سيكولوجية الإنسان المقهور...

زهير سالم*

وهذا عنوان يمكن أن يكتب فيه كتاب. ونحن بشكل عام مجتمعات أو شعوب مقهورة وعلى كل المستويات، السياسية والاقتصادية والاجتماعية والثقافية، وحتى الدينية، وليسامحني المشايخ، عندما تذهب يوم الجمعة إلى المسجد، فتجد خطيبا، لم يختر موضوعا لخطبته، ولم يحضّر لها، وجاءك يشرّق ويغرّب ويزيد ويعيد!! بالأمس كان أخ يستفتيني: قرب بيته في لندن مصلى، والإمام أعجمي لا يقيم حروف العربية، ويرفضون أن أؤمهم مع أنني قارئ مجيد .. هل أصلي الجماعة وراء هذا الذي لا يقيم التلاوة أو أصلي في بيتي ؟؟ ومع أنني انقهرتُ كما صاحبي مقهور، قلت : اسأل مفتيا يفتيك..!! الدنيا قهر

 والقهر وقد يكون جماعيا كما أشرت، وقد يكون فرديا، تقهر فيه الدولة الفردَ، أو المجتمع الفردَ، أو الفردُ الفردَ. وأحيانا يكون القهر تداوليا أو تبادليا فكل واحد في السلسلة مقهور وقاهر ...

وسيكولوجية المقهورين، أو سيكولوجية الإنسان المقهور عنوان عريض فيما يسمى " علم النفس" أو "الصحة النفسية" حيث يتبارى الأطباء والعلماء في تفسير أفعال المقهورين.

وحتى نتفاهم أكثر ونحن نفتح هذا الديوان أعترف لكم، أنا كثيرا ما يغلبني القهر على أمري، فأكتب مقالات، أو أرسل رسائل، أو أتكلم مع بعض الناس، وأنا مقهور، وبطريقة لا تعبر عن طبيعتي التي أظن أنها "رضيّة" ولعل بعضكم يخالفني. انقهر وأتصرف وأنا مقهور وأنتظر ممن حولي أن يتفهموا وأن يتحملوا..." حمال الأسية يا قلبي" وكثيرا ما أكتب المقال وأنا مقهور وأعلم لأنني بعدُ سأمحوه ، وأيام الورق سأمزقه، ومع ذلك أكتبه وأجوده كنوع من العلاج النفسي...

ثم كثيرا ما أتابع بالمقابل مواقف وكتابات لأناس أتفهم أنهم مقهورون من طرائقهم، ومن أسلوب خطابهم، أو من لغة جسدهم، وأن القهر قد بلغ عند بعضهم مبلغه، وأنه قد أخرجهم عن أطوارهم، وعن حدود اللياقة التي يتعاملون بها عادة. فآخذ نفسي أن أبتسم وأنا أتلقى قذائفهم أو صواعقهم المحرقة، يعاملونني وكأنني قاهرهم أو صانع مأساتهم.، مع أنني لم أقهر في حياتي أحدا. ومع العلم أنني قد أكون من أكثر الناس تعاطفا معهم.

نعم أشعر، وأنا أتلقى قذائف هؤلاء أحيانا، أن الذي أمامي هو أخي المقهور، وأتذكر الوصية البلدية "خليه يفش قهرو بكلمتين". ولذلك أطنش الكثير، ولا آبه للأكثر، يقول لي بعضهم أحيانا بعد لكمتين أو كلمتين "ليش ما بترد أستاذ زهير" أقول له في قلبي الحمد لله مشي الحال. وأكثر ما يكون الوضع مأساوية حين أتابع مقهورا يرد على مقهور، وينسيان كلاهما أن الذي قهرنا وأخرجنا من ديارنا، وأجلب علينا الروس والإيرانيين هو بشار الأسد ...هو لستَ أنتَ، ولستِ أنتِ، ولستُ أنا ،

وأسوأ ما يكون حال المقهور حين لا يقدر على قاهره، فيقوم بما يسمى في علم النفس بعملية "التحويل" فيحول مشكلته من كونها مع ظالمه أو قاهره الأول إلى من يليه... وأكثر ما يفعله المقهور أن يحول غضبه أو التنفيس عن قهره، إلى أكثر فرد كان يؤمّل فيه، ثم شعر أنه خذله، أو لم يقم بحق نصرته، أو أنه أخل بواجبه نحوه وعلى هذا الأساس أفسر مواقف الكثيرين الذين كانوا يؤملون ثم انكسرت آمالهم، ويغيب عنهم أن المعركة في سورية خرجت منها مصفّرة دول وحكومات وجيوش.

