أبواب الأقصى والتهويد بصكوك الآلهة

صبحي حديدي

لم تكن مفارقة أنّ عمدة القدس المحتلة «العمّالي» و«الليبرالي» و«الحمائمي» تيدي كوليك كان الرائد في إجراءات التهويد الأولى التي أعقبت مباشرة احتلال القوات الإسرائيلية للشطر الشرقي من المدينة، ولا يلوح أنّ نظائر مفارقات الاحتلال الإسرائيلي الراهنة سوف تبدّل الجوهر. يومذاك بدأ كوليك من استثارة الحميّة وغرائز الهستيريا الجَمْعية، فأمر بإلغاء عبارة «حائط المبكى» لأنّ زمن الدموع قد ولّى إلى غير رجعة كما ساجل في تبرير القرار، وكذلك لأنّ الجدار لن يخدم بعد الآن إلا في استذكار «الخلاص» و«الانعتاق» و«الحرّية». ولن يطول الوقت حتى انتقل العمدة «المعتدل» إلى تعزيل الفضاء الجغرافي المحيط بالحائط الغربي، فهدم حيّاً عربياً بأكمله بين ليلة وضحاها، وأقام الساحة الحالية كي تخدم أغراض العبادة والسياحة، وكي يتاح للجنود الإسرائيليين حمل المشاعل والطواف من حول الجدار قبيل تخريجهم وزجّهم في معارك إسرائيل.

تسعة أعشار الصهاينة يتساوون أو يتطابقون أو يتقاربون في الموقف من يهودية القدس المطلقة: الديني المتشدد إلى جانب العلماني المعتدل، واليميني المستنير في ركاب اليساري الليبرالي، والعمدة الليكودي اليميني من طراز إيهود أولمرت، أو كوليك خصمه في المنصب، أسوة بمتطرّف من عيار أوري ليوبينسكي الذي دعا إلى… هدم المسجد الأقصى، ليس أقلّ! وذات يوم غير بعيد كان المدير العام للآثار والمتاحف في دولة الاحتلال قد تجوّل في القدس القديمة ساعة زمن فاستسهل، بكلّ ما ينطوي عليه الفعل من استهتار وخفّة وغباء، قَطْع الشوط القصير الأخير بين الحلم الأقصى والهستيريا المفتوحة؛ فاقترح إعادة تحقيب التاريخ الإنساني على النحو التالي: منذ الآن سوف نطلق على عصر الحديد اسم «عصر بني إسرائيل»، وعلى الهيلليني اسم «العصر الحشموني»، وعلى الروماني اسم «عصر الميشنا»، وعلى البيزنطي اسم «العصر التلمودي»….

ومعروف أنّ للمسجد الأقصى عشرة أبواب مفتوحة هي الأسباط وحطة والعتم والمغاربة والغوانمة والناظر والحديد والمطهرة والقطانين والسلسلة، وله خمسة أبواب مغلقة، هي الثلاثي والمزدوج والمفرد والرحمة والجنائز؛ ويندر أن يكون باب قد نجا من مخيّلة التهويد العشوائية العمياء، سواء انتمى إلى الأموي عبد الملك بن مروان أو الأيوبي الناصر صلاح الدين أو المملوكي الناصر محمد بن قلاوون؛ ويستوي أن يُهوّد الباب عبر الاستيطان ونبش الشعائر من باطن سحيق زائغ ملفّق، أو عبر أحكام قضائية عشوائية بدورها وتتكئ على تزييف أسفار التوراة أكثر بكثير من اعتمادها على أيّ نصّ قانوني…

وقبل أن يسجّل أولمرت سابقة أن يكون أوّل رئيس حكومة في دولة الاحتلال يدخل السجن بتهمة الفساد، كان عمدة القدس الأسبق قد أرسل خبراء الآثار ومهندسي الترميم إلى باب المغاربة، تحت حراسة 2000 من رجال الشرطة، يحفّ بهم تهليل الحاخام شموئيل رابينوفيتش. وكانت حمّى تهويد الباب لا تُشعلها الرواية التوراتية وحدها، بقدر ما تغذّي لهيبها صفات الباب ذاته: أنه، أيضاً، باب البراق الذي يُعتقد أنّ النبي محمد دخل منه إلى الأقصى؛ وهو، كذلك، مدخل الخليفة عمر بن الخطاب إلى الأقصى.

وبمعزل عن جرائم الاحتلال الأشنع على مدار تاريخ المنطقة، وقبل عقود سبقت تأسيس الكيان الإسرائيلي، كانت المؤسسة الصهيونية قد عكفت، منهجياً كما يتوجب القول، على محو أيّ فارق بين علم الآثار والديانة؛ على نحو يطمس أيضاً الكثير من الرسائل المعتادة المقترنة بعلم الحفريات في كلّ ما يخصّ إضاءة الأحقاب السالفة، سعياً وراء إعادة كتابة/ تشويه تاريخ فلسطين. نيل سيبرمان، مؤلف كتاب «نبيّ من بين ظهرانينا»، الذي يروي سيرة إيغال يادين «المحارب وعالم الآثار»، يقول إن التنقيب عن الآثار اليهودية كان بمثابة «ترخيص شعري للاستيطان الإسرائيلي المعاصر»، بحيث تنقلب الرقيمات والألواح المكتشفة إلى ما يشبه عقود ملكية، مع فارق أنها تُقدّم كصكوك مقدّسة مكتوبة… بمداد الآلهة.

وسوم: العدد 978