الإنسان المعاصر بين اللاهوت والناسوت

صادق جواد سليمان

حديث عن "الإنسان المعاصرر بين اللاهوت والناسوت"

في "صالون الإنسانيين العرب" – أحمد سعد زايد

أشكرك، أستاذ أحمد، على الاستضافة، وتحية طيبة للجميع.  أرحب بالمشاركة معكم في هذه الندوة، وإذا سمحتم، سأبدأ بمقدمة تأطيرية قبل مباشرة الحوار. المقدمة اقتباس من ورقة سابقة

 

مدار الأرض عبر التاريخ، سعى الناس في مختلف مواطنهم لفهم طبيعة الوجود وظاهرة الحياة بدافع أن يرتبطوا بفهم يبعث فيهم الإطمئنان إلى سلامة الوجود، وسلامة وضعهم في هذه الحياة، وفي الحياة الأخرى التي اعتقدوا أنها تلي الموت.  من بينهم، من عصر لآخر، ظهر اشخاص تميزوا بالحكمة والخلق الكريم.  هؤلاء عرضوا ما لديهم من رؤيا حول كل ذلك، وأيضا حول ما يصلح به حال الإنسان وبما يفسد، رابطين فلاحه بصلاحه.  من صنفهم كانوا الأنبياء، مؤسسوا الأديان، وكانوا الفلاسفة، محبوا الحكمة.  رسالات الأنبياء، بمرور الوقت، انطوت على نفسها، وبذا ابتعدت عن رافد المعرفة العلمية، فركدت.  أفكار الفلاسفة أنطلقت مفتوحة على المعرفة العلمية، فتطورت، وأبدعت، وفي القرون الأخيرة، منذ عصر النهضة في أوروبا، صيغ بها العالم المعاصر ولا يزال. 

أين يجد الإنسان المعاصر نفسه بين اللاهوت والناسوت؟ أقول الإنسان المعاصر تحديدا لأنه، أكثُر من إنسان أي جيل سبق، محاط بمعرفة علمية وسيعة عميقة، معطاها ومعطى المعارف الدينية يتعارضان، بل ويتناقضان، حول أهم المسائل الوجودية، كتشكل الكون، فتشكل المنظومة الشمسية، فنشوء الحياة بمختلف أجناسها على كوكب الأرص، فظهور الجنس البشري لاحقا، فتطوره عبر العصور.  أضف إلى ذلك أن جل الحراك الإنساني في عصرنا أضحى مسيرا وميسرا عالميا بالمعرفة العلمية الإنسانية ومخرجاتها التطبيقية.    

ما كنه هذا التعارض؟ الفلسفة، وأقصد بها الفكر الحر المسند بالمعرفة العلمية والمنطق العقلي، والدين، وأقصد به الأديان عامة،  جذريا يختلفان في المرجعية المعرفية الأولى.  في الفلسفة المرجعية الأولى هي العقل، في الأديان هي الوحي أو الإلهام، مصدرا الكتب المنزلة أو الملهمة لكل دين. معطى العقل متطور بتطور المعرفة. معطى الوحي أو الإلهام ثابت نصا، لكن بعض النص يحتمل التأويل. الأديان مبناها التصديق والتقديس. الفلسفة مبناها التنظير والتحقيق. الأديان تعزو للحياة معنى، وللوجود غاية ماورائية. الفلسفة تسكت عن ذلك، لكنها، كما الأديان، تدعو الإنسان أن يحيا حياة خلوقة منتجة، تحقق له ولبني جنسه تعاونيا الصلاح  والنماء.     

الفلسفة من منظورها ترى الأديان نتاجا إنسانيا، وإن كان مؤسسوها الأنبياء قديما أضفوا عليها قداسة بعزوها لمصدر لاهوتي ماورائي، أي مصدر خارج الاجتهاد الإنساني، ومن ثم راج اعتبار كونها كذلك حتى الحاضر. في المقابل، ألأديان ترى الفلسفة عرضة للخطأ والشطط، وقاصرة عن تحسس البعد الروحي المستبطن  فطرة في الإنسان.  هي أيضا ترى أنها وحدها الممكّنة للإنسان من تحسس ذلك البعد الروحي المطمئن له وسط اضطرابات الحياة وإزاء احتمالات المصير الأخروي.

