صور من اليأس أضنانا

زهير سالم*

واليأس يأسان..

الأول اليأس من روح الله وهو في الدين كفر، وفي الحياة عدم..

والثاني :اليأس من واقع لا يحيط به الإنسان، ولا يقدر على التأثير في محركاته، لا دفعا ولا جلبا، فيصبح صوت الإنسان فيه " لغا" وتحركه فيه إتعاب للخيل في باطل.

ويتمادى اليأس الثاني -فيما أتابع- ببعض السوريين حتى صار أملهم فيمن يسمون "القادة المعارضين" مثل أملهم في بشار الأسد . أو يأسهم منهم مثل يأسهم منه. وكل ما يصدر من هنا أو هناك برأيهم ، مجرد أصوات ليس فيها زقزقة ولا تغريد، بل كل ما فيها نعيب وعزيف..

وأنا أكتب هذا الكلام في التعبير عن اليأس، أريد أن أؤكد أنه ليس لي قضية شخصية مع فرد أو تيار أو تجمع أو توجه ...

بل هذا موقف عام من حصيلة عامة، والله يعلم المفسد من المصلح فيه. وسأظل أردد لا شيء شخصي فيما أكتب أو أقرر بيني وبين أحد من الناس. منفردين أو مجتمعين.

وأسوء ما يكون الإنسان في التيه، أن يكون في التيه ، ويحسب أنه على طريق فيجد، وإنما إلى الهاوية يسعى كمن يسعى إلى حتفه بظلفه، وعلى نفسها تجني براقش، وأكثر ما يقال للإنسان إذا كان هذا حاله : يداك أوكتا وفوك نفخ. وأوعظ ما يخاطب به "ويحسبون أنهم يحسنون صنعا!!" (وَيَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلَى شَيْءٍ)

وإن تمادى بالناس الزمن وهم على ما هم فيه، فسيكون الليل الذي ثاروا عليه النهار الذي إليه يتشوقون، للحُلكة التي تستقبلهم، والتي جلبها إليهم بعض من حسبوا يوما وظنوا وخالوا....

كثيرون يجادلون في اليأس، ويطالبون بالتبشير، والتبشير بغير معطيات أولية ينبني عليها هو نوع من التغرير والتخدير،وإذا كان باسم الدين كما يفعله البعض فهو الذي سماه ماركس يوما وهم لا يشعرون.. وضرب رسول الله بمعوله الصخرة يوم الخندق وهو يقول: الله أكبر إني أرى كنوز كسرى وقيصر ...ذلك أن خطام قضيته لم يكن بيد بيدرسون ولا بوتين ولا بايدن..

صور من اليأس ..

صورة...

يقول :

كنت أتابع نشرات الأخبار على كل الفضائيات، أتابع التحليلات، والبيانات والعاجل والبطيْ.. قلتُ واليوم..

قال: كان وردي القرآني في كل يوم جزأ فجعلته ثلاثة أجزاء، وكنت سبحتي هي المقررة بعد الصلوات، والآن في كل يوم وليلة أقرأ العتق الأكبر والعتق الأصغر وواحد وأربعين سورة يس على نية دفع البلاء وتيسير الفرج أنشد المنفرجة، وأردد البردة وأستمع إلى تأوهات ابن الفارض والحلاج ....

ما لي وللناس كم يلحونني سفها ...ديني لنفسي ودين الناس للناس..

صورة..

قال آخر ، وكل ما أورده واقعي ..

كنتُ عقيدا، أركان حرب، وخرجت مع قومي وأهلي على أمل، وحاولت بينهم، وفيهم أن أبذل أو أبحث عن مسار لأبذل، فسدت في وجهي السبل، وقالوا نكفيكم..

فما وجدت أخير لي من أن أجمع من حيلتي، وأستدين من بعض أهل خاصتي، وأفتتح محل سمانة "بقال" أستدر منها قوتي وقوت عيالي وأحفظ فيها ماء وجهي. وأنا عند أهل الحي "الحجي" الذي يناول أحدهم ربطة خبز، والآخر كيلو سكر .. وأسأل الله الفرج ..!!

