قرار «يونيسكو» حول القدس ومكر التاريخ

في خطاب وجهه رئيس الوزراء الإسرائيلي بنيامين نتنياهو إلى الغرب مؤخرا حذر من اعتماد منظمة الأمم المتحدة للتربية والعلوم والثقافة (المعروفة باليونيسكو) قراراً بأن لا صلة للمسجد الأقصى باليهود، معتبرا ذلك كذبة رهيبة، وأن أكاذيب مثلها سوّغت الطريق إلى «الكارثة» (إبادة اليهود خلال الحرب العالمية الثانية).

استغرب نتنياهو من حصول «تقاطعات غريبة» سببها كره اليهود (المعروف بمصطلح اللاسامية) تجمع بين «نخبة البشر الذين يزعمون أنهم يمثلون التقدم الإنساني» (أي الغرب الذي تمثله أوروبا والولايات المتحدة الأمريكية) مع «المتزمتين البرابرة الأكثر ظلامية من قاطعي الرؤوس، وقامعي النساء، ومطاردي المثليين جنسيّاً، ومدمري كنوز الثقافة» (أي الفلسطينيين)، وهو ما ترجمته كاتبة إسرائيلية على الشكل التالي: «أيها المسيحيون من ممثلي الإنسانية المتنورة تجندوا إلى جانب اليهود. كيف تعطون ممثلي «داعش» حق الاقتراب من القدس. هل جننتم؟».

نستطيع، باعتبارنا أصحاب هذه الأرض التي احتلّت بالقوّة العسكرية عام 1967، تأليف كتب وسرديّات طويلة جدّا حول أكاذيب إسرائيل وقادتها الهائلة التي تبرر الطريق الذي ما تزال هذه الدولة المارقة تسلكه منذ «النكبة» عام 1948، التي دفّعت الفلسطينيين ثمن «الكارثة» التي ارتكبها «نخبة البشر الذين يزعمون أنهم يمثلون التقدم الإنساني» وليس غيرهم!

كما نستطيع، سرد تفاصيل السرقة اليومية التي تتعرّض لها القدس عبر خروق فاضحة للقوانين الإنسانية والدولية يرتكبها ممثّلو «نخبة البشر» في قضايا تبدأ من لم الشمل والهويات والعمل والتأمين الوطني والبناء ومصادرة الأملاك والأراضي وهدم المنازل والعقوبات الجماعية والضرائب الفاحشة ولا تنتهي بسد سبل الحياة أمام الفلسطينيين والطرد المنهجي لهم خارج المدينة في سياسة تعتبر تطهيرا عرقيا مبرمجاً حسب أي تعريف قانوني.

توصيف نتنياهو الديماغوجيّ للفلسطينيين بصفتهم «قاطعي رؤوس وقامعي نساء ومدمري كنوز ثقافية» لا يفعل غير أن يستخدم الأسطوانة العالمية المشروخة التي باتت الأسلوب المفضّل ليس لأنظمة العنصرية والاحتلال، كإسرائيل (حيث تتجمّل «الدولة اليهودية» باعتبارها ممثلة «التقدم الإنساني» أمام جحافل البرابرة المسلمين) بل كذلك لأنظمة الاستبداد الوحشية، كنظام بشار الأسد في سوريا، الذي يلعب بدوره ورقة «الأقليّات الدينية» أمام الحاضنة الاجتماعية لـ»الإرهابيين» (وهذه كما رأينا استخدام نتنياهو لها، صيغة للتعميم على كل المسلمين)، ونظام العراق الطائفي الذي يستخدمها لتعزيز هيمنة إيران وتأجيج النزاع الشيعي ـ السني، وكذلك للتيّارات العنصرية الغربية («من نخبة البشرية»)، من فلاديمير بوتين روسيا، مروراً بمارين لوبين فرنسا وليس انتهاء بدونالد ترامب أمريكا (الذي اعتذر مؤخراً، بمفعول رجعيّ، للصرب عن دعم أمريكا لمسلمي البوسنة ضدهم!).

اعتراف المجتمع الدولي، ممثلاً بمنظمة «يونيسكو»، بإسلامية الحرم القدسيّ الشريف وعدم علاقة الدولة اليهودية به، هو شكل من أشكال مكر العقل التي تحدّث عنها الفيلسوف الألماني هيغل، تتكشف فيه، من حيث لا يحتسب الطاغية، إنسانية البشر وتآخيهم وتحديهم جبروت الاحتلال، أو هو بالأحرى مكر من نوع آخر ورد في القرآن الكريم: «ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين».

… رغم أن ممثلي «نخبة البشر» الذين خاطبهم نتنياهو حاولوا، جاهدين، إفشال القرار!

قرار «يونيسكو» حول القدس ومكر التاريخ

رأي القدس

وسوم: العدد 690