ثقافة المبادرة

م. أسامة الطنطاوي

م. أسامة الطنطاوي

[email protected]

تُعتبر ثقافة المبادرة ركيزة من ركائز الاقتصاد المعاصر، فلا يُمكن للقوانين وحدها ولا للتمويل وحده أن يُشجّع الناس على المبادرة بخلق فرص عمل ما لم تكن هناك ثقافة داعمة للمبادرة وراعية لها يتم تأسيسها في مكونات النظام التعليمي وأساليب التنشئة الاجتماعية ووسائط الإعلام، بالإضافة إلى خلق نماذج لمشاريع صغرى وابتكارات تقنية يتم احتضانها ورعايتها لتكوين نماذج ناجحة يقتدى بها.

والمبادرة تعني القيام بفعل أو اتّخاذ قرار قبل أيّ شخص آخر أو الإسراع والسّبق إلى إنجاز أمر . وللمبادرة مرجعيات في الثقافة العربية الإسلامية فقد حثّ ديننا السّمح على المبادرة في فعل الخير : يقول تعالى على لسان نبيّه إبراهيم الخليل : " واجعلني للمتّقين إماما " . كما دعا الإسلام إلى أنّ التغيير يأتي من الذّات فلا يغير الله ما بقوم حتّى يغيّروا ما بأنفسهم .ومن هذا المنطلق كان العرب المسلمون في عهودهم الذهبية سبّاقين إلى الإنجازات العظيمة التي أبهرت العالم .
أما الحضارة الغربية فلم تعرف بصمات المبادرة الفعلية الا حوالي القرن الثامن عشر خصوصا في المجال التجاري وتطورت بعد ذلك ثقافة المبادرة لديهم مما جعلهم يسبقوننا بأشواط كبيرة .
إنّ المبادرة هي الحافز الدّاخلي الباعث على الحركة كما تستدعي الشجاعة والحماس والمخاطرة : فالمبادر يجازف بكلّ شجاعة للسبق في إنجاز أمر معيّن .
والإنسان المبادر يبحث فعلا عن التغيير ويستجيب إإليه وقد يُحدث الإنسان المبادر ثورة لذلك اعتبر عالم الإقتصاد -جوزيف شومبيتر المبادرة بمثابة * قوة تدميرخلاّقة *لأنّ الشخص المبادر يتجاوز المألوف إمّا رفضا له أو رغبة في خلق بدائل أكثر ملاءمة للواقع والعصر من أجل ائتلافات جديدة أفضل .
ومجتمعنا في أمس الحاجة إلى ترسيخ ثقلفة المبادرة في جميع المجالات : الفكرية والإبداعية الثقافية والاقتصادية ...ويتأتى ذلك بوجود تحفيز معنوي ومادي ودعم الثقة بالنفس ، 
وبثّ الطاقة الإيجابية من داخل كيان مؤسسة الأسرة بتنمية ثقافة العزم والنجاح والاقدام .
 
إنّ ثقافة المبادرة في مجتمع من المجتمعات هي نقيضة تماما لثقافة الإحباط فحين يجد صاحب المبادرة الإيجابية من يشجعه فإنّه سيتقدّم ويواصل ولا يكترث للمعوقات التي يمكن أن تعترضه لأنّ له من القدرات النفسية ما يمكنه من تجاوزها ليصل إلى النتائج المرجوّة .
ولابدّ لوسائل الإعلام والحكومات ومؤسسات المجتمع المدني من توضيح مزايا المبادرة وأبرزها 
قيمة الإنسان المبادر في المجتمع فهو رئيس نفسه وقادر على اتّخاذ القرارات وتحمّل المسؤولية 
حيث تقدم روح المبادرة إمكانية أكبرلتحقيق مكاسب معنوية ومالية لايستهان بها .  
وثقافة المبادرة في سياق التعريف الذي وضعه تايلور من أنها تُمثّل هذا الكل المركب من العادات والتقاليد والأعراف والقيم والمواقف والاتجاهات والآداب والفنون، وكل ما صنعته وتصنعه يد الإنسان وعقله بصفته كائناً اجتماعياً، وتتسع آليات العلاقة بين الثقافة والمبادرة لتشمل ثنائية افتراضية تؤكد أن الثقافة هي المحدد الرئيسي لنمط النشاط البشري سواء أكان هذا النشاط اقتصادياً أم اجتماعياً أم سياسياً أم غيره.