صورة..

وقال شاب ثالث..

كنت طالبا في المدرسة الثانوية، كنت متقدما بين أقراني، ونادوا الركوب، قلت تلك عادتنا، وركبت مع من ركب من أهلي، ..ثم بعد بضع سنين علمت ما لم أكن أعلم، ثم نزعت، وعدت إلى المدرسة التركية، ودرست الثانوية ونجحت في " اليوس" وأنا الآن طالب جامعة أنتظر أن أتخرج، وأبحث عن فرصة في سوق العمل... قلت: والحرية والكرامة الإنسانية، فطوى عني كشحا وانصرف...!!

صورة ...

قال كنت ...

وأصبحت الآن أعيد فتح الدواوين القديمة والحكايات القديمة، أعيد قراءة رسالة الغفران للمعري، والكوميديا الإلهيه لدانتي، أريد أن أكتشف أوجه الشبه .. أعيد قراءة "عيون الأخبار،" والدون كيشوت، يقول لي " الدون كيشوت" "ثربانتيس" من القرن السادس عشر، وكأنها تحكي حالتنا العقلية اليوم، يغريني لأقرؤها، ويؤكد أنني لن أندم، يقول هي في ألف صفحة فقط، وهي تمثل العقل الاسباني يوم ثار الاسبان على المسلمين، حالة عقلية شبيهة جدا بحالتنا اليوم خللا وخبلا. لقد ظلمها المعلمون إذ اختصروها في سطرين، هي دراسة دقيقة لتضاريس العقل الإنساني في مرحلة من تاريخ الحضارة ربما نحن نعيشها اليوم ، المثال والخيال والوهم والمعجزة والسحر والمعارك الصغيرة تعظم في عين الفارس الذي يجد بغله فرسا أتذكر كيف غدا مثلا أننا نقول وفك العالم " المعارك الدنكوكيشوتية"!!

ويتابع اليائس الكئيب:

ثأعود إلى "اللاهوت والسياسة" "سبينوزوا" وإلى "غياث الأمم في التياث الظلم " للجويني، ثم أقرأ " فاوست " لغوته وأعود إلى " المبسوط" للسرخسي، وإلى كتاب الفروق للقرافي ..

وهكذا أجدني قد أمضيت يومي ويسألني: هل تسمي تشاغلي وليس انشغالي بهذا يأسا ؟؟

ثم التفت إلي متسائلا : منذ أيام عرضوا على برنامج نتفيلكس فيلما عنوانه : "لا تنظر إلى السماء" هل شاهدته؟؟ قلت: لا وهززت كتفي لا مباليا!!

قال وتزعم أنك تشتغل في السياسة وتناصر ثورة!! عجبا لك، بل لعلك أشد يأسا مني!!

وأردف ..

ولو كتبت أربعين مجلدا في خواء الحضارة وهزالها، وفي نظرية المؤامرة، ما أديت ما أداه هذا الفيلم. ولو ألقيت أربعين محاضرة في الدعوة إلى الله، ما بلغت ذروة تأثير اللحظة التي تشابكت فيها أيدي العلماء الحقيقيين الصادقين يجأرون إلى الله بترديد الصلوات، قال لي انتبه أنا لا أبالي كثيرا بأي لغة تكون الصلوات ، وأعلم أن رب العالمين ينادى بكل اللغات .....وابتسم وهو يقول: لقد علموك أن لا تقرأ الفتوحات المكية...فلماذا تبكي على دمشق!!

صور ..وصور ..وصور ..وحكايا هل نستمر في الحكاية أو نكف، نستمر في الدوامة أو نلقي أنفسنا في العباب أو الفراغ ..؟؟

ومائة مرة "يا لطيف" بعد كل صلاة تبلسم الروح، وتشغل عن القيل والقال..

لا أكتب ضد أحد ... بل ضد نفسي الأمارة بالسوء...

وأخطر ما في الأمر أن صناع كل هذا اليأس ، يزعمون أنهم غير يائسين.. يطبخون السم ولايذوقونه، يبيعونه ولا يشترونه ..

والله حسبنا وهو نعم الوكيل..

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 961