طه حسين والمعري ..

محمد عبد الكريم النعيمي

طه حسين والمعري ..

ورحلة الشقاء

الباحث / محمد عبد الكريم النعيمي - المدينة المنورة

لن ننقطعَ في هذا المقالِ عن استجلاء النوازع النفسية لطه حسين ، ويبدو أن موضوع هذا المقال - وهو استظهار جوانب تأثر طه حسين بفيلسوف المعرة - مِن آكد المواضيع التي يمكن أن تُبحثَ في هذا الإطـار .

 ويَحكي لنا طه حسين قصةَ وضعه لرسالة الدكتوراه ، ومساعدة صديق له في مطالعة آثار أبي العلاء المعري الذي كان موضوعَ الرسالة ، وَغدوّه عليه منذ الضحى وحتى يقبل الليل قارئاً له بل متغنياً باللزوميات وسَقْط الزَّند غناء عذباً ، وطه حسين يسمع منه ويحفظ عنه ، ويطرب لإنشاده وغنائه ، ويبدو أن هذا الانسجامَ بين روح طه حسين وروح المعري من خلال آثاره وبِشَدْوِ قارئ هذه الآثار قد رَسَّخ في أعماق طه حسين شيئاً لا يُمحَى على تطاول الدهر ، فهو لا يزال كُلما قُرِئَ عليه شعرُ أبي العلاء لم يسمع صوتَ قارئه ، وإنما سمع صوتَ صديقه ذاك مترنِّماً بالشعر ، مُحلِّقاً من طه حسين بروحه .

 ولا يخفى السرُّ خلف هذا الانسجام بين المعري وطه حسين ، فكلاهما ضحيةُ عِلَّةٍ واحدة هي العمى ، مما جعل الفرقَ بين طه حسين وبين كثير ممن شرحوا ودرسوا المعري كالفرق بين النائحة الثَّكْلَى والنائحة المستأجَرة .

 ولقد كان من نتائج هذه الدراسة أن حَفَرَتْ في طه حسين أثراً أيَّ أثر ، وأرشدته إلى العَلَم والقدوة التي يجب أن يحتذيها ، "واستيقن أن حياة أبي العلاء تلك هي الحياة التي يجب عليه أن يحياها ما استطاع إلى ذلك سبيلاً"([1]) .

 وكثيراً ما اعترى طه حسين شعور سلبي في مراحل حياته ، كان من أسبابه الرئيسةِ دَرسُه لأبي العلاء ، فهو يحدثنـا مثلاً عن عودته من فرنسا في إحدى رحلاته الدراسية إليها ، بعد أن طلبت الجامعة في مصر إليه ذلك بسبب الحرب ، وكيف قضى في القاهرة أياماً طوالاً ثقالاً لشعوره بالصدمة القاسية التي أسلمته إليها العودة ، وبأنه - وقد تجاوز العشرين من عمره - لا يزال عيالاً على والده وأسرته الكبيرة الفقيرة ، ويقول طه حسين أنه في تلك الأيام أبغضَ نفسَه ، ومَلَّ حياته ، وزادَهُ درسُه لأبي العلاء بُغضاً لنفسه ، وتبرُّماً بحياته ، وإغراقاً في التشاؤم المظلم الذي لا قرار له ، ورأى نفسَه ذات يومٍ وقد انتهى به التشاؤم والضيقُ إلى حيث ندم على ما فرَّط في جنب الأزهر وشيوخه([2]) حتى حِيلَ بينه وبين درجة العالمية تلك التي كان يسخر منها أشدَّ السخرية ، ويزهد فيها أعظم الزهد ، بعد أن صُرِفَت عنه فلم يحاول أن يستأنف السعيَ إليها([3]) .

