أغلى أجر خصّص للمعلم في التاريخ البشري هو الأجر الذي خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلمين من أسرى بدر

لا توجد معاملة لأسرى الحروب في التاريخ البشري تعدل أو تداني معاملة الإسلام لهم ، ذلك أن الغالب على معاملتهم إنهم كانوا يقتلون أو يستعبدون أو يعذبون ويهانون وينكل بهم شر تنكيل باعتبارهم أعداء يدانون بجرائم الحروب . ولمّا كان رسول الإسلام صلى الله عليه وسلم مبعوثا رحمة للعالمين ، فقد تجلت رحمته أول ما تجلت في معاملته لأسرى أول وأخطر حرب خاضها ضد طغيان الكفر والشرك الذي كان يحول دون وصول دين الله عز وجل إلى العالمين ، وهي حرب عبر عليه السلام عن خطورتها على الإسلام بقوله وهو يتضرع إلى الله عز وجل  يوم بدر بقوله : " اللهم إن تهلك هذه العصابة من أهل الإسلام لا تعبد في الأرض " ،وكفى بقوله هذا دليلا على خطورة ما كان سيلحق بالعالمين من خسارة فادحة بهزيمة تلك العصابة  الأولى من أهل الإسلام .

ولمّا أنجز الله عز وجل وعده لنبيه صلى الله عليه وسلم ونصره على الكفار والمشركين ببدر وهم  يومئذ كثر ، والمسلمون قلة ،شرع له كيفية معاملة ما وقع في يده من أسرى فقال جل وعلا : (( يا أيها النبي قل لمن في أيديكم من الأسرى إن يعلم الله في قلوبكم خيرا يؤتيكم خيرا مما أخذ منكم ويغفر لكم والله غفور رحيم ))

وأي أسرى حروب في التاريخ البشري قيل لهم مثل هذا القول الذي ينزل رحمة على قلوبهم وهي في أقصى درجة الفزع وأصحابها لا يعلمون ما سيفعل بهم، ولا ما سيلاقونه من عقاب  أو سوء معاملة خصوصا وأن المعتاد في حقهم كان إما القتل بأبشع الطرق أو الاستعباد مع أبشع صور الإهانة  والتنكيل ؟ ولقد جعل هذا العرض الإلهي السخي والمغمور برحمته  سبحانه وتعالى التي وسعت كل شيء أسرى بدر يبتهجون به ، وقد كشف سبحانه وتعالى كما كان يجول بقلوبهم وما كان يجول بها إلا الشر لتحفيزهم على إحلال الخير محله ليحصلوا على ما هو خير منه، وهو الفوز بحريتهم من الأسر أولا ، ثم بالمغفرة إن هم دخلوا في دين الله عز وجل، وقد وهب لهم الحياة  في حين قتل غيرهم في الحرب، الشيء الذي يعني أن أسرهم إنما كان نعمة منه سبحانه وتعالى ليفتح لهم أفقا لم يتح لغيرهم ممن قضوا وهم كافرون .

ولقد جسد رسول الله صلى الله عليه وسلم أمر الله تعالى، فأحسن معاملة ما كان في يده من أسرى ليشرّع للبشرية قانون حسن معاملة أسرى الحروب . ومما تضمنه هذا القانون مقايضة الخلاص من الأسر بفدية إما أن تكون أسيرا مقابل أسير أو تكون مادية ،وهذه مما شرع الله تعالى حتى في العبادات  والمعاملات حيث يكفّر على سبيل المثال المفطر عمدا في رمضان عن ذلك بإطعام ستين مسكينا ،وكذلك يفعل الواقع في إثم الظّهار إلى غير ذلك مما يكفّر به عن وقوع من يقع في مخالفات من قبيل  الحنث في اليمين أو من  قبيل المخالفات خلال عبادة الحج . وهذه الفدية من رحمة الله تعالى بالمذنبين كفارا ومسلمين على حد سواء . وعلينا أن نتصور كيف يكون حالهم لو أنهم حرموا من هذه الرحمة الإلهية .

والجديد الذي شرعه رسول الله صلى الله عليه وسلم في فدية أسرى الحرب بوحي من الله عز وجل وهو الرسول الذي لا ينطق عن هوى ولا يصدر عنه، هو أنه جعل فداء أسرى بدر من المشركين ممن لا مال لهم من المعلمين أن يعلموا الكتابة لعشرة من أبناء المسلمين ، وهو أغلى أجر في التاريخ  البشري خصص للمعلم ، وأي شيء أغلى من الحرية المفقودة بسبب الأسر ؟ وأي شرف يداني شرف معلم استرد حريته بما هو أغلى من المال وهو العلم ؟

