قميص “رونالدو”.. باللغة العربية

 لم يتح لي أن أشارك هذا العام في الاحتفال بـ»يوم اللغة العربية»، كانت الجهة التي أعمل بها تستضيف علماً من أعلام اللغة لتكريمه، وإلقاء بعض البحوث المتعلقة، وكان من المقرر أن يكون التكريم هذا العام للعالم الأديب الكبير سعد مصلوح، أطال الله عمره، ولكن عذراً طرأ فلم يتمكن من الحضور، وجدّت ظروف أخرى فتأجل الاحتفال إلى موعد آخر.

لفت نظري خبر يتعلق باللغة العربية في مجال كرة القدم؛ فقد استضافت مدينة الرياض مباراة السوبر الإيطالي بين نادي يوفنتوس الذي يضم اللاعب البرتغالي الشهير «رونالدو»، ونادي لاتسيو على ملعب الجامعة، قررت إدارة يوفنتوس أن يرتدي لاعبوها في المباراة قمصاناً مكتوباً عليها أسماء اللاعبين باللغة العربية، وطلبت إدارة يوفنتوس من شركة «أديداس» المعروفة تصميم هذه القمصان بمساعدة الفنان والخطاط السعودي المغربي شاكر كاشجري الذي كتب أرقام اللاعبين وداخلها كلمة يوفنتوس باللغة العربية إلى جانب أسماء كل لاعب، كانت المرة الأولى التي يلعب فيها فريق إيطالي أو أوروبي وأسماء لاعبيه مكتوبة باللغة العربية على قمصانهم.

أفادت إدارة يوفنتوس أنها قررت ذلك احتراماً للغة العربية، حيث أقيم السوبر في أرض عربية بعد أربعة أيام فقط (22 ديسمبر 2019م) من الاحتفال باليوم العالمي للغة العربية، وكان لذلك رد فعل قوي على المستوى الشعبي والثقافي، صبّ في صالح اللغة العربية، لغة البلاد والقرآن الكريم، فتحظى بالاحترام والاعتزاز لدى أهلها أكثر من يوفنتوس وتكتب أسماء لاعبيها باللغة العربية.

رأى بعض الناس أن إدارة يوفنتوس كانت تسعى لمزيد من الأرباح دون أن يعنيها أمر اللغة العربية احتراماً أو تقديراً، فقد طرحت قمصان يوفنتوس المكتوب عليها أسماء اللاعبين باللغة العربية في الأسواق، وأقبل عليها الجمهور إقبالاً عظيماً، وتم بيع أعداد كبيرة، ولم يقف سعرها الغالي جداً حائلاً دون شرائها، خاصة قميص النجم الشهير «رونالدو».

المفارقة أن شباب أمتنا العربية يرتدون قمصاناً وسترات وسراويل مستوردة عليها صور تحتها أو فوقها أو حولها ألفاظ أجنبية، وقد يكون بعضها غير لائق، ومن يرتدي القميص أو السترة أو السروال لا يدري عنه شيئاً، بل إن بعض المصانع العربية كي تبيع منتجاتها من هذه الملابس تُؤْثر اللغات الأجنبية ولا تلقي بالاً للغة العربية، ولكن «بركات» رونالدو حلّت على اللغة العربية، فتهافت الناس على قميصه العربي وقمصان رفاقه العربية، ولعل ذلك يكون فاتحة خير لأمتنا وهي تستعيد هويتها العربية الإسلامية، من خلال اللغة القومية التي لقيت إهمالاً جسيماً من بعض أبنائها، وزراية مقيتة من بعض مسؤوليها ومثقفيها وفنانيها، حيث يخطب بعضهم أو يكتب أو يؤلف أو يغني بلغات أجنبية، أو بلهجة عامية، أو بعربية ركيكة قبيحة.

بالطبع عارض بعض الإيطاليين ما فعله يوفنتوس، مؤكدين أن إقامة السوبر في بلد عربي لا تعنى تخليه عن هويته الإيطالية وقمصانه التقليدية بعراقتها وتاريخها، ورد النادي بأنه يرغب أن يتقرب من مشجعيه في أنحاء العالم المختلفة.

مهما يكن من أمر، فنحن مدينون بالشكر لنادي يوفنتوس الإيطالي الذي أعاد إلى الساحة الثقافية الميتة قضية الاهتمام بحياة اللغة العربية ومستقبلها، بعد أن أشبعت إدانة ورفضاً من بعض مشاهير أهلها وغيرهم في مجالات الفكر والكتابة.

