هل فعلا خطب الجمعة تعالج قضايا الواقع المعيش ؟؟؟

إن الله عز وجل ما دعا عباده المؤمنين للسعي إلى بيوته يوم الجمعة من أجل ذكره وتركهم ما دون ذلك من شؤون دنياهم إلا لغاية كبرى لهم فيها منفعة في عاجلهم وآجلهم ، ذلك أنهم يجتمعون لسماع خطبتين تندرجان ضمن ذكره سبحانه وتعالى، وتسدان من حيث الجانب التعبدي مسد ركعتين من صلاة الظهر في سائرأيام الأسبوع ، ولكن لا يقتصر دورهما على ذلك فحسب بل تعرضان قضايا الواقع المعيش على كتاب الله عز وجل وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتصحيح مساراتها ، ولتسديد انحرافها عن هدي الله تعالى، وفي ذلك إصلاح للناس  وصلاحهم . ولقد جعل الله تعالى حضور ذكر الجمعة خيرا من كل ما قد يخيل أنه أهم منه من شؤون وأحوال الناس، فقال جل شأنه : (( يا أيها الذين آمنوا إذا نودي للصلاة من يوم الجمعة فاسعوا إلى ذكر الله وذروا البيع ذلكم خير لكم إن كنتم تعلمون )) ،  وفي هذا ما يدل على درجة أهمية خطب الجمعة التي فيها توجيه المؤمنين  إلى هدي الله تعالى، وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم في كل أحوالهم .

وبناء على ذلك يجب على الناس حين يتوجهون إلى المساجد يوم الجمعة أن تكون قناعتهم راسخة بأنهم يريدون وراء عرض أنفسهم  وأحوالهم على الكتاب والسنة لتقييمها تقييما يعقبه تصحيح في حال تنكب الصراط المستقيم أو يعقبه  تعزيز الثبات على الاستقامة عليه . ودون هذه القناعة الراسخة يكون حضورالناس الجمع حضورا شكليا لا طائل من ورائه ، وليس كما يظن الكثيرون أن مجرد هذا الحضور الشكلي فيه أداء لواجب ديني حتى وإن خرج الواحد منهم بعد سماع ذكر الجمعة خاوي الوفاض ، ودام حاله على ما كان عليه من انحراف عن الصراط المستقيم ، وقد يحتج هؤلاء بقول رسول الله صلى الله عليه وسلم : " إنما الأعمال بالنيات " هكذا ببتر ما أعقب هذا القول من توضيح نبوي جاء فيه " وإنما لكل امرىء ما نوى ، فمن كانت هجرته إلى الله ورسوله ، فهجرته إلى الله ورسوله ، ومن كانت هجرته إلى دنيا يصيبها أو امرأة ينكحها ، فهجرته إلى ما هاجر إليه "  بهذا بيّن رسول الله صلى الله عليه وسلم كيف ترتبط النوايا بالأعمال ، لا كما يظن الكثيرون ممن يبترون حديثه ، فيظنون أن نواياهم وحدها  تجزىء عن أعمالهم .

ومن الفصل بين النوايا والأعمال أن تكون نية  البعض وراء حضور خطب الجمعة  حضور شكليا دون حصول استيعابها كما ينبغي، ودون عرض الذوات عليها لتقييم مدى استقامتها على صراط الله المستقيم في كل أحوالها .

وإذا ما لزم وجوبا من يحضرون عرض ذواتهم على خطب الجمعة ، فإن من يتولون تبليغها إليهم يلزمهم وجوبا أيضا أن تكون مستوفية لشرط معالجة  قضايا الواقع المعيش بعرضها على كتاب الله عز وجل، وعلى سنة رسوله صلى الله عليه وسلم لتصحيحها وتسديد ما اعوّج منها عن هدي الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم على ضوء تعاليمهما ، أما أن تكون تلك الخطب في واد ، وقضايا الواقع المعيش في واد آخر لا رابط ولا صلة بينهما ، فإن حال من يلقونها  أسوأ من حال من ينصتون إليها، ولا يحصلون منها على شيء مما يعود عليهم بالنفع في دنياهم وأخراهم .

 ومعلوم أن  خطب الجمعة التي لا تعالج قضايا الواقع المعيش والتي يكون منها ما هو ملح إلحاحا ،لا تجد تجاوبا عند من يحضرونها بل ينصرفون منها  وفي أنفسهم شيء من إهمال قضاياهم الملحة ، وفيهم من لا يعيرها أذنا بله يستوعبها ذهنه فتترك فيه أثرا يذكر.

وإن خطب الجمع التي تنصرف عن معالجة قضايا الواقع المعيش تجعل كثير من الناس يتأخرون عن ارتياد المساجد حتى يفرغ الخطباء من إلقائها ، ويكتفون بحضور ركعتي الصلاة  تحاشيا لإثم التخلف عن أدائهما دون أن  يكون في نظرهم  آثما من يتخلف عن حضور خطبتين لا طائل  ولا فائدة من حضورهما  وقد انصرفتا عن قضايا واقع  معيش ملحة إلى غيرها مما لا يمت إلى هذا الواقع بصلة من قريب أو من بعيد .

