانزعاجهم، وعلق ماذا هناك يدعو للانزعاج؟ كان يمكن أن نقول إننا أمام اجراء استثنائي، اضطررنا معه لوضع الرئيس المعزول في قاعدة حربية للحفاظ عليه، فقد كان رحمه الله تعالى خبرة في التحايل، وهو الذي اختار الاسم الشيك لقانون تأميم الصحافة المصرية ومصادرتها في زمن الزعيم خالد الذكر ليكون “قانون تنظيم الصحافة”!

ولا أقصد بذلك أنه يمكن تقديم هذا الدفع “الحالة الاستثنائية” أمام الاتهام بسوء الأوضاع في السجون المصرية، فهذا اعتراف بجريمة، ولكن ما أقصده هو أنه نظراً لأن أحداً لن يصدق كل هذه “البروباغندا”، فكان ينبغي تجاهل الرد، لا سيما وأنه لا توجد ردوداً تصلح في هذا الجانب، غير قرار ثوري بإصلاح أوضاع السجون، ما دامت النية معقودة على تصدير صورة إيجابية للغرب، وتقديم محمود حسين على أنه يستمتع بخلوته في السجن، حيث يجد الرعاية الصحية التي كان محروماً منها في الخارج!

لنأتي هنا إلى “بيت القصيد”، و”مربط الفرس” حول القيمة المهنية لما قامت به “راندا أبو العزم” مع زميل لها؟ وما هو الثمن الذي يمكن أن تتقاضاه مقابل هذه الخروج على مقتضى الواجب المهني، ومخالفة قيم مهنة الإعلام، ثم هل تنتظر أن تعيش أكثر مما عاشت لتستمتع بالثمن وهي في عمر يقارب عمر الرئيس حسني مبارك، ولم تنظر إلى حالة “محمود حسين” فتشفق عليه وهو في عمر أبنائها، إن سقطت قيم المهنة وواجبات الزمالة!؟

السوابق التاريخية

إنه لقاء يعود بنا إلى مراحل سابقة في التاريخ المصري، عندما كان الحاكم المستبد لا يكتفي بسجن خصومه ظلماً وعدوانا، وإنما يمارس معهم قهر الرجال، وقد بدأت هذه اللقاءات في زمن خالد الذكر، واعتذر عنها بعد ذلك الإعلامي حمدي قنديل، وقال إن حماسه للعهد الناصري دفعه لأن يقبل أن يحاور السجناء من الإخوان، ويغلظ عليهم، دون أن ينتبه إلى حالتهم البائسة، وأنه يعتذر عن هذا كله، وقد أعلن شهادته قبل الثورة، ثم سجلها في مذكراته التي صدرت قبل وفاته مباشرة!

وفي بداية عهد السادات، كان برنامج “ندوة للرأي” الذي قدمه المذيع “حلمي البلك”، وهو فكرة وزير الداخلية حسن أبو باشا، وكان عددا من شيوخ الأزهر ينتقلون للسجون أو لمقر مباحث أمن الدولة لمناقشة أفكار السجناء من المنتمين للجماعات الإسلامية، وكنا كمشاهدين نشعر بأن فيها الحرية اللازمة لطرح الأفكار ومناقشتها!

مرة واحدة كانت الأمور تبدو وقد غلبت عليها طبيعة الإدارة الأمنية، فقد استدعوا أحد الأشخاص الذي قدموه على أنه تلميذ الشيخ عبد الله السماوي، ليقوم بتشويهه ووقف الرجل وهو يهتف لن أرد على مثل هذا.. لقد جئتم بي إلى هنا لتشويهي، وكان الشيخ الأزهري الذي يحاوره هو الدكتور عبد الغفار عزيز، الذي انتخب عضواً في البرلمان عن حزب “الوفد”، بعد ذلك، وعندما تقرر الخروج بما سمي بالمسيرة الخضراء من مسجد النور في العباسية للقصر الجمهوري تطالب مبارك بتطبيق الشريعة، وكانا في يوم جمعة والدكتور عبد الغفار يستعد لصعود المنبر، أمسك به “السماوي” وطالبه بالاعتذار عن مشاركته في برنامج يستهدف تشويهه وهو قيد الحبس، واعتذر الرجل على الملأ، وقال إنه بعد هذه الحلقة لم يشارك مرة ثانية.

وكان هناك من علماء الأزهر من اعتذروا لوزير الداخلية عن المشاركة في نقاش مع سجناء لا يملكون حريتهم، مثل الشيخ صلاح أبو إسماعيل!

فالمقابلة التلفزيونية التي تجرى مع سجين، تدخل في باب الحرام المهني، الذي ارتكب مع زميلنا “محمود حسين”، بواسطة “راندا أبو العزم” واحتفت بها قناة “العربية”!

لا بأس، فـ “محمود حسين” يجد عناية فائقة داخل السجن، وأنه يلتقي بأسرته كل شهر، ويعيش منعماً مترفاً، فما هي قضيته على وجه الدقة!

لقد تم القبض عليه قبل ثلاث سنوات، ومن يومها وهو معتقل بدون محاكمة، ولم يجرؤ القوم على تقديمه لمحاكمة يتوافر فيها الحد الأدنى للعدالة، لأن الاجماع منعقد على أنه لا جريمة ارتكبتها يستحق عليها السجن ولو لساعة واحدة، وهو الذي يجري له تمديد الحبس الاحتياطي، فلما استنفذ المدة بالسجن سنتين، وتقرر اخلاء سبيله على ذمة المحاكمة، فوجئ بقرار جديد بحبسه على ذمة قضية جديدة، جرت وقائعها وهو داخل السجن، ليمكث سنة جديدة بدون أن يقدم للمحاكمة!

سجونكم خمسة نجوم، وأنتم أرحم بمحمود حسين من نفسه، فلماذا هو في السجن الآن؟ الجديد أن تلتقي به “راندا أبو العزم” في جولة أخرى، فيعترف لها بأنه مسجون بمحض اراداته ويرفض الخروج!

هل تريدون الضحك على الغرب؟ فهل الغرب هو “الخواجة بيجو”؟!

وسوم: العدد 864