طبيعة الآثار النفسية التي يخلفها استحضارالإنسان ذكرياته الماضوية

وأنا أقرأ المقال الثاني لكاتب موقع وجدة سيتي السيد الطيب زايد الذي عبّر فيه عن أسفه مرة أخرى على زوال مؤسسة تربوية ابتدائية  بجماعة عين الصفا ناحية عاصمة المغرب الشرقي ، كما تأسف في مقال سابق عن زوال معسكر للاحتلال الفرنسي بعين المكان ، وذلك لما في زوالهما من طي لصفحات  ثمينة من تاريخ الجماعة النضالي والتربوي ، وجدتني أفكر في الكتابة عن طبيعة الآثار النفسية التي تحصل لكل إنسان يستحضر ذكرياته الماضوية  خصوصا بعد أن يودع مرحلة الشباب بخطى حثيثة نحو الكهولة والشيخوخة .

وموقع وجدة سيتي يزخر بالعديد من المقالات لأصحاب أقلام مبدعة باللغتين العربية والفرنسية تناولت موضوع استحضار الذكريات الماضوية بأساليب شيقة تضفي عليها مسحة فنية وجمالية  ، أذكر منها على سبيل المثال لا الحصر مقالا لا زال على الصفحة الرئيسية ل هذا الموقع  تحت عنوان : " بريكولاج في البادية " للسيد محمد شحلال الذي  نقل من خلاله ، وبأسلوب شيق القراء  ممن قضوا ماضي طفولتهم في البادية المغربية  إلى أجواء ذكريات جميلة بالرغم من  بساطة وقسوة ظروف العيش يومئذ ، فشدّ انبهاهم إلى الأهمية التي كان يحظى بها ماعون الفخّار الذي كان يخبز فيه رغيف الخبز اللذيذ  ، وكيف كانت العناية الفائقة به من طرف ربّات البيوت ، وكيف كان يجبر كسره إذا كسر كما تجبر كسور العظام ، وكم وددت لو أنه أشار في مقاله أيضا إلى الفرن الطيني الذي كان يسد مسد ماعون الفخّار . ومعلوم أن كلمة " ماعون " والتي تجمع على مواعين تطلق على كل ما كان يحتاجه الإنسان  في بيته من أدوات في الزمن الماضي كالقصعة ، والقدر ، ومختلف الأواني ...

ولا شك أن ماعون الفخّار الذي ذكر السيد شحلال بعض أسمائه باللغة الأمازيغية مثل " بوغروم " و" إمسخر " وهو ما يقابله في اللغة العربية " بولخباز " والمسخر " و" الفرّاح " ، و لعل هذه  التسمية الأخيرة تدل على ما كان  يدخله هذا الماعون من فرح و سرور على النفوس المتطلعة  بشغف ولهف إلى رغيف الخبز اللذيذ ،بالرعم  مما كان يصيبه من  سخام تتأذى منه العين ، وهو السبب كما ذكر السيد شحلال  وراء التلفظ بعبارة " حاشاك "  التي  تذكر إذا ذكرت الأقذار أو الألفاظ النابية أمام السامع، والتي تذكر أيضا إذا ما ذكرت  بعض الحيوانات كالحمر والبغال والكلاب ، مع أن هذه ذكرت في كتاب الله عز وجل دون أن تستقذر كما استقذرت  في ثقافتنا سامح الله من سن سنتها السيئة  .

والذي يعنينا في ذكر مقالي السيد الطيب زايد ، ومقال السيد محمد شحلال ، هو تناولهما لموضوع الذكريات الماضوية التي لا يخلو إنسان مهما كان من استحضارها  بسبب ارتياح  منشود تجده نفسه فيها لأنها جزء من كيانه  .

والغالب على استحضار الإنسان الذكريات الماضوية هو الشعور بالحنين إليها والذي قد يبلغ  الأمر بصاحبه حد ذرف الدموع كما فعل أول من وقف على الأطلال الدارسة  في جاهلية العرب ، واستوقف، وبكى، واستبكى والذي لا زال الناس يرددون  شطر بيته الشعري الشهير : " قفا نبك من ذكرى حبيب ومنزل ".

