‏‎الصّين اليوم، والصّين قبلَ سبعمِئةِ عام! ‏

clip_image002_35709.jpg

هل قرأتم كتابَ "الرّحلة" الذي كتبهُ ابن بطوطة، الرّحالةُ المغربيّ الأشهرُ على الإطلاق، قبلَ سبعةِ قرون؟ لا بدّ من أنّ من قرأه مرّ بالجزء المخصّص فيه للحديثِ عن رحلةٍ طويلةٍ من رحلاته الكثيرة، كانت وجهتُها ومحطّتُها بلادَ الصّين.

‏‎بدأت القصّة غيرُ السّعيدةِ لابن بطّوطة مع الصّينِ بعدَ أن عُيّن قاضيًا في "دلهي" لستِّ سنواتٍ تحت إمرةِ أحد سلاطينِ الهند، فابتعثه السّلطان الهنديّ يومًا في مهمّةٍ إلى الصّين، وفي نصّ الكتاب: "ولما وصلتُ إلى السلطان زادَ في إكرامي على ما كنتُ أعهده، وقال لي: إنّما بعثتُ إليك لتتوجّهَ عنّي رسولًا إلى ملكِ الصّين؛ لأنّي أعلمُ حبكَ في الأسفارِ والجولان."

‏‎بعدَ رحلةٍ استغرقت شهورًا طويلة، مرّ خلالها ببنغلادش وجزر المالديف والفلبين وأندونيسيا وفيتنام، وصلَ الصّين فأقام في مدنٍ منها، "تشي وانتشو" و"قوانغشتو" و"هانغشتو" وغيرها من مدنٍ لا أعرفُ إن كانت قد حافظت على تسمياتها إلى اليوم!

‏‎بالطّبعِ حفظَ الكتابُ كثيرًا من مشاهداتِ الرّحالة في الصين؛ إذ أدهشته حرفهم اليدوية، وإتقانهم صناعاتِ الحرير والخزف والسفن الخشبية، وأرهبته قدرات المشعوذين والسّحرة في بعضِ المناطق القرويّة الفقيرة، وأعربَ في بعضِ الفقرات عن استرذاله لباسَ نساءِ الصّينِ اللواتي كنّ يخرجن بلا لباسٍ تقريبًا، "اللهم إلا من شيءٍ لا يكادُ يسترُ الخصر". ولا بدّ من أنّه وجدَ اختلافاتٍ جوهريّةً بين هذه الحضارةِ الغريبة عليه وبين مسقط رأسه في المغرب؛ بحيث لم يستطع إقامةَ أيّةِ مقارناتٍ بين الصّين وبلاده، كما عُهدَ من أسلوبه في زياراته إلى دولٍ أخرى، إذ تُعرَف في كتاباته المقارناتُ المباشرةُ أو الضمنيّةُ بينَ ما يراه في بلدٍ ما، وما هو معهودٌ في المغرب، أو في "طنجةَ" تحديدًا. وربّما لم يجد ما ذكّرهُ بثقافتهِ سوى سورِ الصّين العظيم، إذ ذكَرَه مع إشارةٍ عابرةٍ إلى أنّه قد يكونُ السور الذي بُني ليحجز قوم "يأجوج ومأجوج"، كما ذُكر في القرآن الكريم، إضافةً إلى لفتاتٍ ظريفةٍ هنا وهناك، ربّما كان يسرّي عن نفسه بها: "فإنّ دجاجَ الصينِ وديوكَها ضخمةٌ جدًا، أضخمُ من الإوزّ عندنا."

‏‎بعيدًا عن هذه المظاهر، فالمُلفت في هذا الجزء من "الرّحلةِ" أنّ ما دوّنه ابن بطوطة قبل سبعمِئة عامٍ، بعد إسهابِه في وصفِ أبنيتهم وعمرانهم وصناعاتهم، يكادُ لا يختلف عمّا يُروى عن الصّين اليومَ في وسائل الإعلامِ الحديثة. لقد أشارَ إلى المأكولاتِ الصينيّة الغريبةِ التي "تعافها النفس"، كالحيواناتِ الزاحفة، والضفادع، والقردة، وذكرَ أنواعَ حشراتٍ بأسمائها، منها الصراصيرُ والعناكب و"الدعاسيق"، ولو ذكرَ "الخفافيش" وحساءها لشككتُ في أنّ كتابه معاصرٌ خرقَ الزمان. إضافةً إلى ذكرِهِ جلافةَ القوم، وسوءَ طباعهم؛ إذ كان قد تعرّض لهجومِ عصاباتِ البحرِ عدّة مرات، واتُّهم بالسرقةِ قبل مغادرته البلاد، فخسرَ الكثيرَ ممّا جمعه من مالٍ خلال إقامته في بلادهم، كما يذكر روس دون في كتاب (The Adventures of Ibn Battuta; A Muslim Traveler of the 14th Century).

