أيهما أجدى مواجهة إثيوبيا بـ«هاشتاغ» أم برش الماء؟!

سليم عزوز

أكتب هذه الزاوية، وأمامي قناة «الجزيرة» مباشر، وهي تنقل على الهواء مباشرة وقائع صلاة الجمعة، من آيا صوفيا، في أول جمعة بعد قرار إعادته إلى مسجد، وهو الأمر الكاشف عن الاستقلال الوطني، الذي تنعم به تركيا، لا يضرها من ضل، وهو القرار الذي كان سبباً في حملة ضد أردوغان في إعلام الانقلاب العسكري، وكأنها قنوات تلفزيونية تبث من اليونان، وهي حملة وصلت إلى حد استدعاء رجال دين، مثل سعد الهلالي، الذي أفتى بأن الصلاة فيه حرام، لأنه كنيسة حولها أردوغان إلى مسجد، ولم تنتبه الأبواق الإعلامية إلى أنه كان متحفاً وليس مسجدا عندما اتخذ أردوغان قراره.

دار الإفتاء المصرية كانت قد دخلت على الخط، فكشف دخولها جهل القائمين عليها، الذي هو جزء من جهل الحكم العسكري القائم، إذ تعاملت على أن السلطان محمد الفاتح هو والد أردوغان، ولم تتراجع إلا بعد التنبيه على المفتي ومن معه، إنهم هنا يقفون أمام فتح بشر به الرسول، وأشاد بمن سيقوم به «فنعم الأمير أميرها ونعم الجيش ذلك الجيش».

وأوحى كما لو كان الحكم القائم في مصر (لغضبه من الفتح الإسلامي للقسطنطينية الذي وصفته الدار بأنه غزو) من السلالة البيزنطية.. ولدى العسكر مشكلة مع التاريخ، وهم كلما استدعوه كانوا كمن يتخبطه الشيطان من المس، فليس يصلح للمكايدة السياسية!

من قبل شنت السلطة الحاكمة ومعها أذرعها الإعلامية حملة قوية ضد الوجود العثماني في مصر، ووصفوه بالاحتلال، وهاجموا السلطان سليم الأول، وأعلن أحد الصحافيين أن السيسي هو «طومان باي» الذي قتله السلطان العثماني، وحان الوقت للأخذ بالثأر، لكنهم فوجئوا أن الدولة العثمانية حضرت لمواجهة غزاة أيضاً هم المماليك، ودارت بينهما معركة ليس للمصريين فيها ناقة ولا جمل، وأن «طومان باي» كسليم الأول، ليس مصريا «كريم العنصرين.. النيل رواه.. والخير جواه» بحسب الإعلان التلفزيوني القديم، في وصفه للمصري.. «نعم.. النيل رواه»!

فكان الصمت بعد اكتشافهم أن المماليك أيضاً ليسوا مصريين، وأن المصري البسيط يحمل رأيا سلبياً تجاه معنى أن يكون «مملوكيا» لما ارتبط به من انتماء الخصيان لهم، وافتاء العز ابن عبد السلام ببيع الأمراء المماليك لأنهم عبيد، ولا تزال بعض العائلات المصرية تنحدر من هذه السلالة المصرية بيد أنها لا تعلن وصلاً بها.

وإذا كان الشيء بالشيء يذكر، فبعد الاحتفاء بالسلطان المملوكي «طومان باي» باعتباره الجد الأكبر لعبد الفتاح السيسي، الذي يعد حفيده الوحيد، في دعاية الأبواق الإعلامية، والذي واجه جد أردوغان، اندفعت ألات الهدم لتدمير مقابر المماليك في القاهرة، وهو ما يمثل هدماً لأثار تاريخية، وانتهاكا لحرمة الموتى، فتاجر الأراضي الذي يحكم مصر طمع في هذه الأراضي الشاسعة التي يحيط بها العمران من كل جانب، والحمد لله أنهم لم يبرروا لهذا الاندفاع بأن المماليك كانوا محتلين لمصر، وفق القاعدة المعتمدة في الحكم على الوجود العثماني!