وبقدر ما يتلذذ الإنسان باستحضار ذكرياته الماضوية ، فإن لذته يخالطها أسى وأسف على فوات أو ضياع ما تعلقت به النفس، وطواه الزمن الذي يطوي كل شيء ، و لا يبقى إلا وجه رب العزة ذي الجلال والإكرام .

ونظرا لما تحدثه الذكريات الماضوية في نفس الإنسان  من مشاعر جيّاشة ، فإنه يحرص كل الحرص على أن تبقى منها آثار يشده الحنين إليها ، وهذا ما جعل السيد زايد يأسف على زوال المعسكر والمدرسة  في قريته ، وهو  نفسه ما جعل السيد شحلال يلتفت متشوقا إلى ماعون الخبز الخزفي  في باديته ، والحديث عن  طرق جبر كسره .

ولا يوجد إنسان لا يشتاق إلى مرابع صباه كما يقال ، لذلك نجده يأسف لزوالها أو ضياعها كما هو الشأن بالنسبة لزوال  أو مسكنه أو حيه أو  مدرسته أو معلم من المعالم التي تعلق قلبه بها  ... وأذكر أن قدماء تلاميذ مؤسسات تربوية في مدينة زيري بن عطية قد بكوا زوالها خصوصا تلك التي تحولت إلى مجرد فضاء للتسكع ،وقد كانت فضاء تربية وعلم ومعرفة لا سامح الله من كان سببا في زوالها  قاطعا رحمها .

وقد يود البعض لو أنهم كان بإمكانهم استرجاع ماضي صباهم أو شبابهم ليغيروا مساره لكنهم واهمون لأنهم لا يمكنهم أن يجدوا بديلا عنه ليس لأنه مستحيل استرجاعه بل لأنه  لا يوجد أحب إلى النفس منه ،وإن كان فيه قسوة وآلام ومعاناة وانتكاسات . وأذكر أن أحد الأصدقاء الأعزاء ذكر لي  يوما إساءة  بعض أقاربه إليه ،فتمنى لو أن عقارب الزمن  تعود إلى الوراء كي يختار مسار غير المسار الذي كان له معهم ، فقلت له  أما أنا فلن أبغي بديلا عن ذكرياتي حلوها ومرها ، وكل ما أتمناه لو كان بإمكانها أن تعود مرة أخرى هو أن أحياها بمشاعر الحنين إليها التي أجده اليوم ،والتي لم أكن أجدها يوم كنت أعيش لحظاتها .

إن الذكريات الماضوية تكون عبارة أمور بسيطة في أوانها لكنها مع تراخي الزمن تصير عبارة  عن تحف نادرة لا تقدر بثمن . فكم من صورة على سبيل المثال  يلتقطها الإنسان لنفسه أو تلتقط له  في  صباه أو في شبابه ، فيمضي عليها زمن طويل، فتصير عنده من أنفس النفائس  لا يمكنه التفريط فيها ولن يقبل أن يساوم في التخلي عنها مهما كان الثمن  ،والسبب هو تعلق النفس بذكريات تختزلها تلك الصورة .

ومعلوم أن الذكريات تمضي مع تراخي الزمن ، ولا يبقى منها إلا الأدلة عليها ، كما أنه لا يبقى منها إلا المشاعر المرتبطة بها والتي تصير مجرد أحلام  لهذا قال الشاعر :

تأمل إذا ما نلت بالأمس لذة  = فأفنيتها هل أنت إلا كحالم

والإنسان  قد يعيش حاضره متبرما منه ،لكنه حين يصير ماضيا يتحول إلى ذكريات يحن إليها، ويتلذذ بها  وبالحديث الذي لا يملّ عنها . و غالبا ما يكون أكثر حديث الإنسان  في حياته حين يكبر ويشيخ عن ذكرياته، ويكون  حديث حنين وشوق ،وهو ما لا يحس به  تجاه وقائع حياته في حاضره ، كما أنه لا يتوقعه في ما ينتظره في مستقبله الذي لا يعلمه إلا علاّم الغيوب جل في علاه .  

وسوم: العدد 948