الشعب الجائع لا يحتاج الاعتراف بدولة

أنيس فوزي قاسم

بعض الدول الأوروبية، التي وخزها ضميرها على ما يجري في قطاع غزة من إبادة بالتجويع والتهجير والذبح، انتفضت بعد مرور ثمانية عشر شهراً، غيرة وحميّة، وهددت إسرائيل بمعاقبتها، إذا لم توقف حملة الإبادة، وذلك بالاعتراف بدولة فلسطين. إننا نشكر هذه الدول على نخوتها على أي حال، فهي أفضل كثيراً من معظم الدول العربية، التي لاذت بالصمت المريب على ما يجري، وأقرب إلى الله من معظم الدول الإسلامية، التي انشغلت عن محرقة غزة بالدعاء إلى الله تعالى بأن يخفف أوجاع أهلنا في الوطن المحتل، ومع ذلك، فإن على هذه الدول الأوروبية – إن أرادت فعلاً المساعدة – أن تتحرك في الاتجاه الذي يحدث أثراً ويأتي بنتائج، ولا تلجأ إلى الجانب الدبلوماسي.

إن الاعتراف بدولة فلسطين عمل جيد، ولكنه لا يحدث الأثر الذي يطلبه أهلنا في غزة. إن الاعتراف الدبلوماسي لا يقدم لجوعى غزة رغيفاً من الخبز، ولا جرعة من دواء، ولا يؤمنهم من خوف. إن الاعتراف الدبلوماسي لا يُنشئ دولة، ولا عدم الاعتراف يسقط دولة، وطلاب القانون يدركون ذلك تمام الإدراك، وهناك السابقة القانونية التي هي المرجعية الأهم في مسألة الاعتراف، ففي القضية المشهورة (قضية تينوكو) ويتعلق الأمر بالنزاع الذي نشب بين بريطانيا وكوستاريكا، وأحيلت القضية للتحكيم، وكان المحكم الوحيد رئيس المحكمة الفيدرالية العليا الأمريكية، القاضي وليام ثافت، وقضی في عام 1923 برد دعوى بريطانيا، وقال إن عدم اعتراف الحكومات، بما فيها الحكومة البريطانية بحكومة كوستاريكا لا يقوّض وضعها كحكومة. ولا بدّ أننا نذكر أن الولايات المتحدة الأمريكية لم تعترف رسمياً بالصين الشعبية، إلا في عام 1979، مع العلم أن الرئيس نيكسون، زارها في عام 1971، وظلت الصين دولة قبل وبعد الاعتراف الأمريكي بها.

وثانياً، لا بدّ أن الجميع يعلم أن فلسطين حازت الاعتراف الدولي، كما ورد في قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 177/43 الصادر بتاریخ 29 نوفمبر 2012، وصحيح أنه تم الاعتراف بها كدولة «مراقب» وليست عضواً في هيئة الأمم، إلاّ أن ذلك لا يقدح في وصفها كدولة، وقد وقعت على العديد من الاتفاقيات الدولية، بما فيها اتفاقية روما، التي أُسست بموجبها المحكمة الجنائية الدولية، وأصبح لفلسطين مقعد على قدم المساواة مع الدول الأعضاء في هيئة الأمم، ولها حق اقتراح بنود في جداول أعمال الجمعية العامة، ولكن دون حق التصويت، باعتبار أنها ليست عضواً. وحازت فلسطين اعتراف 147 دولة من أصل 193 دولة عدد أعضاء الهيئة الدولية. إن اعترافات خمس دول أوروبية إضافية، على أهميته، لا يغيّر من وضع فلسطين كأرضٍ محتلة، ولا يغيّر من وضع شعبها الذي يعيش محرقة كاملة المواصفات من ذبح وحرق وتجويع وتهجير.

إن على الدول الأوروبية، التي استفزّت مشاعرها محرقة غزة، أن تتخذ الإجراءات التي رسمتها محكمة العدل الدولية في فتواها الصادرة في 19 يوليو 2024. في تلك الفتوى قالت المحكمة، ابتداءً، إن الوجود الإسرائيلي في الأراضي المحتلة هو وجود غير شرعي، وإن إسرائيل ارتكبت في تلك الأراضي منذ احتلالها في عام 1967 جريمة الاستيطان والاستعمار، وجريمة الأبارتهايد وجريمة الاحتلال. وعلى سندٍ من هذه الكبائر الثلاث، قالت المحكمة إن على الدول محاصرة إسرائيل وعزلها بقطع العلاقات الدبلوماسية معها، ومقاطعتها تجارياً وعلمياً واقتصادياً وسياسياً، إلى أن تنصاع إلى اشتراطات القانون الدولي. ولم يرد في ذلك الرأي أن طالبت المحكمة الدول بالاعتراف بدولة فلسطين، ذلك أنها تدرك أن الاعتراف قد يفيد فلسطين، ولكنه لا يحمل إسرائيل على الالتزام بالقانون الدولي. إن المقاطعة، التي قد تمارسها الدول التي تريد الاعتراف بدولة فلسطين، يجب أن تنصب على وقف تزويد إسرائیل بالسلاح والمعلومات الاستخباراتية. ونعلم – على سبيل المثال – أن بريطانيا قدمت لإسرائيل معلومات استخباراتية جمعتها بريطانيا من أكثر من أربعمئة طلعة جوية انطلقت فيها طائراتها من قاعدتها العسكرية في أكروتيري في قبرص وجمعت معلومات عن القطاع وزودت بها إسرائيل. على ألمانيا وفرنسا وقف إرسال السلاح إلى إسرائيل، بل إلى إلغاء المعاهدة التجارية الموقعة مع إسرائيل.

أيها السادة، إن الشخص العاري لا يحتاج إلى ربطة عنق في وقت الزمهرير، بل يحتاج الى لباس من الصوف يتدفأ به. إن ما يحتاجه شعبنا وقف المحرقة وحمل إسرائيل على السماح بالمساعدات الإنسانية، وهذا ما أمرت به محكمة العدل الدولية في ثلاثة قرارات وقتية، أصدرتها المحكمة في عام 2024، وهي قرارات ملزمة قانونياً. ومن المؤكد أن لا أحد سوف يتهم المحكمة الدولية بالعداء للسامية! ومن المؤكد كذلك أن التزامكم بقرار المحكمة سوف لا يقدح في ولائكم لسلطة الاحتلال.

ألم يحن الوقت للدول الأوروبية أن تتخلّى عن عقليتها الاستعمارية، ولو لمرة واحدة، لمواجهة جريمة إبادة منظمة متوحشة مبرمجة ترافقها تصريحات رسمية من مسؤولين إسرائيليين بأن قصد العملية التدمير الكامل والاقتلاع الكامل والتطهير العرقي الكامل لكل ما على أرض غزة، وما في باطن أرض غزة.

كيف يستساغ للمسؤولين في هذه الدول الأوروبية آن يتحدثوا بلسان دبلوماسي وهم الذين يقومون ـ في الوقت نفسه – بدعم الاحتلال عسكرياً ومادياً وسياسياً؟ ألا يدرك هؤلاء المسؤولون، أن الاعتراف بدولة فلسطينية، قد أصبح لا يساوي الورقة التي يكتب عليها، الاعتراف بعد أن استفحل الاستعمار الصهيوني في الأرض الفلسطينية وبدعم من الدول الأوروبية إياها. إن الفلسطينيين لا تنقصهم «دولة» بل هم يحتاجون أولاً الى «التحرر» من رجس الصهيونية والاحتلال والرياء الأوروبي.

وسوم: العدد 1127