فهذا العثماني يقهرهم لذا فإن اعلام المرحلة لا تكتمل مشاعر الوطنية عند القائمين عليه إلا بالهجوم على أردوغان، فلما اتخذ قراراً بإلغاء تحويل جامع آيا صوفيا إلى متحف، «فرشوا له الملاية» وردحوا له، واستدعوا مشايخهم لإخراجه من الملة، فأردوغان يمثل بقوته قهراً لزعيمهم المفدى، لأن المقارنة دائما ليست في صالحه!

ولهم في ذلك مآرب أخرى، فمعظم اعلام المرحلة في مصر، إما هو مملوك، أو ممول من الإمارات، سواء كانت ملكيته لجهات أمنية، أو لأفراد (على الورق) وولي عهد أبو ظبي، يجعل من الرئيس التركي عدواً فكان لا بد لمصر، اعلاما وحكماً، أن تتخذه عدواً، وهذا هو سبب أنهم شبيحة هنا، وفي مواجهة القادة الإثيوبيين نعامة.

الصلف الإثيوبي

وهنا نكون قد وصلنا إلى «بيت القصيد» فهذا الأداء الإعلامي متهافت في مواجهة التشدد الإثيوبي في موضوع سد النهضة، مع أن المسؤولين الإثيوبيين لعبوا بالمسؤولين في مصر «كرة شراب» وأمعنوا في إذلالهم، واظهارهم أمام الشعب المصري على أنهم أضعف من أن يواجهوا إثيوبيا، ليمكننا الحديث الآن عن «الصلف الإثيوبي» وقد ضربت على «أولي الأمر منهم» في القاهرة، وأبواقهم الإعلامية، الذلة والمسكنة، فلا يمكنك أن تضبط إعلاميا يتبع النظام العسكري، أو مسؤولاً في هذا النظام، متلبساً بشطر كلمة يمكن أن تحمل رداً مباشراً على هذا الصلف!

وفي هذا الشهر الجاري فقط، كان المجال فسيحاً ليظهر الجانب الإثيوبي قوته وصلفه وعنفوانه، وكأنه لا يرى أحداً أمامه، وكأن هذا الزحام لا أحد، فيذكرني الرد الخافت عليه بالفنان فؤاد المهندس في رائعته «سك على بناتك» عندما دخل عليه من جاء ليتقدم لخطبة ابنته «نادية» فإذا به يجده شبحاً طولاً في عرض، وهو في حالة الخوف منه جلس يدندن: «خاف الله.. خاف الله»!

أذاع التلفزيون الإثيوبي تصريحات لوزير الخارجية في يوم 15 من الشهر الجاري ببدء مرحلة الملء، وهو ما كانت إثيوبيا قد بشرت به الشعب قبل عدة شهور، ورد النظام المصري بأنه لن يسمح بالملء الأحادي، وقال السيسي نفسه إنه لن يسمح بفرض الأمر الواقع! لكن هاهي إثيوبيا تمارس التحدي، فإذا بأسد المايك، ومحطم قلوب العذارى وميكروفون الجزيرة خالد الذكر سامح فهمي يعلن أنه طلب من إثيوبيا «إيضاحات» حول هذه التصريحات، وإذا بوزير الري المصري في اتصال هاتفي مع «عمرو أديب» على قناة «أم بي سي مصر» السعودية، يعلن أنه لا يعرف إن كان قد بدأ الملء فعلا أم لا؟ فأضحك الثكالى بهذا الهوان!

والمؤسف إن هذا يتم في وقت ضبطت فيه ألمانيا مصرياً يعمل في المكتب الإعلامي، وقد جندته السلطات المصرية لكتابة التقارير في الإعلاميين المصريين الذين يعملون في ألمانيا، لكنها لا تملك عميلاً واحداً حيث الضرورة لوجود عملاء، فلا تعرف سلطة في بلد بحجم مصر، إن كان قد بدأ الملء أم لا؟ وفي قضية تخص مصير المصريين حاضراً ومستقبلاً مثل قضية مياه النيل، فيكون طلب وزير مصري «إيضاحات» من إثيوبيا، ويقول وزير آخر لا نعرف إن كان الملء قد بدأ أم لا؟ ولا يستشعر الحرج لهذه «الخيبة الثقيلة».

النيل نيلنا

ثم تكون «قاصمة الظهر» في الإعلان الإثيوبي أن المرحلة الأولى من ملء السد قد بدأت وانتهت، ولا يتوقف الاستفزاز عند هذا الحد، انما يكون الإعلان الإثيوبي أن النيل لم يعد يتدفق، وأنه صار بحيرة، ومياهه صارت شأناً إثيوبيا، أو كما قال: «النيل نيلنا»!

