وقفة موجزة مع مؤلف " إحياء علوم الدين " لأبي حامد الغزالي
وقفة موجزة مع مؤلف " إحياء علوم الدين " لأبي حامد الغزالي من خلال " الباب السادس " في كتاب " العلم " وعنوانه آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء"
لابد بداية من الإشارة إلى ما جاء في مقدمة هذا المُؤلَّف التي سرد فيها صاحبه دواعي تأليفه ، وهو مما له صلة بموضوع هذه الوقفة ويتعلق الأمر بتقصير بعض العلماء في توجيههم للناس وقد فسد تدينهم يومئذ . ومما جاء فيها ما يلي :
" ....الأمر إدّ والخطب جدّ ، والآخرة مقبلة ، والدنيا مدبرة ، والأجل قريب، والسفر بعيد، والزاد طفيف ، والخطر عظيم، والطريق سدّ، وما سوى الخالص لوجه الله من العلم والعمل عند الناقد البصيرردّ ، وسلوك طريق الآخرة مع كثرة الغوائل من غير دليل ولا رفيق متعب ومكدّ : فأدلة الطريق هم العلماء الذين هم ورثة الأنبياء ، وقد شغر منهم الزمان ، ولم يبق إلا المترسمون ، وقد استحوذ على أكثرهم الشيطان ، واستغواهم الطغيان ، وأصبح كل واحد بعاجل حظه مشغوفا ، فصار يرى المعروف منكرا والمنكر معروفا حتى ظل علم الدين مندرسا ، ومنار الهدى في أقطار الأرض منطمسا ، ولقد خيّلوا إلى الخلق أن لا علم إلا فتوى حكومة تستعين به القضاة على فصل الخصام عند تهاويش الطغام ، أو جدل يتدرع به طالب المباهاة إلى الغلبة والإفحام ، أوسجع مزخرف يتوسل به الوعظ إلى استدراج العوام ، إذ لم يروا سوى هذه الثلاثة مصيدة للحرام وشبكة للحطام . أما علم طريق الآخرة ، وما درج عليه السلف الصالح مما سماه الله سبحانه في كتابه فقها وحكمة وعلما وضياء ونورا وهداية ورشدا ، فقد أصبح من بين الخلق مطويا ، وصار نسيا منسيا .
ولما كان هذا ثلما في الدين ملما وخطبا مدلهما ، رأيت الاشتغال بهذا الكتاب مُهِما ، إحياء لعلوم الدين ، وكشفا عن مناهج العلماء المتقدمين ، وإيضاحا لمباهي العلوم النافعة عند النبيين والسلف الصالحين ." انتهى كلامه .
ويرتبط بهذا الذي ذكره المؤلف في المقدمة الباب السادس من كتاب العلم ، وهو بعنوان " في آفات العلم وبيان علامات علماء الآخرة والعلماء السوء" .
وهذا الباب يتضمن تصنيفا للعلماء كما هو واضح من عنوانه ، ومنهج المؤلف في تصنيفهم هو المقارنة بين صنف علماء الآخرة ، وصنف علماء السوء أو علماء الدنيا على حد قوله ، وأكثر حديثه فيه عن هذا الصنف الأخير، وهو حديث تتخلله شواهد من آي الذكر الحكيم ، والأحاديث النبوية ، وكلام الصحابة ، وكلام التابعين من أمثال الحسن البصري ، والثوري ، وابن المبارك ، والفضيل ، وابن أدهم ، وابن أسباط ... وغيرهم.
