ضياع ثقافي باسم التحديث والتطوير والتنوير

د. محمود الطناحي

كلام جليل لشيخنا الراحل الدكتور محمود الطناحي حول ما يتعرض له جيلنا من ضياع ثقافي باسم التحديث والتطوير والتنوير .

قال رحمه الله تعالى وتقبله في الصالحين:

"نعم ، لقد تعرض أبناء هذا الجيل لسيل طاغ وموجات متلاحقة ، من التشكيك في ثراتهم وأيامهم : فالشعر الجاهلي غموض وانتحال ، وتفسير القرآن مشحون بالإسرائيليات ، والحديث ملئ بالوضع والضعف ، والنحو تعقيد وتأويلات ، والصرف فروض ومتاهات ، والبلاغة تكلف وأصباغ ، والعروض قيود ودوائر تدير الرأس ، والتاريخ صنع للحكام والملوك ، ولم يرصد نبض الشعوب وأشواقها( ) .

ومن وراء ذلك كله ، فاللغة العربية عاجزة عن مسايرة ركب الحضارة ؛ لقصورها عن التعبير عن العلوم التطبيقية والكونية ؛ لأنها لغة شعر وبيان .

يسمع أبناؤنا هذا كله عالياً مدويا ، وتتجاوب أصداؤه المترنحة من أحلاس المقاهى ، إلى قاعات الدرس الجامعي ، ولا يستطيع الشباب لذلك دفعاً ولا رداً ؛ لغرارتهم وجهلهم وقلة حيلتهم ؛ ولأن كل هذه السموم إنما تساق في ثياب مزركشة ، من المنهجية والموضوعية ، والتفكير العلمي ، وحركة التاريخ ، والموقف الحضاري ، والشمولية . ولا يعرف أثر هذه الألفاظ الغامضة المبهمة إلا من ابتلى بشرها ، وصلى جمرتها ، ووجد مسها ، وكل ذلك عرفت ، إذا كنت في طراءة الصبا وأوائل الشباب ، تستهويني هذا الأضاليل ، وتتلعب كتلعب الأفعال بالأسماء ، على ما قال أبو تمام ، وأحسب أن كثيراً من أبناء جيلي قد وقعوا في هذا المهوى السحيق .

وكان أكثر هذه الأصوات دويا ، وأشدها فتكا ، تلك التي انبعثت من داخل درس الأدب في جامعاتنا العربية . فمن خلال الثرثرة حول نظريات غربية في الأدب ، وتطويع الأدب العربي ، وإخضاعه لها ، وتطاير شرر كثيرة ، حاول أن يأتي على تراث عربي عريق للكلمة العربية؛ شعراً منظوماً حمل أنغاماً جليلة ، وكلاماً منثوراً أبان عن أدق أسرار النفس وخلجات الروح .

ثم كان أن غرق طلبة العلم في قضايا فارغة ، بدءاً من الوحدة الموضوعية والمعاناة ، والتجربة الشعرية ، وتراسلا الحواس ، والمونولوج الداخلي ، والدفقة الشعورية ، والتعبير بالصورة ، والألفاظ الموحية ، والشعر المهموس( ) ، وأدب الفرض والعبث ، وانتهاءً بالحداثة والمعاصرة ، التي تشغل بالهم هذه الأيام .

وكانت المحنة فيما أثير حول "الرمز" في الأدب ، الذي ألقى سدولاً كثيفة كئيبة على البين الذي هو أشرف ما وهبه الله للإنسان ، وخضع النص الأدبي تحليلاً ودرساً لتلك الرموز" اليونانية المتمرغة في أوحال الأساطير ، وهي رموز وثنية المنابت والأصول تجعل الحياة البشرية جحيماً مستعراً من الخطايا والذنوب والآثام ، وتحليل الهم الشريف ظلمة مطبقة على القلب والنفس ، والقلق السامي تدميراً لبنيان الله الذي أعطى كل شيء خلقه ثم هدى ، سبحانه وتعالى" على ما قال شيخنا محمود محمد شاكر( ) . والرمز عنده ضرب من الجبن اللغوي . يقول حفظه الله :