وهو بهذه التصريحات المستفزة، يكتشف المزيد من الضعف والهوان في الجهة المقابلة، ألم أقل إن المسؤولين المصريين واعلامهم قد ضربت عليهم الذلة والمسكنة؟!

ما أذاعه التلفزيون الإثيوبي الرسمي، نقلته قنوات تلفزيونية كثيرة، كان من حسن الطالع أن قنوات الموالاة في الإمارات سبقت «الجزيرة» في نقله، ولو اقتصر النقل على «الجزيرة» لوجدها أهل الحكم في مصر فرصة للذهاب بالقضية في اتجاه آخر، وقد قرأت لمن يريد أن يعتمد بوقاً إعلامياً يقول إن الجزيرة باهتمامها بقضية سد النهضة تستهدف إحراج السلطة في مصر.. انظر إلى هذه الخيبة الثقيلة أيضا، فقد أوشك أن يستدعي خطاب القيادة السورية عندما تتعرض للاعتداء الإسرائيلي: لا أحد يفرض علينا موعد الحرب.. هذا الموعد الذي لا يأتي أبداً!

في برنامج «المسائية» الذي تبثه «الجزيرة مباشر» قال أحد المدافعين عن الحكم العسكري في مصر، إن مصر لن ترد على إثيوبيا استجابة لدعوة النشطاء على منصات التواصل الاجتماعي، لأنها بلد كبير، مخالفاً بذلك مواصفات زعيمه المفدى لهذا البلد بقوله «العفي محدش ياكل لقمته»!

اللافت، أنه رُغم النشر على نطاق واسع لما أعلنه التلفزيون الإثيوبي، فإن القنوات التلفزيونية المصرية وما أكثرها بدت خارج نطاق الخدمة!

وعندما تم الإعلان من الجانب الإثيوبي عن انتهاء المرحلة الأولى من بدء الملء، كان الخطاب الإعلامي متهافتا وضعيفا ومهزوزاً، ويعمل على التخفيف من وطأة ما جرى!

فأحمد موسى على «صدى البلد» سأل «أبيه أحمد» في رفق وهوان: ما الهدف من استفزاز مشاعر المصريين عندما يقول إن النيل صار بحيرة أثيوبية؟ ينفرد «موسى» بنطق مختلف لاسم رئيس وزراء إثيوبيا «أبيه أحمد» وليس «أبي أحمد»!

وعند مناقشة شريف عامر على قناة «أم بي سي مصر» السعودية، لتصريحات وزير الخارجية الإثيوبي ومع وصفه لها بالمستفزة فقد قال إنه لا يمكنه اعتماد ترجمة غوغل لأنها غير دقيقة!

بينما طالب نشأت الديهي على قناة «تن» الإماراتية بتغيير قواعد اللعبة بإطلاق هاشتاغ «النيل للجميع» رداً على التصريح الإثيوبي «النيل نيلنا» يوشك أن يطلب بأن يكون الرد بـ «رش الماء على إثيوبيا» باعتبار أن «رش المية عداوة» كما يقول المثل المصري!

بينما اندفع معتز عبد الفتاح بعد عودته على قناة «المحور» مخففا من وطأة ما جرى بأنها تصريحات للفخر القومي والاستهلاك المحلي، وقام بحركات بهلوانية صار يتسم بها أداؤه بعد العودة الميمونة، وهو يقول ربما كان لديهم عبد الحليم حافظ في إثيوبيا وغنى: «قالوا هنبني وادينا بنينا السد العالي»!

هذا إعلام يدار بواسطة الأجهزة الأمنية، التي تعبر عن السلطة الحاكمة، التي اكتفى رأسها في خطابه الأخير بمجرد التلميح فصار ما يجري في أعالي البحار هو مجرد «أمور بالغة الخطورة» و«تحديات» و«تهديدات» و«مخاطر غير مسبوقة» تواجه أمننا القومي! بشكل يحتاج معه إلى مذكرة تفسيرية تؤكد أنه يقصد ما يجري من الجانب الإثيوبي والمعنى في بطن السيسي!

ضعف مميت، فالوقاحة لا تكون إلا في الهجوم على تركيا وقطر!

وسوم: العدد887