واستقراء لما ساقه في فصله هذا من شواهد وأقوال يمكن استخراج أوصاف وأحوال كل صنف وهي كالآتي :
أولا : صنف علماء الآخرة :
هم العلماء العاملون الذين يعرفون طريق الآخرة وسلوكه . ويهتمون ببواطنهم ، وهم متحققون من أن الله عز وجل مطلع على سرائرهم كما يطلع الخلق على ظواهرهم . ويتجردون للفكر والذكر، فيكثرون منه مستحضرين به الله تعالى في خلواتهم منقطعين إليه عما سواه . ولا يتهافتون على الفتاوى وعلى المجالس ، ويتحققون بنصوص القرآن الكريم ،والحديث الشريف ، وبالإجماع ،والقياس ، وإذا سئلوا عما لا علم لهم به كان ردهم عبارة " لا ندري " ، وهي عندهم نصف العلم ، ويحليون على غيرهم ممن هم أعلم منهم . وهم أصحاب يقين تنصرف هممهم إلى تقويته بالعلم والعمل ، وتتفاوت مراتبهم فيه على قدر استعدادهم للموت . وهم أصحاب حياء ، وخوف ، وانكسار ، وذل ، واستكانة ، وخضوع لله تعالى ، محمودة أخلاقهم ، ويوحي ظاهرهم بحسن باطنهم من خلال هيئاتهم ، وكسائهم ، وحركاتهم، وسكناتهم ، ونطقهم ، وسكوتهم ، وتواضعهم . لا يأتون أهل السلطان ، ولا يتقربون إليهم ولا يرغبون فيما عندهم .
ثانيا : صنف علماء الدنيا :
يحبون الدنيا ولا يبالون بحقارتها، وكدورتها، وامتزاج لذاتها بآلامها ، وانصرام صفوها ، وذلك جهل منهم . ويغشون مجالس أهل السلطان طمعا في عرض الدنيا الزائل ، ويستهويهم الجاه أكثر مما يستهويهم المال إذ لديهم شهوة خفية في المجالس ، وابتداء الكلام قبل أن يسألوا، وهي فتنة أشد عليهم من فتنة المال، والأهل، والولد . يوصفون بأنهم يعربون في كلامهم ، ولا يلحنون فيه ، ولكنهم يلحنون في أعمالهم ، ولا يعربون . يزهِّدون الناس في الدنيا ، ولا يزهدون ، ويخوّفونهم من الآخرة ، ولا يخافون ، وينهون عن غشيان مجالس أهل السلطان ويأتونها بشغف ، ويزين لهم الشيطان مجالسهم يغريهم بواجب النصح لهم ، فيتلطفون في الكلام بين أيديهم ، ويداهنونهم ، ويخوضون في الثناء والإطراء عليهم ، يطلبون بذلك الحظوة عندهم ،وفي ذلك ضياع دينهم . ويقتربون من الأغنياء ، ويقربونهم ، وينأون عن الفقراء . ويتغايرون مع بعضهم البعض على العلم كما تتغاير النساء على الرجال. ويغضبون من جلسائهم إذا جلسوا إلى غيرهم.. وفيهم حدة في حركاتهم ونطقهم ، وهم أصحاب بطر . . ويشتغلون بغرائب التفريعات في الحكومات والأقضية ، وبأمور قد ينقضي الدهر ولا تقع . وهم يطربون حين يمدحهم البطَّالون ، وينعتونهم بالفضلاء المحققين ، وبالعلماء بالدقائق ،وهم مجرد أوعية للعلم بحفظهم . وأكثر همهم في التدريس، والتصنيف، والمناظرة ، والقضاء، والولاية، وتولي الأوقاف ، ومخالطة أهل السلطان والجاه والمال .
هذا مجمل ما جاء في هذا الفصل مختصرا اختصارا ، ويلاحظ أن أوصاف وأحوال علماء الآخرة عند الغزالي مناقضة لأوصاف وأحوال علماء الدنيا ، ذلك أن ما يثبت لصنف ينتفي بالضرورة عن الصنف الآخر .
وأخيرا نقول إذا كان هذا حال علماء الدنيا حسب تصنيف الإمام الغزالي الذي عاش في القرن الخامس الهجري ، فماذا يمكن لقائل أن يقول عن حالهم في قرننا هذا الخامس عشر، وقد فاق سوء أحواله بأشواط كثيرة سوء أحوال قرن الإمام الغزالي رحمة الله عليه ؟
وسوم: العدد 1130