 وظلَّت أفكار أبي العلاء التي زرعها في رأسه مصاحبةً له فترة من الزمن في فرنسا ، فإذا هو يَرُدُّ نفسَه إذا ما نازعته إلى بعض مسارح فرنسا أو معاهدها الموسيقية ، "وكيف السبيل إلى غير ذلك وهو لا يستطيع أن يذهب وحده إلى حيث يريد ، ولا يستطيع أن يدعو غيره إلى مرافقته ، ولا يريد أن يكلِّف غيره من الناس عناء مرافقته من جهة ، وتحمل ما تقتضيه هذه المرافقة من النفقات من جهة أخرى ، ولم تكن ذكرى أبي العلاء تفارقه في لحظة من لحظات اليقظة إلا أن يشغل عنها بالاستماع إلى الدرس أو إلى القراءة ، كان يذكر دائماً قولَ أبي العلاء في آخر كتاب من كتبه أنه رجل مستطيعٌ بغيره ، وكان يرَى نفسَه مستطيعاً بغيره دائماً ، ويحتمل في سبيل ذلك من غيره هذا الذي يتيح له الاستطاعةَ ألواناً من المشقة وفنوناً من الأذى بدون أن ينكر منها شيئاً"([4]) .

 حتى إذا ما طرَأ على قلبه الشعورُ بالحُبّ ، أخفاه في أقصى أعماق ضميره ، وكَرِهَ أن يتحدَّثَ به إلى نفسه ، مُستَيقِناً أنه لم يُخلَق لمثل هذا الشعور ، وأن مثل هذا الشعور لم يُخلَق له ، وأين هو من الحب ؟ وأين الحب منه ؟ .

 ورأَى أنه إنما كُتِبَ عليه أن يعيش كما عاشَ مَثَلُهُ الأَعلَى ، ذلك الذي وَقَفَ حياتَهُ منذ قرونٍ طِوالٍ في دارٍ من دور المعرَّة على الدرس مُمعِناً فيه ، غير مَعنِيٍّ إلا به ، مُحرِّماً على نفسه ما أباحَ الله للناسِ من طيباتِ الحياة"([5]) .

 والظاهر أن عالَمَ أبي العلاء المعريِّ الضَّيِّقَ المحدودَ والذي قلما تجاوز منزله ، قد كَرَّسَ فيه هذا الشعورَ بالسلبية والتشاؤم والتَّبَرُّم ، إلا أن عالَمَ طه حسين قد اتَّسَعَ كثيراً في سفره المتكرر إلى فرنسا وزواجِهِ من الفرنسية ذاتِ الصوت العذب وإنجابه منها ، وهو الأمرُ الذي لم يحظَ به أبو العلاء المعري ، بل إنه اعتبر الزواجَ والإنجابَ جنايةً جناها عليه والدُهُ ولم يَجنِها هو على أحدٍ إذ لم يتزوج ولم يُنجِب كما طَلَبَ أن يُكتَبَ على شاهِدِ قبره ، فكُلُّ ذلك الذي فاتَ أبا العلاء تَكَفَّلَ بِمَحْوِ هذا الشعورِ من نفس طه حسين ، فإذا هو يرى الحياةَ بمنظارٍ مختلِفٍ ، وإذا هو يَعتبُ على أستاذه المعري الذي صَدَّقَ وَنَمَّى فيه هذا الشعورَ المُحْبِطَ طويلاً ، فيقول في لهجة عاتبة هادئة يُسَجِّلُ فيها - ربما - نهايةَ علاقته بالمعري : "يرحم اللهُ أبا العلاء .. لقد ملأ نفسَ الفتى ضِيقاً بالحياة وبُغضاً لها ، وأيأسه من الخير ، وألقى في روعِهِ أن الحياةَ جهد كلّها ، ومشقة كلها ، وعناء كلها"([6]) .

              

([1]) الأيام . طه حسين . ص 377 .
([2]) سيأتي الحديث عن ذلك مفصلاًّ في مقال (طه حسين والأزهر) بإذن الله تعالى .
([3]) الأيام . طه حسين . ص 395 - 396 .
([4]) الأيام . طه حسين . ص 438 .
([5]) الأيام . طه حسين . ص 446 .
([6]) الأيام . طه حسين . ص 414 .