إن الثقافة الداعمة للإتكالية تدفع دوماً في اتجاه التهميش والتغييب الاجتماعي وتحويل الإنسان إلى متلقٍ تعوزه إمكاناته عن المبادرة والاعتماد على الذات، وتختصره تنشئته في حدوده الكمية الجسدية حتى يصير مقتنعاً ومستسلماً، وبهذا يحاصر الإنسان ذاتياً ويتماهى بوضعية المتلقي بل ويصير سجيناً لها، وهو في الغالب أكثر هشاشة اجتماعياً.

وفي المقابل تكون الثقافة الداعمة للمبادرة والمشاركة والاعتماد على الذات في اتجاه التمكين لا التسكين وخلق فرص العمل بدل البحث عنها والعطاء بدل الاستعطاء، وذلك على حد قول فرانسيس فوكوياما في كتابه "الثقة" الذي يرى أنه لا يمكن أن يُقام بناء اجتماعي مستقر ومؤسسات اجتماعية فاعلة باستدامة دونما اعتبار للعادات الإيجابية والتقاليد والأخلاق النابذة للتواكل والداعمة للمبادرة، ولا يُمكن صوغ ذلك إلا من خلال عملٍ واعٍ يُعزّز البعد الثقافي المنشود، ويبرز هنتنجتون في كتابه "صدام الحضارات" هذا التوجّه بقوله أن جميع المجتمعات ستضطر إلى توجيه اهتمام أكبر إلى الثقافة الداعمة للمبادرة والعطاء والقادرة على التعامل مع المشكلات في مستواها الذاتي والمحلي وحتى العالمي.

إن عبارة ثقافة المبادرة والعمل تعبير عن مجموعة من الخصائص الذاتية والمجتمعية والعالمية، فالفرد ينضح بما في إناء مجتمعه. وكل إناء بما فيه ينضح، إذ قلما تجد ثقافة المبادرة في معتقدات أفراد مجتمع لا يتوجّه ثقافياً نحو المبادرة فهو إذاً فاقد للشيء غير مُعطٍ له، والعكس في المقابل ، وهنا يُمكن الإشارة إلى ما قاله فرانسيس فوكوياما عندما أكّد أنه إذا كان المقصود بعبارة "أخلاق العمل" وجود ميلٍ عام لدى السكان في سن النشاط الاقتصادي للنهوض مبكراً في الصباح والعمل لساعات طويلة في مجالات مُضنية جسدياً وفكرياً، فإن هذا لا يعني خُلق المبادرة والابتكار والإبداع، فكثير من الشعوب تعمل كثيراً ولساعات أطول ومجهود أكثر لكن عطاءها أقل، شأن ذلك شأن الفلاح الصيني العادي الذي يكدّ أكثر ولساعات أطول مما يفعله العامل المعاصر في خط التجميع في ديترويت بأمريكا .

إن ما ينبغي أن يُفهم من ثقافة المبادرة هي تلك المُعطيات التي تُعنى بالموارد البشرية من حيث التمكّن من المعرفة والمقدرة على التعلّم والتعامل بكفاءة مع التقنية والابتكار وخلق فرص العمل.

إن مضامين ثقافة المبادرة كثيرة ومتعددة تبدأ من الاعتزاز بالذات والتمكّن والإرادة والتفكير العقلاني في تسوية المشكلات والانشغال بتطوير معطيات الواقع من خلال الابتكار والعمل والاستعداد للمجازفة وغيرها.

وإن تحقيق ثقافة المبادرة كرافد من روافد تنمية الموارد البشرية ليس وصفة جاهزة ولا هي حزمة تدريبية مقطوعة الصلة بالواقع المعاش، إنها تعبير عن منظومة متشابكة ومتداخلة تنتظم من خلالها فعاليات الأسرة والتعليم والإعلام والدين وغيرها، لتكون إطاراً مرجعياً يواكب حياة الإنسان وليداً وكهلاً.

