رحم الله تعالى الشاعر محمود سامي البارودي في بعض شعره للناس عبر

من عيون الشعر العربي قصيدة للشاعر الكبير محمود سامي البارودي نظمها وهو يعيش تجربة النفي القاسية بعيدا عن وطنه  في جزيرة " سرنديب " والتي مطلعها :

وقد ضمّنها تجربته الحياتية التي بدأت بإقبال الدنيا عليه لكنها انتهت بإعراضها عنه، فصوّر في هذه القصيدة تحوّل حياته من حسن الحال إلى سوئه  ، وفي ذلك عبرة لمن يعتبر . وفي ما يلي أبيات من مطلع هذه القصيدة  :

ولقد ضمّن الشاعر هذه المقدمة الغزلية  جريا على عادة الشعراء العرب شكاته من انصرام عقد الشباب  يوم كان يكسو اللمّة سواد  تحول فيما بعد إلى شيب .

ويحن بعد ذلك إلى ماضي عيش ذلك الشباب ، وكلما ذكره هاجه هم أو بلبال . ويذكر أنه إذا ما سلت القلوب الحنين ،وقرت في المضاجع ،فلا سلوى لقلبه، وأن على الذي سره هجرانه أن يعلم أنه يصلى بنار ذلك الهجران ، ثم يتساءل هل بعد ذلك الهجران من وصل مأمول يناغيه  .ويصف بعد ذلك إظلام يومه بعد فراق أحبته وهو من إساءة صنع الليالي بعد إجمالها أو إحسانها .

ويعبر بعد ذلك عن مفاجأة صادمة له، لم تخطر له على بال حيث كان يظن نفسه محط ثقة أحبته ،فإذا الأمر خلاف ذلك مع أنه لم يرتكب جرما في حقهم يستوجب عتابا ثم يكشف عن سر هذا العتاب، وهو تحريف الأقوال ذلك أن من يطيع رواة السوء ينفرونه من الصديق بالقيل والقال .

وعبر بعد ذلك عن أدهى مصيبة تصيب الإنسان، وهي أن يغدر به من يكون محط ثقة عنده ، وعن أقبح الظلم ،وهو الصدّ عنه بعد إقبال عليه .

ويمضي بعد ذلك في ذكر سجاياه  بحيث لا شيء يعيبه سوى أنه أبي النفس عصي على الذل لا يساوم في كرامته بمال  أو جاه ، وهو بذلك على سيرة أسلافه آدابا واستقامة لأنه لا يخطر بباله غدر، ولا الشر من خلقه ، فهو سليم النفس حر الإرادة عفيف اللسان لا يختل ولا يغدر، وكل ما في الأمر أنه إنسان يعيش غربة في زمان قل فيه أمثاله .

إن هذه التجربة التي عاشها الشاعر بعد مرحلة المشيب قد يعيشها كثير من الناس تعوزهم فصاحته التعبيرعنها ، ولكنه يرفدهم بشعره ،فيجدون فيه عزاءهم عن شباب مضى ،ويثير ذكره أشجان نفوسهم بعدما خلفه  أثر المشيب  ، و يؤلمها أن تعاني من ذكر الأحبة وقد سلوها، وقرت عيونهم أو قلوبهم بذلك، وسرها التلذذ بهجران من يصطلون  بنار محبتها  .

ولا ينجو كثير من الناس من وقوعهم  ضحايا وشايات كاذبة، وتهم ملفقة تفسد الود بينهم وبين أحبتهم وأصدقائهم ، وتنفّرهم منهم حين يطيعون فيهم رواة السوء عنهم . وما أشد صدمة هؤلاء حين  يفاجئهم الغدر المسبوق بالثقة، وظلم القطيعة بعد الوصال . وقد يراجع هؤلاء أنفسهم بسبب ما نالهم من غدر وقطيعة ، فلا يجدون لها عيوبا سوى أن فيهم إباء ، وأنهم على ما كان عليه صالح السلف من سجايا وآداب واستقامة  لا غدر فيهم، ولا شر مع سلامة القلب واللسان ، وأمانة اليد ، وهم بذلك غرباء في زمانهم وقد قلّ فيه أمثالهم .

هذا عزاء كل من ابتلي بما ابتلي به الشاعر البارودي رحمة الله عليه في هذا الزمان.

وسوم: العدد 945