قانون الفراشة والتايفون

د. خالص جلبي

في مارس 2011 م اندلعت الثورة السورية. كنت في مونتريال مع بدايات الحريق، حين قدمني إبراهيم الحلوبي للتحدث إلى حفل كبير يريد معرفة مآلات الثورة السورية. قلت لهم أرقام الضحايا سوف تقفز إلى الحافة المليونية. وضع الكثير أيديهم على أفواههم من النذير. معرفتي بالنظام السوري قديمة تعود إلى نصف قرن ويزيد. إنه أداة مارس، إله الحرب عند الرومان. إنه يحسن شيئا واحدا اسمه القتل، القتل الممنهج والمعمم، يقتل الإنسان والزمان والمكان والمعنى والبيئة والعلم والأخلاق.

قلت لصديقي محمد الجلي ما حصل في سوريا يخضع لقانون الفراشة والتايفون. وتنزيل هذا الكلام أن الشعب السوري لو قطع الطريق على الانقلاب الدموي عام 1963م لوفر على نفسه مذبحة حماة، التي نقلت إلى المقابر 40 ألفا من سكانها. وإذ سكت السوريون عن مذبحة حماة كان عليهم أن يدفعوا الثمن مع ثورة 2011م بكلفة 400 الف ضحية. وإذ سكت العالم عن دماء السوريين تسيل وهو يرمقها بعيني ضفدع، كان على العالم أن يدفع الثمن في كل أرجائه. ذلك أن العالم الذي نعيش فيه يمثل وحدة متداخلة، وما ربك بظلام للعبيد.

يوجد مصطلح في علم الرياضيات اسمه «تأثير الفراشة butterfly effect»، ويعطي العلماء شرحا بسيطا لهذا المصطلح المبهم فيقولون: «ترفرف الفراشة في سان فرانسيسكو فيندفع التايفون في بحر اليابان». بالمناسبة كان التايفون في الاجتياح المغولي، الأداة التي أغرقت جيش قوبلاي خان المغولي بـ3200 سفينة و140 ألف مقاتل.

ولشرح هذا المصطلح الرياضي نقول: «إن العالم كتلة واحدة وأي شيء يحصل فيه يؤدي إلى ولادة شيء ثان، في مكان ثان، في زمان ثان، لا نعرف حقيقة حجمه وقوته». السؤال هل يولد بدوره تأثيرا ثانيا يقود إلى سلسلة مؤثرات أخرى؟ الجواب نعم، فالعالم الذي نعيش فيه كيان مذهل متداخل من المؤثرات والتأثيرات والأفعال وردود الفعل، لأشياء حصلت في الماضي، وتترك صدى في الحاضر، كتلته متداخلة، وتقدر على شكل هيكل رياضي بحت.

هناك محاولة ما يسمى (أنمذجة) العالم الذي نعيش فيه، ما يسمى في علم الرياضيات بـ«simulation»، أي (المحاكاة)، بمعنى أن نعمل برنامجا يحاكي الواقع، ولكن بنموذج رياضي بحت، وتكون المدخلات إلى العملية كل العوامل التي تحيط بظاهر الحدث، ونحول المخرجات بعد ذلك في صورة أرقام مجردة، ويمكن حل المشاكل المستعصية في معادلات من أرقام.

وحول فكرة التأثير والتوازن يقولون إنه لو حطت ذبابة على طرف حاملة طائرات؛ فهي تحدث اضطرابا في التوازن، ولو كان تافها للغاية، ولكن المشكلة في قياس هذا الخلل، وحاليا تم تحديد وزن الإلكترون والبروتون ونعرف حاليا أن البروتون أثقل من الإلكترون

بـ1830 مرة.

وفي التاريخ ذكرت أحداث سخيفة لا تصدق قلبت مجرى التاريخ، مثل مرض زينييف في صراعه مع ستالين، وعضة قرد لملك اليونان، أو أنف كليوباترا الجميل، وهيام أنطوني بها، أو حتى انهيار سد الصين الحجري بحب امرأة. وفي عالم النفس ينطبق نفس قانون تأثير الفراشة، فهناك أحداث بسيطة تغير مجرى حياة كل منا في كل زاوية.