‏‎لكنّ أكثر شيءٍ أدهشني على الإطلاقِ في وصفه الصّين، وصفُ النَّفَسِ الاستخباراتيّ الاستبداديّ الذي يبدو عابرًا كلَّ الأزمنةِ لديهم، اقرؤوا هذه الفقرةَ لتُدهشوا معي: "ومن عجيبِ ما شاهدتُ لهم من ذلك (يقصدُ التّصاوير والتماثيل)، أنّي ما دخلتُ مدينةً من مدنهم قطُّ ثم عدتُ إليها، إلا ووجدتُ صورتي وصورةَ أصحابي منقوشةً في الحيطانِ والكواغد (القراطيس)، موضوعةً في الأسواق! ... ولقد دخلتُ على مدينةِ السلطانِ فمررت بسوقِ النقّاشين، ثمّ وصلتُ قصرَ السلطانِ مع أصحابي ونحنُ في زيّ العراقيين، فلما عدتُ من القصرِ عشيًا مررتُ بالسوقِ المذكورة، فرأيتُ صورتي وصورَ أصحابي منقوشةً في كاغدٍ جعلوهُ في الحائط، فجعلَ الواحدُ منّا ينظرُ إلى صورةِ صاحبه، لا تُخطئ شيئًا من شبهِه! ... وذكرَ لي أنّ السلطانَ أمرهم بذلك، وأنّهم أتوا إلى القصرِ ونحن فيه، فجعلوا ينظرونَ إلينا وينقشونَ صورَنا ويرسمونها ونحنُ لم نشعر بذلك، وتلك عادتهم في كلّ من يمر بهم، ...، وذلك أنّهم إذا مرّ بهم الغريبُ ففعلَ ما يوجِبُ فرارَه عنهم، بُعثت صورته في البلادِ فبُحثَ عنه، فحيثُما وُجدَ شبيهُ تلك الصّورةِ أُخِذ" !!!

‏‎لكم أن تتخيّلوا، أنّ هذه نفس الدولةِ التي تتصدّر الدنيا اليوم في أعدادِ المعتقلين وسجناء الرأي، ويواجه السّجناء فيها أبشع وأقذر أنواع التعذيب والوحشيّة الممكنة، والتي يخبرك لسانُ حالها اليوم بما يجري فيها منذ عقود طويلة. وليسَ هذا عن أخبارِ تعذيب المسلمين الإيغور ببعيد، وليس كذلك إلا نسخةً عن سلوكِ الشيوعية والتوليتاريّة الشموليّة البشعِ في الدول التي أشبهت الصّينَ منهجًا ورعونة.

‏‎المهم، بعد عقودٍ من السفر والتّرحال والتّجوال، كانت الصّين من محطّاتِ ابن بطوطةَ الأخيرة التي ربّما زهّدته في السفر، وأوحشتهُ من الغربة، وشوّقَته أخيرًا –لسوء المقام فيها- إلى أرضه، فكانت مُنطلَقَه للعودةِ إلى المغرب؛ إذ ذكر في فقرةٍ واضحةٍ خاتمة: "وبلادُ الصّين على ما فيها من الحسنِ لم تكُن تعجبُني، بل كان خاطري ومزاجي فيها شديدَ التغيّرِ بسببِ غلبةِ الكُفرِ عليها، فمتى خرجتُ من منزلي رأيتُ المناكيرَ الكثيرة، فأقلقني ذلكَ وأرّقني، حتّى كنتُ ألازمُ المنزلَ فلا أخرجُ إلا لضرورة."

‏‎الجديرُ بالذكر، أنّ كتابةَ ابن بطوطة لمادة رحلته كانت كتابةً وثائقيةً مسترسلة، إلا أنّ من قيّدها وصبغها بصبغتها الأدبية كانَ "ابنَ جُزي"، ويتوقّع الكثيرون أنّه لولا تقييدُ ابن جُزي لمادّة ابن بطوطة لكانَ الكتابُ ضعفَ حجمه وصفًا وتفصيلًا، فتخيّلوا كم من الأوصافِ خلعَها ابنُ بطوطةَ على الصّين ممّا لم يصلنا، وممّا لم نكن لنجدَ فيه عمّا نعرفُ اليومَ اختلافًا كثيرًا.

‏‎سبحانَ من هوَ مقلّبُ الدولِ والأيام، أو هوَ مُبقيها على مرّ الزمان على حالِها!

وسوم: العدد 875