اتفاق السودان الإطاري ومحنة الاطمئنان إلى العسكر

صبحي حديدي

منذ انقلابهم في 25 تشرين الأول (أكتوبر) 2021، رفض عسكر السودان تعيين رئيس وزراء للسودان، يخلف عبد الله حمدوك في منصب يتوجب أن يتولاه مدنيّ طبقاً لتوافقات اقتسام السلطة مع «قوى إعلان الحرية والتغيير» ومجموعات مدنية أخرى، أعقبت انتفاضة شعبية أطاحت بدكتاتورية عمر حسن البشير من دون استبدالها بمنظومة حكم ديمقراطية في الحدود الدنيا المقبولة. لكنّ قائد الجيش عبد الفتاح البرهان وشريكه الأوّل محمد حمدان دقلو ورهط الجنرالات الشركاء في الانقلاب لم يجدوا مشكلة، بل انتظروا غنائم ومكاسب، في السماح لآخر رئيس وزراء في عهد البشير، محمد طاهر إيلا، بالعودة إلى السودان بعد ثلاث سنوات من الفرار إلى مصر؛ ضمن صفقة عقدها البرهان مع الريس المصري عبد الفتاح السيسي، خلال لقاء مباشر في القاهرة أواخر أيلول (سبتمبر) الماضي.

مصلحة النظام المصري لم تقتصر على إحياء وجود «المؤتمر الوطني»، حزب البشير المنحلّ، وإعادة زرع رموزه في السودان عموماً وفي شرق السودان خصوصاً، وتحويل مكوّن البجا إلى معادلة تعكير ضاغطة على مسار التحولات الديمقراطية في البلد؛ بل ثمة حاجة لدى السيسي إلى المناورة عبر شخص إيلا لمساندة «جبهة تيغراي» وتغذية النزاع مع أثيوبيا، ضمن المناورات الوحيدة التي يملكها السيسي للضغط في ملفّ سدّ النهضة. وعند عقد صفقة إعادة إيلا الذي سبق أن رفض نظام السيسي تسليمه إلى السودان، كان البرهان قد تجاهل تماماً حقيقة أنّ رجل البشير السابق مطلوب للقضاء وثمة مذكرات جلب بحقّه وفي وسع أيّ شرطي سوداني أن يعتقله؛ وفضّل تغليب مصالح العسكر في محاولات إغراء أنصار النظام السابق وأعضاء «المؤتمر الوطني» وبعض الشرائح الإسلامية بالانخراط إلى جانب الجيش في المناورة مع المدنيين.

من الإنصاف، وكذلك الصواب العقلي، تعليق قسط غير قليل من تقييم الاتفاق الإطاري على مراحل لاحقة من مآلات التفاوض الراهنة، ريثما تتضح على نحو أفضل حصيلة الأرباح والخسائر على الطرفين المتفاوضين؛ وفي انتظار أن تستقرّ أكثر موازين القوى المنخرطة في الاتفاق، مقابل تلك التي تعارضه اليوم أو سوف تواصل رفضها له إذا بلغ مرحلة التوقيع النهائي ورأى النور. غير أنّ الإنصاف، إياه، يقتضي التوقف (الدقيق والحصيف، أو حتى اليقظ والناقد) عند المسائل الخمس الكبرى التي تشكّل عقبات كأداء على طريق الاتفاق: صياغات العدالة عموماً والانتقالية منها تحديداً، وكيفية فرض الإصلاحات البنيوية على مؤسسات الجيش والأمن، وإعادة وضع اتفاق السلام على محك المراجعة البناءة، وبلورة آليات ملموسة لتفكيك النظام السابق، وإيجاد حلول آنية ودائمة لمشكلات شرق السودان.

ثمة، إلى هذا، معضلة كمونية إذا جاز التعبير، لأنّ افتراض منطق تفاوضي بين العسكر والمدنيين يفترض أيضاً طرازاً ما، أياً كانت حدوده، من التكافؤ المتبادل بينهما؛ ويتحكم، استطراداً، بما يمكن أن يتوصلا إليه، على قاعدة الحقّ أو الباطل، الربح هنا والخسارة هناك، المصداقية والالتزام مقابل النقض والانقلاب؛ وهذه بعض مظاهر محنة معقدة في الاطمئنان إلى العسكر… وإذا كانت صفقات مثل تلميع إيلا غير طارئة ولا غريبة عن الجنرالات في أية سلطة انقلابية عموماً، ولكن في أنظمة الانقلابات العسكرية العربية والأفريقية بصفة خاصة؛ فإنها، في الآن ذاته، يتوجب أن تنفع مجموعة المجلس المركزي في «قوى إعلان الحرية والتغيير»، والأطراف المدنية الموافقة على الاتفاق الإطاري مع العسكر، في تبصّر المخاطر المحتملة والكامنة طيّ أية مقايضة مع الجيش، ذاته الذي قاد انقلاباً قائماً وعواقبه الوخيمة تُقعد البلد اقتصادياً واجتماعياً وسياسياً.

فالمنطق يصادق على، وتجارب الماضي القريب والبعيد أثبتت وتواصل إثبات، جشع الجنرالات إلى السلطة، والتسلط والهيمنة؛ وإذا لم تسعفهم المناورات والمساومات والصفقات، فإنّ خيار انقلاب جديد يظلّ قائماً وميسّراً ومغرياً… حتى إشعار آخر لا تلوح له نهاية.

وسوم: العدد 1015