وكم قضى عبر التاريخ البشري الطويل علماء ومعلمون في السجون والمعتقلات ولا زالوا إلى عصرنا هذا الذي يتبجح فيه أهله  بالعدالة وبالديمقراطية وحقوق الإنسان وقد يكون أسرهم ظلما وعدوانا دون أن تقايض حريتهم بدفع فدية من علمهم  كما فعل رسول الله صلى الله عليه وسلم مع أسرى بدر وهم أعداء قد نالوا من المسلمين قتلا وجرحا ؟

وكثيرا ما يمر المسلمون مرور الكرام  بهذا الأجر السخي الذي خص به رسول الله صلى الله عليه وسلم المعلمين الأسرى من كفار ومشركي قريش وقد حاربوه وفي نيتهم القضاء عليه وعلى دعوته  حتى لا تصل إلى العالمين مع أنه من أعظم ما شرع عليه الصلاة والسلام لأن أولئك الأسرى كانوا يعاملون معاملة حسنة ويستفيدون من الإيواء والطعام والشراب ،ولا يقومون بأعمال شاقة كما جرت العادة بالنسبة لأسرى الحروب كما نقلتها  وتنقلها لنا عدسات التصوير عن أسرى الحروب الحديثة والمعاصرة . ولم يكن للأسرى المعلمين زمن رسول الله صلى الله عليه وسلم سوى تعليم  رسم حروف العربية للصغار لتمكينهم من كتابتها ومن قراءة ما  تدل عليه من معان وقد جمعت في كلمات وعبارات .

ولقد جعل الله عز وجل بركة في الصبية الذين تعلموا الكتابة على أيدي أسرى بدر فكانوا هم أول من نقلوا إلى العالمين تعاليم الإسلام مباشرة من نبعها الصافي ، الشيء الذي أكد ما أودعه الله سبحانه وتعالى من خير فيما سنه رسوله صلى الله عليه وسلم بخصوص فدية أسرى بدر ، وهي سنة لو حرص المسلمون وغيرهم على العمل بها اقتداء برسول الله صلى الله عليه وسلم لاستفادوا من كل أسير ذي علم يلقنه أبنائهم وينتفعون به  .  

وكم من معلم عبر التاريخ من غير الأسرى  على وجه الحقيقة لم يتحرر من أسر الفاقة  وهوان الفقر وقد علّم العديد من الصغار الكتابة وغيرها من المعارف ، ولا أحد فكر في الحذو حذو رسول الله صلى الله عليه وسلم مع  المعلمين من أسرى بدر وحرّره من أسر الفاقة ، وهو أسر لا يقل عن الأس الحقيقي ذلة ومهانة ؟

وكم يطالب المعلمون في شتى أقطار المعمور في عصرنا هذا  بحقهم في أجر يحفظ كرامتهم ، ويوفر لهم العيش الكريم مقابل ما يقدمونه للناشئة المتعلمة  من خدمة ، فلا يستجاب لهم ، ويهضم حقهم ، وقد يواجهون بالعنف والتنكيل حين يخرجون في مظاهرات أو مسيرات يطالبون بهذا الحق ؟ وأي هذا الذي يواجه به هؤلاء من ذاك الذي شرع رسول الله صلى الله عليه وسلم لأعداء مشركين حاربوا دعوته وأرادوا القضاء عليها في مهدها  ؟

مناسبة حديث هذه الجمعة هو ما عرفته مؤخرا ساحتنا الوطنية من خلاف بين آباء وأمهات وأولياء أمور المتعلمين وبين أرباب مؤسسات التعليم الخاص بسبب توقف الدراسة الحضورية بها  وتعويضها بالدراسة عن بعد كإجراء وقائي من تفشي جائحة الفيروس ذي التيجان ، ومدار الخلاف  بينهم هو قضية سداد أجر تعلم الأبناء بهذه المؤسسات حيث لم يعتبر بعض أولياء  أمور المتعلمين الدراسة عن بعد ذات جدوى أوعوضا عن الدراسة الحضورية، ومن ثم رأوا أنهم غير مدينين بشيء لأربابها وطالبوهم  إما بتخفيض واجبات التمدرس عن الشهور التي توقفت فيها الدراسة الحضورية  أو بإلغاء بعضها كليّا ، الشيء الذي لم يقبله أرباب مؤسسات التعليم الخاص . ومما زاد هوة الخلاف اتساعا بين الطرفين أو صعّب رتق فتقه بينهم تدخل  بعض وسائل الإعلام  للنفخ فيه وتسعير أواره ، وعدم التزام الحياد ، فانقلب بين عشية وضحاها  الاحترام والتقدير اللذان كانا يطبعان العلاقة  بين أولياء الأمور وأرباب مؤسسات التعليم الخاص إلى خصام وعداوة وتراشق للتهم  فيما بينهم فيصف بعضهم بعضا  إما بالجشع أو بالتماطل  وكل طرف يرى الآخر في ذلك مستغلا لظرف الجائحة .