الدعوة إلى العامية

لقد دعا مستشرقون وأجانب وعرب إلى تطوير اللغة العربية الفصحى وتيسيرها في التحدث والكتابة والإنتاج الأدبي والعلمي عن طريق اصطناع العامية أو اللهجة الدارجة، وادعى بعضهم أن التعبير بالعامية لا يمثل مشكلة، وأنه مجرد تعبير يجاور اللغة الفصحى، والمسألة ليست بهذه البساطة؛ فهي منهج يكشف عن إرادة غريبة لتغيير هوية المجتمع، وتكريس وضع ثقافي جديد، يتخالف مع السياق الذي تعيشه الأمة، وتسعى للتقدم من خلاله.

ولهذا لم يكن مستغرباً أن تظهر الدعوة إلى العامية، ويشتد اللغط حولها، كلما بدت بوادر يقظة الأمة ونهوضها، واستعدادها لمواجهة المحتل وأتباعه، ولم يكن مستغرباً أيضاً أن تتوافق بدايات الدعوة إلى العامية مع بداية الاحتلال البريطاني لمصر منذ «ولهلهم سبيتا»، و«كارل فولرس» الألمانيين، ومجلة «المقتطف»، حتى السير «ويليام»، و«دنلوب»، و«سلدن»، وعبدالعزيز فهمي، وسلامة موسى..

والمفارقة أن الدول والجماعات التي حققت نجاحات على المستويات الاقتصادية أو السياسية أو القومية الاستيطانية؛ كانت حريصة على لغتها الأصلية، ولم تنظر إلى اللغة بوصفها عائقاً من عوائق التقدم في حياتها، ولكنها نظرت إليها بوصفها دافعاً من دوافع التقدم وإذكاء الروح القومية أو الدينية لتحقيق الأهداف الكبرى لهذه الدول أو الجماعات.

فاليابان مثلاً بعد هزيمتها الساحقة في الحرب العالمية الثانية، واستسلامها لأمريكا والحلفاء، لم تفرط في لغتها، وكان هناك اتجاه لاختصار عدد المفردات التي يتعلمها الطلاب في اليابان تحت دعوى تيسير اللغة والتفاعل مع المنجزات الحضارية الحديثة، ولكن المجلس الأعلى المختص بهذه المسألة قرر مضاعفة العدد الذي يتعلمه الطلاب من مفردات اللغة اليابانية، ولم يؤثر ذلك على مسيرة اليابان الاقتصادية أو الاجتماعية أو الحضارية، بل صارت اليابان عملاقاً يتحدى مستعمريه وغالبيه، وفي الصين الشعبية، رفض «شو إين لاي»، رئيس الوزراء الأسبق، اقتراحاً لكتابة اللغة الصينية بالحروف اللاتينية، مع صعوبة اللغة الصينية الشديدة، وكانت حجة «شو إين لاي» الشيوعي هي الحرص على التراث الصيني!

بعث اللغة العبرية

اتفقت الجماعات اليهودية التي جاءت من شتى أنحاء العالم، وكانت تتكلم لغات مختلفة، واستوطنت بالاحتلال فلسطين العربية المسلمة، اتفقت على بعث اللغة العبرية بعد أربعة آلاف سنة، لتكون لغة خطاب، وإنتاج أدبي، وبحث علمي، وبعد ذلك لغة رسمية على المستوى العالمي للدولة العبرية الغاصبة، وقد عمل من أجل ذلك يهود من أصول مختلفة وجنسيات عديدة، قبل قيام الدولة العبرية وبعده.

وقد جاءت النصوص التالية في كتاب «في الفكر اليهودي» المطبوع في مصر عام 1938م، والصادر عن دار مجلتي للطبع والنشر:

- «إن معرفة اللغة العبرية هي المحور الذهبي الذي يدور حوله كياننا القومي والديني، فاللغة العبرية الهابطة من جبال الأبدية، قد اختارها الله تعالى لنشر الحقائق» (ساباتو مورايس، يهودي أمريكي من أصل إيطالي 1879م).

- «طالما سنظل يهوداً، وطالما سننادي بأن التوراة كتابنا، يجب أن نقدس اللغة التي كتبت بها، تقديساً لا حد له» (موريس جوزيف، يهودي إنجليزي 1907م).

- «اللغة العبرية هي الخزائن التي أودعنا فيها كل نفيس من حياة إسرائيل الروحية» (سمولنسكين).

