بين مقصورتين : مقصورة ابن دريد ومقصورة صريع الدلاء نصف قرن وما زالوا يطبطبون !!

زهير سالم*

 أدب وسياسة :

سأكتب اليوم من غير إفصاح .. وإذا لم تكن تعيش حال الناس ، فلا تتعب نفسك في قراءة هذه السطور المفككة ، والكلمات المبعثرة ، ثم تعترض عليّ : ما فهمنا شيئا . وكان من شرط الله على سيدنا زكريا يوما أن لا يكلم الناس إلا رمزا ، وردت سيدتنا مريم على قومها حين سألوها عن وليدها الذي أتتهم به تحمله ، بإشارة من يدها، فقد كان الجواب فوق طوق لغتها ، بالمناسبة هذه الواقعة في كلام سيدنا عيسى عليه السلام في المهد ، لم أجد لها نظيرا في كتب النصارى ، ولعل ذلك من قلة إحاطتي وضعف اطلاعي ..

وأعود بكم إلى المقصورتين ، والمقصورة قصيدة أو أرجوزة قافيتها الألف المقصورة ، وإذا أطلقت ذهبت العهد الذهني بنا مباشرة إلى مقصورة ابن دريد عالم اللغة ، المتوفى في القرن الثالث الهجري ، وهي مقصورة جميلة ، قالها ابن دريد في مدح قوم ، ولكن حشد فيها من فرائد اللغة ، ما جعلها موردا للغويين والمتأدبين ، فعكفوا عليها بالشرح ، والتعليق والتوضيح . وابن دريد هذا كان أعجوبة من عجائب العربية في الحفظ وفي الشعر وفي الابتكار ، وأراه أحد الذين ظلموا في مكانتهم العلمية والفنية في تاريخ هذه الأمة . وهو صاحب " جمهرة اللغة " معجم فريد جامع ، وهو أحد شيوخ أبي علي القالي صاحب الأمالي ، وكثيرا ما يقول هذا الأخير في كتابه : وأنشدني ابن دريد لنفسه فيروي من الشعر أعذبه وأطربه . مقصورة ابن دريد قرابة 150 بيتا ، مطلعها:

يا ظبية أشبـه شيء بالمها ... ترعى الخزامى بين أشجار النقا ..

وهي متوفرة على أبيات كثيرة جميلة من الوصف والحكمة . وإنما وقفتي اليوم مع مقصورة مغمورة ، لشاعر وفقيه مغمور ، وقالوا كان يعمل قصارا ، حتى اتصل بأصحاب المعالي فعلا . وهي لرجل من رجال القرنين الرابع والخامس ، اسمه محمد بن عبد الواحد ، وله لقبان أحدهما صريع الدلاء ، و الآخر صريع الغواشي ، نقلا عن صريع الغواني الذي هو لقب مسلم بن الوليد . مقصورة صريع الدلاء هذا في نحو مائة بيت ، تمزج الحكمة بالهزل ، ولا تخلو من سوقية في سوق الأمثال ، وهي حتى في سوقيتها خفيفة الظل ، قريبة إلى النفس ، عارض فيها مقصورة ابن دريد ، ولكنه لم يلحق به ، بله أن يتقدم عليه . ومطلع مقصورة صريع الدلاء هذا :

أيسر أسباب الهوى فرط الجوى ... يا ويح من يهوي إلى بحر الهوى

وطار عقلي حيـن أبصرتهـم ... تحت ظلام الليل يطوون السرى

وكنت يوم كنت في عالم الأدب قد تحفظت جملة صالحة من أبيات المقصورة المائة نتمثل بها طورا في جد ، وطورا في هزل ، ومن أجمل الهزل قوله :

من لم يرد أن تنتقب نعاله .. يحملها في كفه إذا مشى

ومن أراد أن يصون رجله ..فلبسه خير له من الحفـا

ومن جد الجد الذي فتحت هذا الحديث اليوم لأجله قوله ..

من ناطح الكبش تعجز رأسه .. وسال من مفرقه شبه الدما

من مازح السـبع ولا يعرفه .. مازحه السـبع مزاحا بجفا

وأجمل منهما قوله وأهديه إلى الذين يتضاغون اليوم مثل أطفال أيتام في ليلة برد وريح وجوع ..

