رسالة إلى أمي

إيمان فاسم

لعل الله وهو أرحم الراحمين يجمع شملنا ، ونلتقي بعد هذا البعاد ، فقد أوجعتني الحياة يا أمي ، وكأنها ألقتني في بيداء خالية خاوية ، أفقدتني قدرتي التي كنتِ تباركينها في أيامنا الخاليات  ، ولوت رغبتي باستشراف المستقبل لولا ثقتي بالله سبحانه وتعالى ، أكاد أقول : أنهيتُ كل مالدي من مشاعر ، تلك المشاعر التي كنت أبالغ بفرحي لها  وأنا أراها تتراءى لي في تلك الأمسيات المقمرات ، لم أكن أفرح فحسب ، وإنما كنت أشعر وكأن فرحي أزهر بي وبمن حولي ، ولكن الأيام التي دلهمت آفاقها ، حجبت عن بصيرتي أنوار تلك الصباحات الجميلة ، وربما بكيت يا أمي وأشعر أيضا بأن دموعي ستغرقني ومَن حولي ، فلم يسمع مَن حولي إلا شهقات الوجع والألم التي استهلكتْ مشاعري دون أي تفكير. لم أكن أدرك أن هذه الغمَّة ستطول في حياتنا !! وأني سأحتاج مرات ومرات لأن أضحك ، كنت كأنني أخبئُ بعض أفراح تنتظرني ، عفوك يا أمي أشعر بأنني سأحتاج للدموع ، فلازالت الأوجاع مستمره و هنالك الكثير منها  وستبكيني، فأفر إلى الله وأجد خيمة الصبر تلقي عليَّ شيئا  من عنفوان أبي وإخوتي وأخواتي ، فأشعر بالطمأنينة من جديد . ليس باستطاعتي استعارة مشاعرالآخرين  لأكمل مشاهد أحاسيسي بحياتي. فلست ممن يبرع بافتعال المشاعر ، ولستُ ممن تتصنّع. بل لست أملك الرغبة لركوب موجة التملق ، وهكذا كانت تربيتك لنا في فِناء دارنا الذي تظلله أشجار حديقتنا الغنَّاء . تلك أيامنا  المبهرات وكأنها ولَّت إلى غير رجعة ، أو هكذا يُخيل إلي !

    أمَّاه رغم بعدك عنا أشعر أني بحاجة لأنشر معاناتي بين يديك الحانيتين ، إنه الهجر هكذا أنا أسميه بعد أن أصبح بعادنا قدرا لامفر منه ، خوفنا من المجهول الذي يهدد مشاعرنا ، أحزاننا التي يصعب أن نتخطى حدودها ، وحيث تتراكم على أطرافها الأوجاع والمصائب والآفات  ، اليأس آهٍ أكاد أختنق من ظلمة

اليأس التي تحاصرنا في كل آنٍ ، وهو وحده الذي أدفعه بكل مالدي من وُسعٍ وقوة ، ولن يغلبني ياأمي أعدك بأني سأقاومه ولن أُهزم بإذن الله هاأنذا بين يَدَي ربي أتضرع إليه ، وأشكو له معاناتي ، وأسأله نسائم َ الفرج بعد عجاج هذا الضيق ، ونهار اليسر بعد ليل العسر الطويل ، قلتُ لك ياأمي بأني أفر الله عند احتدام عواصف الأحزان ، وأرفع يّدّيَّ إليه وأنا أتذكر حديث نبيِّه صلى الله عليه وسلم وهو يعلم أصحابه الكرام رضي الله عنهم حيث قال : ( مَا أَصَابَ أَحَدًا قَطُّ هَمٌّ وَلَا حَزَنٌ، فَقَالَ: اللهُمَّ إِنِّي عَبْدُكَ، ابْنُ عَبْدِكَ، ابْنُ أَمَتِكَ، نَاصِيَتِي بِيَدِكَ، مَاضٍ فِيَّ حُكْمُكَ، عَدْلٌ فِيَّ قَضَاؤُكَ، أَسْأَلُكَ بِكُلِّ اسْمٍ هُوَ لَكَ سَمَّيْتَ بِهِ نَفْسَكَ، أَوْ عَلَّمْتَهُ أَحَدًا مِنْ خَلْقِكَ، أَوْ أَنْزَلْتَهُ فِي كِتَابِكَ، أَوِ اسْتَأْثَرْتَ بِهِ فِي عِلْمِ الْغَيْبِ عِنْدَكَ، أَنْ تَجْعَلَ الْقُرْآنَ رَبِيعَ قَلْبِي، وَنُورَ صَدْرِي، وَجِلَاءَ حُزْنِي، وَذَهَابَ هَمِّي، إِلَّا أَذْهَبَ اللهُ هَمَّهُ وَحُزْنَهُ، وَأَبْدَلَهُ مَكَانَهُ فَرَحًا " ، قَالَ: فَقِيلَ: يَا رَسُولَ اللهِ، أَلَا نَتَعَلَّمُهَا؟ فَقَالَ: " بَلَى، يَنْبَغِي لِمَنْ سَمِعَهَا أَنْ يَتَعَلَّمَهَا ) . وكيف لانتعلمها وهي رأس مالِ الصالحين والصالحات من عباد الله . وكيف لانفر إلى الله ولا نلوذ في حماه ، ولا نسأله وحده سبحانه وتعالى ونستعيذ به من الهم والحزن  ومن بقية الآفات . فمازلنا على العهد يا أمي رغم كل النازلات ، فلن نركن لليأسِ ولن ننحني للرزايا المؤلمات ، فتلك من صفات الجاحدين لنعم الله سبحانه .  ألم يقل ربي سبحانه : (قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ(  53/الزمر .

أماه ... مازالت رسالتك الأخيرة بعد استشهاده يرحمه الله أتملَّى معانيها بين الحين والآخر ، وما زلت أردد في نفسي قولك : ( كٌوني عَلى يقِين أنَ هُناكَ شَيئا ينتظرُك بَعد الصَبرّ ليُبهرك و يُنسيكَ مَرارَة الألمّ . فذاكَ وعدُ رَبنا سبحانه وتعالى ، والله لا يخلف الميعاد وبَشِرّ الصَابِرينّ ) .

وسوم: العدد 921