وقد يقول قائل إن خطب الجمعة لا تعدم أن تكون مفيدة وهي تتلى فيها آيات بينات من الذكر الحكيم ، وتروى فيها أحاديث نبوية شريفة ، وآثار، وأخبار، وأشعار، وحكم ، ومواعظ ... والرد على القول يكون عبارة عن سؤال فهل كان القرآن الكريم ينزل مهملا قضايا الواقع زمن نزوله ؟ وهل كانت الأحاديث تصدر عن رسول الله صلى الله عليه وسلم مهملة هذه القضايا ؟ ولا يجب أن يفهم من هذا الكلام أن القرآن الكريم والحديث النبوي الشريف قد استنفدا دورهما بانتهاء زمن البعثة النبوية كما يحلو هذا القول لبعض دعاة هجرانهما في هذا الزمان بل هما قد عالجا ما كان من قضايا في عصر النبوة ، وتضمنا أحكاما تنطبق على كل القضايا  المماثلة عبر العصور حتى تقوم الساعة، لأن العبرة في القرآن الكريم ، والحديث الشريف  ليست بخصوص أسباب قضايا زمن نزول الوحي  بل بعموم ألفاظهما  لأنهما موجهان للبشرية قاطبة حتى قيام الساعة.

وكل خطيب يعرض في خطبته  قرآنا أو حديثا ، ويجعلهما قيد قضايا فترة النبوة وحكرا عليها دون قضايا مختلف العصور، ودون قضايا واقعه المعيش هو أبعد ما يكون عن استيعاب دلالة عالمية دعوة رسول الله صلى الله عليه وسلم . والحاذق من الخطباء من يجد لكل قضية من قضايا واقعه المعيش ما يناسبها من قرآن ومن حديث قياسا على ما سبق من قضايا في عصرالنبوة وفي  باقي العصور التي تلته ، وسجلها ثقات أهل العلم عبر التاريخ .

ومعلوم أن ما يجعل كثير من الخطباء يتجنبون تناول  العديد من قضايا الواقع المعيش هو الخوف من الوقوع في الحرج بسبب طبيعة تلك القضايا خصوصا إذا كانت تستوجب الانتقاد ، وتقتضي ألا يخشى في التطرق إليها لوم لائم مهما كان كما أمر بذلك الله عز وجل  رسوله صلى الله عليه وسلم ، ومن خلاله  كل المؤمنين خاصة منهم من ندبوا أنفسهم للدعوة إليه في قوله : ((  الذين يبلّغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحدا إلا الله وكفى بالله حسيبا )) .

وحتى لا يكون حديثنا في هذا المقال دون ما يدعمه واقعيا لا بأس من الاستشهاد بخطبة الجمعة الفارطة التي وافت بها الوزارة الوصية الخطباء ، وكانت بمناسبة تقديم وثيقة الاستقلال ، وقد صاغها محررها صياغة ركز فيها على الجانب التاريخي دون أن يتخطى ذلك إلى التذكير بأن تلك الوثيقة كانت عبارة عن كلمة حق منكرة لظلم الاحتلال اضطلع بها مجاهدون لم يخشوا بطش المحتل، وكانت خشيتهم لله تعالى ، وأن ما يجب أن ينبه إليه في هذه الخطبة هو توجيه الناس إلى الاقتداء بأولئك المجاهدين كلما عرض لهم بغي مهما كان نوعه مصداقا لقوله تعالى  في وصف المؤمنين: (( والذين إذا أصابهم البغي هم ينتصرون )) ، فالذين قدموا وثيقة الاستقلال انتصروا لما أصابهم بغي الاحتلال ، وكان من المفروض أن يشير محرر تلك الخطبة أنهم يجب أن يكونوا لنا قدوة نقتدي بهم كلما أصابنا بغي مهما كان نوعه أو مصدره . وكان بإمكان محرر تلك الخطبة أن يجمع بين حدثين تزامنا ، وهما مناسبة حلول تقديم وثيقة الاستقلال ،  ومناسبة حلول اليوم العالمي لمحاربة الفساد ، وليس بينهما إلا فارق يوم واحد ، وبينهما  صلة وعلاقة، ذلك أن الوثيقة كانت محاربة لفساد هو الاحتلال الفرنسي الغاشم الذي لا زال خلفه اليوم يمكر بنا المكر السيء، ويبغي علينا في أمور ، وأنه لا بد أن ننتصر لبغيه علينا ، وننتصر كلما أصابنا بغي مهما كان ومهما كان مصدره ، وبهذا يكون صاحب هذه الخطبة قد لامس بالفعل قضية واقع معيش لا يخلو من مفاسد .   

وما دام خطباء الجمعة يخشون غير الله تعالى في أداء واجبهم ، وينصرفون  في خطبهم عن قضايا الواقع المعيش  الملحة،  والتي من شأنها أن يكون  فيها ما ينحرف بالأمة عن صراط ربها المستقيم ، ويغضون الطرف عنها ، فإنهم يقصرون في واجبهم ، ولا عذر لهم في ذلك يوم يلقون ربهم ويسألون بين يديه عن أمانة الخطابة ، ولا عذر أيضا للوزارة الوصية التي تكمم أفواه الخطباء الذين  يتناولون في خطبهم قضايا الواقع المعيش مما لا تريده  هي أن يطرق في الخطب والتي تعزل منهم من لا يسايرها فيما تريده ، وما تريد إلا خطبا لا تلامس قضايا الواقع المعيش ، وإن لامست شيئا من ذلك اقتصرعلى انتقاد ما يصدر عن عامة الناس مستثية خاصتهم من كل انتقاد بل معتبرة من يجرؤ على انتقادهم مخالفا لتوجيهاتها ومستوجبا بذلك العزل والطرد دون أن يكون لديها دليل شرعي ، وهي تواجه تحديا مفاده أنه إن كان ما تناوله الخطباء الذين تعزلهم مخالفا للشرع، فعليها أن تبرر ذلك شرعا  بأدلة من كتاب وسنة، وإلا فهي جائرة عليهم ، كما أنه عليها أن تثبت أن ما انتقدوه ، واعتبروه مخالفا لهدي الله تعالى وهدي رسوله صلى الله عليه وسلم عكس ذلك ، ويلزمها حجة ودليل منهما.

وسوم: العدد 1014