ويفرض اليهود في فلسطين المحتلة على كل مهاجر يهودي جديد إليها، أن يتعلم العبرية في خلال 6 شهور، وإلا انقطعت عنه المعونة التي تمنح للمهاجرين، وحرم من حق التوظيف والعمل في إدارات الدولة الغاصبة ومصالحها، وفضلاً عن ذلك، فقد صارت لغة التعليم في المراحل كافة هي العبرية وتستوي في ذلك الفنون الأدبية أو العلوم التطبيقية (الطب والهندسة والكيمياء والفيزياء.. إلخ).

موسى والتأخر اللغوي

وإذا كان الاهتمام باللغة القومية على هذا النحو لدى الوثنيين والشيوعيين واليهود، فإن نفراً من بني جلدتنا يرون أن الدفاع عن اللغة العربية في بلادنا جمود ورجعية ومصالح طبقية وفتنة طائفية!

فسلامة موسى مثلاً يزعم أن اللغة العربية، أو تأخرنا اللغوي، من أعظم الأسباب لتأخرنا الاجتماعي! ويهاجم الذين يتمسكون بالعربية، ويرى فيهم باعثين للأمس، ويتمنى لو أنهم دفنوا هذه اللغة التي يحاولون بعثها، ويؤكد موسى أن الدعوة إلى لغة عصرية هي من صميمها دعوة إلى المعيشة العصرية، ويحمل على عباس العقاد الذي يؤلف عن خالد بن الوليد، أو حسان بن ثابت، ويرفض دعوة الاشتراكيين إلى ما يسميه اللغة العامية، ويرى أن العقاد سلفي، و99% من كتابنا سلفيون، وهذه السلفية في رأيه نتيجة لحرمان الأمة من الرقي الصناعي، واقتصارها على الزراعة، وعرقلة كل تقدم صناعي، لأن المجتمع الصناعي كان جديراً بأن يحدث مجتمعاً مستقبلياً، يكتب مؤلفوه بلغة الشعب، وتنتقل اهتماماتهم من التأليف عن قدماء العرب إلى التأليف عن مشكلاتنا العصرية في الأخلاق والتعليم والاقتصاد ومكافحة الفاقة، ثم يقول: «وإني بالطبع لا أغفل هنا ارتباط اللغة بالتقاليد والعقائد، وأن هذا الارتباط من أسباب الكراهة للتطور اللغوي».

لقد سخر موسي من خريجي دار العلوم، وعدهم طبقة تدافع عن مصالحها الاقتصادية من خلال التمسك باللغة العربية (سلامة موسي، البلاغة العصرية واللغة العربية)، ولكنه لا يكتفي بذلك، بل يدعو إلى لغة حسنة (كيف؟)، ويرفض فن البلاغة العربية لأنه فن عاطفي لا يخدم التفكير الحسن، وبعد دعوات ومطالب عديدة تصب في هذا السياق، يصل إلى مطلبه الأخطر والأعظم، وهو «اتخاذ الخط اللاتيني، يحمل الأمة إلى الأمام مئات السنين، ويكسبها عقلية المتمدنين، ويجعل دراسة العلوم سهلة، وهو خطوة نحو الاتحاد البشري» (سلامة موسي، البلاغة العصرية واللغة العربية، ص 188).

لعل المواقف والأقوال السابقة التي عبر عنها اليابانيون والصينيون واليهود الغزاة تمثل رداً عملياً على مقولات الداعين إلى العاميات وإهدار العربية الفصحى لحسابات لا تخفى على من يتابعون المسألة منذ قرن ونصف قرن تقريباً، ومن المؤكد الآن أن هذه الجهات التي تعتز بلغاتها صارت من أقوى الكيانات السياسة والاقتصادية في عالم اليوم، ولم تحل لغاتهم دون بناء كياناتهم القوية أو الأقوى.

لقد عالجتُ جوانب هذه المسألة في بعض كتبي باستفاضة وأعود اليوم للتذكير بها؛ لأن التخلي عن لغتنا الجميلة خطر عظيم.

إن الاحتفال بيوم اللغة العربية يعيدنا إلى التذكير بها بوصفها مكوناً رئيساً من مكونات هويتنا وسجل حضارتنا وعماد مستقبلنا، وشكراً للمناسبة التي جعلت قميص "رونالدو" المكتوب باللغة العربية يسهم في إعادة طرح المسألة بصورة أوسع وأكثر جماهيرية.

وسوم: العدد 866