الفلسفة تتفهم الأديان،  بمعنى:  مع أنها لا تتفق مع منطلقات الأديان وجل وارداتها، إلا أنها تتفهم دواعي تشكل الأديان على نحو ما تشكلت وأورثت الأجيال المتعاقبة.  من جهتها الأديان لا تقر بالأفكار الفلسفية كونها أفكارا غير منضبطة بضابط لاهوتي، أي الضابط الذي تراه الأديان ضروريا لأجل ضمان سلامة التفكير واستقامة المسلك لدى البشر.  إلا أن الأديان لا تغفل عن رؤية ما في المنطق العقلي الفلسفي من مساحة عريضة لتأويل نصوصها الموحاة أو الملهمة تأويلا موضوعيا، أي بما لا يتناقض مع المعرفة العلمية المستنبطة بالاجتهاد الإنساني.  مع ذلك ظلت الأديان ولا تزال ترى الفلسفة خصما متحديا لأطروحاتها الغيبية.  في المقابل، ظلت الفلسفة ولا تزال تحمّل الأديان إعاقة نماء الاجتهاد الإنساني المعرفي الحر.  بالنتيجة، كلاهما ظل ولا يزال ينظر إلى الآخر بتحفظ وحذر.  بينهما ظل الإنسان ولا يزال متراوحا، ومحاولا التوفيق.

رغم ذلك، لا نُعدم في البحث المعرفي سعة للمقاربة بين الفلسفة والأديان، حيث يمكننا النظر إلى الأديان من منظور فلسفي متفهم، وإلى الفلسفة من منظور ديني متفهم.  المقاربة تبدي أنه رغم التباين بينهما في المرجعية المعرفية الرئيسة والمحتوى الفكري، هنالك تلاق بين الاثنين عند مقاصد إصلاح الإنسان خلقيا، إنمائه معرفيا، تيسير معاشه، وإسعاد حاله.  أضف إلى ذلك أن الفلسفة والأديان تشاركا تاريخيا في توسيع أفق المعرفة عامة، كما أنهما ساهما، كل من منطلقه ومنظوره، في تنظيم حياة المجتمعات وترشيدها وتهذيب أخلاق الأفراد.  أضف أيضا أن الإدراك بالوحي أو الإلهام لا يعدو كونه في الحقيقة كمثل الإدراك بالمعرفة والمنطق العقلي، لكون كليهما مُفرَزا عقليا لملكة خاصة به من ملكات العقل. 

لألاحظ أيضا  أمرين آخرين:  الأول، أن الفلسفة والأديان كلاهما، وليس الدينُ وحدُه،  يمكن أن يفتح مدخلا إلى ملامسة البعد الروحي.  البعد الروحي يتجلى في الإيمان، والإيمان هو غير الاعتقاد بعقائد الأديان. عقائد الأديان تتنوع، وتتعارض.  أما الإيمان فحال وجداني واحد يمكن أن يوجد عند أهل أيما دين، وأيضا عند من لا يدين بدين.  من أدل سمات الإيمان نقاء الضمير، صدق الحديث، صالح العمل: سمات يمكن تبينها جليا من عموم أداء المرء تجاه الغير، منطلقا من التزامه الصميم بالمشترك الإنساني.  أضف أن الأديان تلجأ للإغراء بالوعد، وللردع بالوعيد، لحمل الناس على قبول ما تدعوهم إليه، وإطاعتهم لما تمليه.  الإيمان لا يغري بوعد، ولا يردع بوعيد، وإنما يبعث اطمئنانا في نفس المرء إلى سلامة الوجود، وسلامة وضع الإنسان في الوجود، حيا، وما بعد الموت.  إنه يسري من قناعة راسخة، أن سلامة السير وصحة الاتجاه، ضمن وجود متقن، يكفلان، كاستتباع منطقي، سلامة المصير.

ألأمر الآخر:  هنالك على ما أرى علاقة عضوية بين هذه الأربعة: الثقافة، الدين، الحداثة، الحضارة.  الثقافة هي الأصل، تنشأ عفويا في كل مجتمع أثناء مراحل تكونه وتماسكه، بصرف النظر عن مستواه المعيشي أو المعرفي.  من رحم الثقافة، عند نضوجها، يتولد الدين، ومن توسع الدين وتوافره في المعرفة تنبثق الحضارة.  من هنا تعتبر الحضارة أعم إطار لحراك الإنسان: فيها الدين وفيها الفلسفة، فيها العلوم وفيها الفنون، فيها العراقة وفيها الحداثة، فيها، إجمالا، متسع لعموم واردات الفكر من مدارك ومشاعر، يقين وظن، تفاؤل وتشاؤم،  طموح وتطلع للأجدى والأطيب في الحياة.  من زخم ذلك كله تتبلور قابليات الأشخاص والأمم للارتقاء معرفيا وخلقيا واقتدارا على الإبداع، ومن ثم على تنظيم وتدبير سائر الشؤون الحياتية على أوفق وجه.  بهذا المعنى الحضارة هي الحراك الإنساني الأعم، حراك مُبصّر بوعي الإنسان لماهيته الوجودية ضمن فضائه الكوني، ولهوياته الانتمائية ضمن محيطه الإنساني.     