ويتأكد التوجه نحو ثقافة المبادرة من خلال العديد من المرجعيات ذات العلاقة والتي ترسخ من خلالها حقيقة الدور الإيجابي المهم لهذه الثقافة في خلق فرص العمل والتصدي لظاهرة البطالة بمختلف أشكالها والتوجه نحو المبادرين لمشروعات صغرى واحتضانهم من خلال برامج حاضنات الأعمال والمشروعات الصغرى، وحاضنات الابتكار التقني.

ويتوجه المجتمع الدولي عموماً إلى الأخذ بيد المبادرين بمشروعات وكسر حاجز الخوف والرهبة من المبادرة والإقدام الواثق نحو بدء وتأسيس المشروع واستدامته، إنها توسيع الخيارات أمام الناس وزيادة مقدرتهم التنافسية. والحديث حول هذا الموضوع لا يُعد متكاملاً إلا إذا تضافرت جهود الخيرين وتناولوه من زوايا شتى .
وكم نحتاج في بلادنا وفي وطننا العربي إلى تشجيع المبادرات الإيجابية وإلى نبذ الإحباط وإلى فئة من الشباب تمسك بزمام المسؤولية بكل اقتدار وكفاءة وشجاعة..... 
..
كم نحتاج إلى حكومات تقدّر المبادرين والمبدعين وتؤمن بأن التغيير لا يأتي بتعويذة سحرية إنّما بتغيير المنظومة الفكرية الخاملة وزرع فكر نشيط مبادر و شجاع و جرئ بلا تهور ، قادر على تحمل المسؤولية وأن نكون قادرين جميعا على تجاوز الخوف من الخطوة الأولى فالطفل لا يتعلّم المشي الا إذا ترك على جسمه آثار سقوط حيث أن الزمن كفيل بعلاجها حين يتعلّم المشي بشكل مستقيم.

ولاشك أن ثقافة المبادرة هي ثقافة إيجابية متى سادت في المجتمع سادت فيها لتلبية الكثير من احتياجات التنمية فيه بمختلف قنواتها، فالمجتمع الذي تشيع فيه هذه الثقافة مجتمع يتطور باستمرار، وتنتشر في ربوعه الفعاليات المختلفة التي تزيد خصوبة الفكر والوجدان في المجتمع، كما تقل في أوساطه المعدلات التي تعكس المؤشرات السلبية في تعاطيه مع التطور والتجديد .
إن هذه الثقافة ينبغي ربطها ببعد تعبدي إيماني، فخير الناس أنفعهم للناس، والبذل لأجل المولى تعالى يقتضي عدم انتظار أي جزاء، وخير باب من أبواب الخير يطرقه العبد يتمثل بالسعي في مصلحة أخيه المسلم أو حتى أخيه في الإنسانية، فهي من أجل العبادات التي تفتح على المرء أبواب الأجر والمثوبة العظمى .
إذا كانت حقوق العباد مبنية على المشاححة، فإن ذلك يقع في قناعة من لا يدرك حقائق الأمور ودلالتها الشرعية المرعية، فهي بالفعل مبنية على ذلك لمن وجد في نفسه ضعفاً في البذل لمجتمعه الذي ينبغي أن يستشعر فضله عليه، وإلا فإن العبد الفطن لا يبني حقوقه التي تنشأ عن علاقته بالعباد على المشاححة، بل يبنيها على ثقافة البذل والمثابرة دون انتظار أي مقابل نظير ذلك.
ويكفي المرء أن يحفز نفسه بما يقترن بثقافة المبادرة من بعد تعبدي حتى يكون صادق الإقبال، وعدم قصر ذلك ضمن نطاق رد الجميل لمجتمعه الذي يكن له الامتنان ارتباطاً وتعلقا .

إن ثقافة المبادرة هي خيار الأفراد والأحزاب والدول في مواجهة القوى المعادية والمنافسة لإشغالها بنفسها .. لانتزاع زمام المبادرة منها ، و لتشتيت قواها وإشغالها بردود الأفعال.

إن زمام المبادرة والمواجهة الصريحة القوية هو الحل للحيلولة دون عودة عقارب الساعة إلى الوراء ، ونسأل الله أن يسدد لأمتنا خطاها ونهضتها واستعادتها مكانتها تحت الشمس كأمة خير الأنام .