"فاللغة إذا اتسمت بسمة الجبن كثر فيها "الزمر" وقل فيها الإقدام على التعبير الصحيح الواضح المفصح . ولا تقل إن "الكناية" شبيهة بالرمز ، فهذا باطل من قبل الدراسة الصحيحة لطبيعة "الزمر" وطبيعة "الكناية" . و "المجاز" . وأنا أستنكف من "الرمز" في العربية ؛ لأن للعربية شجاعة صادقة في تعبيرها ، وفي اشتقاقها ، وفي تكوين أحرفها ، ليست للغة أخرى . وإذا كانت اللغة هي خزانة الفكر الإنساني ، فإن خزائن العربية قد ادخرت من نفيس البيان الصحيح عن الفكر الإنساني ، وعن النفوس الإنسانية ، ما يعجز سائر اللغات ، لأنها صفيت منذ الجاهلية الأولى المعرفة في القدم ، من نفوس مختارة بريئة من الخسائس المزرية ، ومن العلل الغالبة ، حتى إذا جاء إسماعيل نبي الله ، ابن إبراهيم خليل الرحمن ، أخذها وزادها نصاعة وبراعة وكرما ، وأسلمها إلى أبنائه من العرب ، وهم على الحنيفية السمحة دين أبيهم إبراهيم ، فضلت تتحدر على ألسنتهم مختارة مصفاة مبرأة ، حتى أظل زمان نبي لا ينطق عن الهوى ، صلى الله عليه وسلم، فأنزل الله بها كتابه بلسان عربي مبين ، بلا رمز مبنى على الخرافات والأوهام ، ولا ادّعاء لما لم يكن ، ولا نسبة كذب إلى الله ، تعالى الله عن ذلك علوا كبيرا . فمن أجل ذلك كرهت الرموز، ورأيتها قدحاً في العربية ، وتشويهاً يلحقها"( ) .

ثم كانت محنة ثانية في ذلك "الرمز" الذي استحدثته قضايا الشعر الحر ، وما أثاره هذا الكلام المخمور المتهالك من إسقاطات وإحباطات وهذر ، حول هموم العصر وعذابات الإنسان ، كما يقولون.

ولقد كان يكون الخطب هينا لو أن هذا الهراء ظل في مجثمه في مجالس أحلاس المقاهي ممن ينتسبون إلى الأدب ، ولكنه انتقل إلى الدرس الجامعي – كما ذكرت – افتتن به بعض معلمي الأدب افتنانا عجيباً ، وصبوه صباً في أدمغة هؤلاء الشباب الأغرار ، ممن ابتلوا بالجلوس إليهم، والأخذ عنهم ، ولا سبيل أمام الطالب الذي يريد أن يحصل على شهادته الجامعية إلا التلقي والإذعان .

والآن ، وبعد انقضاء نحو عشرين عاماً على تخرجي في كلية دار العلوم ، أبحث في حنايا نفسي وعقلي ، عن أثاره من هذه اللغو الذي أخذ علينا ، في مطالع أيامنا ، الطرق والمنافذ ، فلا أجد شيئاً ألبته ، وقد يكون هذا لأني عرفت سبيلي – بفضل من الله وعون – إلى أدب أهلي وعشريتي ، ولكني التمست ذلك أيضاً عند نفر من رفقاء دربي في تلك الأيام ، فلم أجد عندهم شيئا ، وقد جمعني مع أحد منهم لقاء ، وكان قد وقع في أسر الفئة الباغية ، الذين خدعوه عن تراثه ، وأفسدوا ذوقه ، فسألته عن " إليوت والأرض الخراب ، والرجال الجوف" وكان شديد اللهج به وبهما ، فقال : لم يعد معي من ذلك شيء ، ثم أنّ أنة حسرى ، وقال ولم يملك سوابق عبرة : "حسبنا الله ونعم الوكيل"

وسوم: العدد 897