معطيات الحداثة قد تهيئ للأرتقاء الحضاري، لكنها لا تصنعه.  معطيات الحداثة وسيلة لا غاية. هي ممكّن ومنطلق، إذا شئنا اتخذناه سُلماً إلى التحقق الحضاري. وما التحقق الحضاري؟  هو ما يتحصل في داخلنا من تحقق إنساني، لا ما يُستحدث في محيطنا الخارجي من عمران.  بتعبير آخر، هو بقدرما نتحقق حضاريا في ذاتنا نتعرض معرفة، نتهذب مسلكا، ونسمو خلقا.  هو ما نرتقي به إنسانيا، فننضح أداء خيّرا لا منّ فيه ولا أذىً منه تجاه أي أحد، ولا عسف فيه ولا عنف ولا عدوان.  هو ما لا تعالٍ فيه على أحد، ولا تصاغرٍ أمام أحد.  هو ما لا استئثار فيه بما الناس فيه سواء.  هو ما يرسو على مبادئ أريعة تستمد منها جميع حقوق الإنسان: العدل، المساواة، كرامة الإنسان، الشورى.

ختاما: في الحراك المعاصر لا أميل للفصم كليا بين الدين والفلسفة، ولا النظر إليهما كخصمين بينهما برزخ  مستدام.  ما أراه هو اصطحابهما معا – الأديان بجميع مذاهبها، والفلسفة بجميع مدارسها، في نسق تصاحب معرفي وخلقي يثري الخبرة الإنسانية عامة ويوجهها اطرادا وجهة سلام وصلاح ونماء.  لا أرى اجترار الانتقاد والتفنيد تكرارا لواردات الأديان كلما بدا لنا تعارض لها مع المعرفة العلمية المعاصرة والمنطق العقلي، فالأديان، كما أسلفت، مبناها التصديق والتقديس، لا التنظير والتحقيق.  ما أراه هو الانصراف عن ذلك والالتفات إلى ما تحتويه الأديان مما ينفع الناس، وهو كم وفير.  لا أرى الاستخفاف  بمنظومة الضوابط  الخلقية التي أكدتها الأديان، بل تثمين ما أودع الأولون في طواياها من رشد وحض على الاستقامة والصلاح.  أخيرا لا أرى التغافل عما في الصحف الدينية من بصائر حول النفس البشرية ومن نصح بما يصلح به حال الإنسان ويرتقي، وتحذير مما يفسد به ويتدنى، ايا كانت معتقدات الأشخاص والملل، في أي زمان ومكان. 

بهكذا اصطحاب إيجاني قائم على التعارف والتقابس بالحسنى ستتراجع وتيرة التخاصم والتنافر بين الفلسفة  والأديان.  أيضا، بتدريسهما معرفيا في المعاهد العلمية سيتوسع الأفق المعرفي الإنساني ويتعمق، وتتاح إمكانات تسام مطرد نحو الأمثل للإنسانية جمعاء.  بهكذا اصطحاب إيجابي ستحفظ الأديان كما هي جاءت بجميع أطروحاتها، وتصان دون مساس: إرثا ثرا زاخرا يخبرنا والأجيال القادمة عن محتوى تفكير الأولين، بخطأه وصوابه، بغثه وسمينه، بشكل وثيق. 

أما الفلسفة وعلومُها، الطبيعية والإنسانية بسواء، فتترك لتنطلق باجتهاد تنويري حر في سبر أغوار المعرفة واستنباط فهم متطور دأبا للأوسع والأعمق والأصح لطبيعة الوجود وسننه، وفي الاستبصار حول حال الإنسان... كل ذلك دونما رهبة تعترينا من السير قدما في استظهار المكنون واختراق المجهول. الكون كتاب مفتوح، والمعرفة العلمية بشتى أبعادها، تتضاعف exponentially  لدى الإنسان، من جيل لجيل، وعلى مسارها المتسارع يتطور إنسان هذا العصر طارقا بريادة جريئة مجالات كونية ذات ظواهر محسوسة، وأخرى ذات طوايا لطيفة مدركة.

في هذا المشوار المفتوح أمامه والمتاح له، لعل الإنسان المعاصر يجد في كل إرث أسلافه: الفلسفي والعلمي والديني والثقاقي، ما يقوي عزيمته، يرشد مسيرته، يهذب خُلقه، ويجعله يتابع مشواره المعرفي اللامتناهي مستنيرا بتنامي مدارك عقله، مغتبطا بوفور أسباب عيشه، مستأنسا بجماليات الطبيعة والفنون الإنسانية، وفوق كل ذلك، مستمتعا بهبة الحياة.

وسوم: العدد 924