وبين الطرفين يوجد طرف  ثالث هو طرف الأطر التربوية التي يقتصر عملها   على مؤسسات التعليم الخاص دون غيرها  ، ومعها مستخدمون أيضا ، وهؤلاء هم الطرف الأضعف إذ تقل أجورهم عن أجور من يشتغلون بالتعليم العام ، ووضعيتهم في الخلاف الناشب بين أرباب التعليم الخاص وأولياء أمور المتعلمين كوضعية أسرى، ذلك أنه كلما هدد الأولياء بعدم سداد ما بذمتهم لأرباب المؤسسات الخاصة إلا ولوّح هؤلاء بوقف رواتبهم أو النقص منها باستثناء بعض أهل الضمائر والخوف من الجليل  ممن قطعوا على أنفسهم عهدا بألا ينقصوا منها شيئا بالرغم مما لحقهم من خسارة بسبب ظرف الجائحة .

ودون الخوض في موضوع  الطرف المصيب منهم من الطرف المخطىء  كما تفعل بعض وسائل الإعلام  المؤججة للخلاف بينهم، وكان الأجدر بها ألا تفعل ذلك وألا تنحاز لطرف على حساب الطرف الآخر ، نذكّر الطرفين معا بضرورة الرفق بالطرف الأضعف من معلمين ومن مستخدمين أيضا ،علما بأن ديننا الحنيف قد رفع من شأن العلم ومن يعلمه كما جاء في قوله تعالى : ((  يرفع الله الذين آمنوا منكم والذين أوتوا العلم درجات والله بما تعملون خبير ))  ،وكما جاء في حديث رسول الله صلى الله عليه وسلم : "  فضل العالم على العابد كفضلي على أدناكم " وقوله أيضا : " إن الله وملائكته وأهل السماوات والأرض حتى النملة في جحرها وحتى الحوت ليصلّون على معلمي الناس الخير " وأي خير أفضل من تعليم العلم للناس ؟  وما رفع الله عز وجل ورسوله صلى الله عليه وسلم من شأن معلمي العلم إلا لشرفه ، وما صلّى سبحانه وتعالى هو وملائكته وكل المخلوقات من أصغرها وهي النملة في جحرها إلى أكبرها وهو الحوت في البحور والمحيطات على معلمي الخير للناس وعلى رأسهم معلمي العلم إلا لرفعة شأنهم عنده سبحانه وتعالى ، وما جعل رسول الله صلى الله عليه وسلم أفضليتهم على العبّاد كأفضليته على أدنى المسلمين إلا لتلك الرفعة ، فكيف يجرؤ البعض على الحط من شأن رفعتهم بالإساءة إليهم إما ببخس جهدهم  أو احتقار ما يقدمونه من علم ؟ مع أن ما يقدم لهم من أجر لا يمكن أن يرقى أبدا إلى ما يعلمونه من علم ؟ وليس في العلم ما يعاب لأن "أول الغيث قطر ثم ينهمر" كما قال الشاعر التونسي أبو القاسم الشابي رحمه الله  ، وكل ذي باع في العلم إنما يبدأ بقطره ثم ينتهي إلى انهمارغيثه ، ولا يحقر قطره إلا جاحد فضل ، و لا ينكر فضل معلمي الصبا بعد إدراك الباع في العلم إلا من سفه نفسه ، وما السفه إلا جهل ، وشر الجهل جهل محسوبين على العلم وحسب هؤلاء قول الله تعالى : (( مثل الذين حمّلوا التوراة ثم لم يحملوها كمثل الحمار يحمل أسفارا )).

اللهم إنا نعوذ بك أن نضع من قدر وشأن من رفعت قدره وشأنه من أهل العلم  ، ونعوذ بك أن نبخسهم علمهم وجهدهم ، ونعود بك أن نجحد فضلهم علينا . اللهم اجعلنا مع من يصلي عليهم  من خلقك نملا وحيتانا ، ونعوذ بك أن نقصر في الصلاة عليهم . اللهم جازي عنا  من علمنا حرفا واحدا جنة ونعيما . اللهم من سخرتهم لنا ليزيلوا أميتنا ويجنبوننا سبل الجهل فارفع من أقدارهم يوم  حلول الرافعة الخافضة . اللهم إنا نعوذ بك من شح الأنفس إذا دعيت إلى إكرام أهل العلم ، وحبّب اللهم إلينا البذل من أجل  نشر العلم ،واجعلنا نسترخص كل شيء من أجله . اللهم اغفر لنا وتجاوزعنا ، واهدنا واجعلنا هداة مهتدين .

والحمد لله الذي تتم بنعمته الصالحات ، وصلى الله وسلم وبارك على سيدنا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين .

وسوم: العدد 882