من مضغ الأحجار أدمت فكه .. فالضرس لم تخلق لتليين الحصا

أعيدوا قراءته مرة بعد مرة بعد مرة إلى السبعين ، فالثورات لا تنتصر بنداء عليهم عليهم . وقوله هذا لم أره قد سبق إليه . وعندما قال العامة عندنا : والعين لا تقابل المخرز ، لم يريدوا كما يفهم القاصرون أن تغض طرفك ذلة وانكسارا ، بل أرادوا أن تعد لمخرز القوم مخرزا مأخوذ من قوله تعالى ( وَلَوْ أَرَادُواْ الْخُرُوجَ لأَعَدُّواْ لَهُ عُدَّةً ..)

تأمل بيت المقصورة هذا مرة ثانية وبروية ، وأنا أحيانا أتلبث على المعنى الواحد يوما أو أياما أتملاه :

من مضغ الأحجار أدمت فكه .. فالضرس لم تخلق لتليين الحصا

فهل فهمنا معنى : من مضغ الأحجار أدمت فكه ؟؟؟؟

وهل فهمنا معنى : فالضرس لم تخلق لتليين الحصا !!!!!!!!!

أي فقه سياسي واجتماعي في هذه الحكمة الجميلة ..

وتقول العرب : قد يدرك الخضم بالقضم ، ويريدون أن المرء قد يدرك ناعم الطعام – الخضم – بالصبر على جافه – القضم – وقد يقضم الناس في حياتهم الخبز الجاف ، وقد يقضمون القضامة المفوخرة ، ولكنهم لا يقضمون الحجارة أبدا كما يقولون شاعرنا الصريع ..

وأعود لأختم ، قبل أن تقولوا أطلت ، ومن جميل الحكمة السوقية المبتذلة في مقصورة صريع الدلاء ، وأنا حريص عليها هنا لأنها تمثل حال الناس اليوم ، وهم يتضعضعون تحت تأثير الجهل الذي تعلموه فقدسوه ، وظنوا أنه الحق الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ومن خلفه ، ثم تبينت لهم غثائيته عند أول صدمة ، أو عندما واجهت رحلتهم أول مطب هوائي فتفرقوا بين متشكك ومرجف ، ومتهم بالتشكيك والإرجاف..

والحديث هنا عن الجهل الذي قدسه الناس يوم كتب كاتبهم في فراغ وهو متكئ، وقرأ قارئهم في فراغ وهو مضطجع . الجهل الذي قدسوه يوم كان بعضهم يجلس في فضا فيبني ويعلي ، ولأنك مسلم فسيدعمك أهل السموات ، وسيدين لك أهل الأرض ، وعلموا الناس أن قطع المحيطات في شوط واحد ممكن ، ونسوا أن يشرحوا لهم كيف نمت نبتة الدعوة في مكة في كنف مشرك ، وكيف دخل رسولهم قائدهم ، صلى الله عليه وسلم، مكة بعد الطائف بجوار مشرك ، وكيف استعان رسولهم قائدهم على أمر هجرته بغار ، وبدليل مشرك ، وكيف كاد يوم الأحزاب أن يدفع ثلث ثمار المدينة لغزاة معتدين مشركين ...

في ستينات القرن الماضي وأنا طالب في الجامعة قرأت سيرة الناصر صلاح الدين لابن شداد ، وعجبت ثم عجبت !! ومنذ ذلك اليوم وأنا أنادي على القوم إذا أردتم أن تتعلموا الكياسة والسياسة والرئاسة فتعلموا من كل فصل من فصول سيرة صلاح الدين ، تعلموا منه " مكر مفر مقبل مدبر " ، تعلموا منه ولا تقدسوه ...!!

مضى نصف قرن في دروسه الكثير من التعليم الخاطئ ، إطلاقات هنا ، ومبالغات هناك ، وغلو ، وتعميم ويقول الإمام الشوكاني في إرشاد الفحول عن كتاب الله : وما من عام إلا وقد خُص ، وما لم يكن له مخصص فالعقل مخصص " نصف قرن قد مضى وما انتهى عصر الطبطبة ...وكما يقول أهل حلب وها قد جاء صاحب العجل ..ويقول صريع الدلاء ...

من شرب المسهل في فصل الشتا

أطال تردادا إلى بيـت الخـلا ..

ثم لعلهم من كثرة ترددهم وتردادهم يعجبون...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 909