ونفر من قدر الله إلى قدر الله ، وندفع الأقدار بالأقدار ..

زهير سالم*

وأشكل على البعض : كيف يقال إن فيروس كورونا جند من جند الله !! وإذا كان الفيروس كذلك فكيف نقاومه وندفعه ، وجند الله دائما هم الغالبون ؟! ( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ )..

إن المشكلة الأساسية في هذا الاعتراض هي في فهم المصطلح ودلالته ؛ فكيف نفهم من هم جند الله حين نتحدث عنهم على مستوى العقيدة الإسلامية ، وللحديث بلغة علم العقيدة قواعده وآفاقه ، وكيف نفهم الدلالة عند الحديث بلغة علم الشريعة ، ولعلم الشريعة والفقه قواعده وآفاقه .

حين نتحدث عن "جند الله " في علم العقيدة ، نتحدث عن الملائكة بأسمائهم وبأوصافهم ، وبأدوارهم ، وفي حقائق وجودهم ؛ حتى قال قوم من المتكلمين الذين يعتد بقولهم من أئمة المسلمين إن " النواميس الكونية " و " العلل السبيية " كلها جند من جنود الله . وفي لغة بعضهم ومنهم الإمام أبي حامد الغزالي رحمه الله أن النواميس والأسباب التي يدور عليها الكون بقيومية قيوم السموات والأرض القائمة على كل شيء . ربما كانت نوعا من الخلق الملائكي الذين لا يعصون الله ما أمرهم . فإذا عقدت إصبعك معي على هذا ، في فهم معنى قوله تعالى ، وما يعلم جنود ربك إلا هو ، في الرد المباشر على من أنكر أو استخف بقوله تعالى قبل آيتين في وصف دار البوار ( عَلَيْهَا تِسْعَةَ عَشَرَ ) فاذهب معي إلى ساحة أخرى من علم الدلالة تتمثل في قوله تعالى ( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ )

فالدلالة المقتنصة من تسمية الجند في هذه الآية تختلف كليا عن المقتنصة عن تلك ، بل ربما يكون بينهما علاقة خصوص وعموم ، كما سأصير إليه بعد قليل .

" جند الله " المومى إليهم في قوله تعالى ( وَإِنَّ جُندَنَا لَهُمُ الْغَالِبُونَ ) هم الذين يمكن أن نتحدث عنهم بلغة " جند الله ثقافة وأخلاقا " . ورحم الله الشيخ سعيد حوى ..

إذن مفهوم الحديث عن " جند الله " على مستوى العقيدة ، غيره على مستوى الشريعة ، ومن خلّط فقد خلّط !!

وأرسل يسألني إذا كان الفيروس من جند الله فكيف يقاومه ؟!

على مستوى العقيدة عندما نقول : إن الفيروس أو الوباء جند من جند الله يمكننا أن نكمل فنقول وإن الدواء أو الشفاء أيضا جند من جند الله . وبغير هذا سيكون الفهم العقيدي قاصرا أو مبتورا . وفي صحيح البخاري " ما أنزل الله من داء إلا أنزل له شفاء" .

فإذا صحح المفهوم من قولنا " جند الله " بطل الاعتراض ..

كثيرون ينسبون إلى عقائد المسلمين ونفسياتهم " القدرية " و" التواكلية " وإدارة الظهر لعالم الأسباب أو عالم الفيزياء .، وقد يكون هذا واقعا مجتمعيا غالبا لا يمكننا إنكاره ، ولكن هذا ليس هو الإسلام لا عقيدة ولا شريعة ..

وهنا نقطتان أحب التنبيه عليهما :

الأولى : عندما تقرأ في كتب التراث الإسلامي القديمة مصطلح " قدرية " و" قدري " فاعلم أن المقصود فئة من الناس قالت بنفي القدر . وأنه لا قدر . وأن الأمر أنف . وأن الإنسان هو الخالق لأفعاله ، وهو فهم للمصطلح بغير ما يقصد به هذه الأيام حيث نقول الروح القدرية ، والتواكل القدري ، ونقصد أقواما من أهل الجبر اعتقدوا أنهم بين يدي الأقدار مثل الخشبة الطافية على سطح الماء !!

النقطة الثانية : وهو أن فهم عقيدة الإسلام الوسطية في الموازنة بين عالمي الجبر والاختيار دقيقة ، وإيجابية ، تجمع إلى طمأنينة التوكل الحفز إلى المبادرة والفعل .

في الإسلام وحده تسمع الوصية : اعقل وتوكل ..

عند المسلمين وحدهم تسمع عمر بن الخطاب يقررها واضحة صريحة في الفرار من الطاعون والحيطة بالأسباب : نفر من قدر الله إلى قدر الله ..

عند المسلمين وحدهم تسمع سيد الطائفة من المتصوفة الباز الأشهب السيد عبد القادر الكيلاني قدس الله سره ، يرد عن عقيدة أهل السنة والجماعة برفعه شعار : دفع الأقدار بالأقدار . وإن لم تقرأ كتيّب فتوح الغيب له ، فما قرأت ..

فقط أنا وأنت وربما غيرنا من المكلفين يمكن أن نكون جند الله بالدلالتين ، فنكون جند الله الطائع الحر المختار ، الذين يجب أن نتحلى بعمق الثقافة ، ورقي الأخلاق ..ونمتلك الإرادة إلى المبادرة ، والفعل والإنجاز ..ونكون في الوقت نفسه جند مولانا المسخرين ، ندرك في اللحظة نفسها أننا لا نفعل وإنما اختارنا مولانا ليفعل على يدنا ، ثم يكرمنا فيخبرنا : ( فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَمَا رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَلَكِنَّ اللَّهَ رَمَى )

وقبل أن أختم أحب أن أوضح أن جند الله إذا كانوا الملائكة فكما فيهم مالك خازن النار فيهم رضوان الذي يستقبلنا جميعا على باب الجنة إن شاء الله . وفي الملائكة أيضا الرقيب الحاضر يحصي علينا ، وفيهم الحفظة الذين يحفظوننا من أمر الله ( لَهُ مُعَقِّبَاتٌ مِّن بَيْنِ يَدَيْهِ وَمِنْ خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ )..

إن قلت فيروس كوفيد 19 جند من جند الله فستقول بلا شك إن دواءه المحفوظ في علم الله برسم إحاطة البشر به ، هو أيضا جند من جند الله . ندرك الآن دلالة قوله تعالى ، ( وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء ).

نحن كواقف في صيدلية دواؤه على أحد أرففها ولكنه لا ..

اللهم يسرنا لليسرى

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 869