وفي سيكولوجية المقهور ،ولا أريد أن أطيل عليكم أنه أحيانا يقوم بعملية التحويل ضد الأهل والذرية والعشيرة، وقد تتمادى به الحالة حتى يصبح عدوانيا يشكل خطرا على من حوله. تذكرون المثل العامي المعبر "ما قدر على حماتو فش قهرو بمراتو" وتضيع الزوجة بين أرجل أمها المتسلطة حتى على صهرها، أو مدير الدائرة الذي يضطهد زوجها في الصباح، وتدفع هي وأولادها ثمن الاضطهاد بالليل، أو يضيع فئام من الناس مظلومون بسلطة جبار متغطرس، فيعتبر هذا المقهور هؤلاء الناس مسئولين عن مظلوميته وقهره، فينسى ظالمه وقاهره الأول، ويشتغل على شركائه في القهر والظلم ..وهنا ينبغي دائما للصدر الأوسع أن يتسع، وأن يتحمل، وأن يبذل تفهما وحنانا وعونا قدر ما يستطيع ..تتذكرون قول القائل:

فسيروا على سيري فإني ضعيفكم.. وراحلتي بين الرواحل ظالع..

فطالما وجد في ركبنا أو قافلتنا راحلة ظالع فعلينا أن نرفق ببعضنا قدر ما نستطيع.

ويظل يرطن ويهجر يحمّل جماعة الإخوان المسلمين مسئولية ما هو فيه من قهر، وينسى أن جماعة الإخوان المسلمين والعاملين فيها، نزل بهم من القهر على مدى ستين سنه ما لو نزل بالجبال لتصدعت. وينسى أن جماعة الإخوان المسلمين لم تملك لا الطيارة ولا الدبابة ولا المدفع ولا البارودة، وينسى أنها ظلت محاربة على مدى عقود من قبل ملوك الجن الأحمر والأزرق والأسود. يبتسم لي صديق ويقول: هل تعلم أن هناك عقودا خاصة برواتب، لجيوش يرتزق مجندوها في حرب هذه الجماعة والتأليب عليها..تبسمت وقلت عسى أطفالهم بخير.

وهؤلاء مقهورون أيضا، ومشغلوهم قال الله فيهم ( إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُواْ يُنفِقُونَ أَمْوَالَهُمْ لِيَصُدُّواْ عَن سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنفِقُونَهَا ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ...)

وأخطر ما يصير إليه المقهور في فضاء سيكولوجية القهر، أن يرتد بالانتقام من قاهره ليكون بالعدوان على نفسه. فيضرب صدره، أو يشج رأسه، أو يشق بطنه... والعياذ بالله، وهذا كثيرا ما يكون مع أصحاب "الحَصَر" النفسي الذين قد تنتهي حالتهم إلى " الانتحار"

والمسلم في تسليمه الأمر كله لله، وإدراكه أن كل شيء يمضي بقدر الله، وأن مع العسر يسرين، يستطيع أن يتجاوز كل هذه الأنواع من الابتلاء ..وأحكي كل هذا لأقول أن بعض الناس إنما يظهرون غضبهم وحنقهم على القوم الذين كانوا أكثر حبا لهم، وتأميلا بهم... ودعوتي لتفهم هذا عندما نتعامل مع الناس ..

ولو أردت أن أفضي إليكم لقلت : وإنني مقهور قهرا لو وزع على أهل الأرض كافة لا نقهروا ...ولكن مرحبا بجمعكم ونبقى بإذن الله بعضنا لبعض كنفا وظهيرا ..ونستعين بالله (وَهُوَ الْقَاهِرُ فَوْقَ عِبَادِهِ)

اللهم خذ الظالمين إليك لفيفا. وعليك بهم فإنهم لا يعجزونك.

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 962