وفي عام 1562 ظهر كتاب عجيب بعنوان «العبودية المختارة» لشاب عمره 28 سنة، هو «أتيين دي لا بواسييه»، نشره الفيلسوف الشكاك «مونتانييه» منقوصا على خجل وتخوف، ولم تطبع النسخة الكاملة له إلا بعد 170 سنة، أما في العالم العربي فلم ير النور، أو يترجم إلا بعد مرور 430 عاما. وعندما وقع الكتاب تحت يدي وكان بطبعة ركيكة، ظننت بادئ ذي بدء أنه مثل كتاب «العبودية» لابن تيمية، وكنت في الطائرة إلى كندا، فتصفحته بسرعة فذهلت لمحتواه، وقلت إن كتابا كهذا يجب أن يدرس مثل دراسة الكود الوراثي لفيروس تحت المجهر الإلكتروني. وهكذا عكفت على دراسته جيدا، لأرى عالما مذهلا اكتشفه الرجل. فقد فكك جسم الطغيان، وفهم آلية عمله كما يدرس طلاب الطب الفيزيولوجيا، وعرف كيف يؤثر الطغيان على المجتمع ونفسية الأفراد فيخرج من صلبه عبدة الطاغوت، ليصل في النهاية إلى وضع وصفة الخلاص منه.

والكتاب أكثر من مهم، ويجب أن يقرأه كل مواطن عربي حتى يتخلص من السحر الحالي؛ ذلك أن وضع المواطنين العرب يذكر بقصة فرعون والسحرة وماذا فعلوا بالناس (فاسترهبوهم وجاؤوا بسحر عظيم).

في الفيزياء وتحت (أثر الفراشةButterfly effect) يجب ألا نستخف بدبيب نملة أو طنين نحلة. وضرب القرآن مثلا للناس في الذباب والبعوضة، ولو طنت فراشة في منغوليا قد يحدث إعصار في (سان فرانسيسكو)، لأن الكون وعاء واحد، يقوم على سلاسل سببية لا نهائية، من عناصر شتى تتبادل التأثير.

ومن قبل ظن اليهود والنصارى أنهم استثناء من القانون الإلهي «وقالت اليهود والنصارى نحن أبناء الله وأحباؤه قل فلمَ يعذبكم بذنوبكم بل أنتم بشر ممن خلق؟». وكان الطاغية (تشاوتشيسكو) في طهران، قبل موته بأربعة أيام، فسئل عن الرياح التي تعصف بأنظمة أوروبا الشرقية؟ قال: «هذا صحيح، ولكن رومانيا شيء مختلف، وحين تثمر شجرة الصفصاف كمثرى فيمكن حينها أن يتغير النظام عندنا»، وبعد أربعة أيام كان يحاكم وزوجته فيعدمان ولا يعرف لهما قبر، ويوم القيامة هم من المقبوحين. ويبدو أن كل طاغية ينتابه الشعور نفسه بأنه خارج القانون الإلهي. وفرعون من قبل رأى تسع آيات بينات، فلم تنفعه شيئا حتى إذا أدركه الغرق آمن «الآن وقد عصيت من قبل وكنت من المفسدين… فاليوم ننجيك ببدنك لتكون لمن خلفك آية». وجثة رمسيس التي فحصها (موريس بوكاي) ليكتشف فيها ملح البحر، هي التي دفعته إلى الإيمان، في الوقت الذي كفر فرعون وهو يعاين الآيات جهارا.

والنظام السوري الآن يظن نفسه أنه استثناء من قانون التاريخ، وإعصار تسونامي ابتلع شواطئ عشر دول فلم يكتف بسومطرة. وفي مجلة «الشبيغل» الألمانية (العدد 10/ 2005 ص 140 ـ 145)، تحدث دبلوماسي غربي في بيروت عن تغير «النماذج الإرشادية Paradigm-change»، كما تحدث عن انقلاب هائل (Umbruch) في الشرق العربي تحت نظرية «الدومينو Dominotheory»، من خلال موجات من العصيان المدني في سحب تتجمع في سماء الشرق ا لأوسط بأشد من الغمام في موسم المونسون.

وسوم: العدد 875