في مواجهة الدعوات الهدامة

عبد العزيز كحيل

ما بال بعض إخواننا المسلمين عقيدتُهم مهلهلة إلى هذه الدرجة ؟ لا أتكلم عن العلمانيين ولا عن أصحاب المعاصي بل عن مصلّين ملتزمين ، ما إن تظهر دعوة هدامة يهرولوا نحوها ويصغوا لها وينحازوا إليها ، وحتى إذا لم ينظموا إليها فهم يتقبلون حججها الواهية ويجادلون عنها ، فعلوا هذا مع التشيع وصوّبوا من يسبّ أبا بكر وعمر وعائشة وسائر الصحابة رضي الله عنهم ، وظهرت رايات الرفض في بلادنا الاسلامية يرفعها بعض رواد المساجد ، كما فعلوا نفس الشيء مع القاديانية ، تلك النحلة التي لا تمتّ إلى دين لله بصلة بإجماع العلماء ومنذ ظهورها ، و هم يشتغلون مؤخرا ببدعة سمجة سخيفة تُسمى " القرآنيين " نسبة إلى طائفة قليلة العدد كثيرة الصياح تنكر السنة النبوية أي تنكر نصف الوحي زاعمة ان الأمة بأكملها أخطأت في فهم الاسلام طيلة 15 قرنا حتى انتبه المستشرقون إلى " الحقيقة " وتبعهم بعض أصحاب الشبهات والشهوات ، فأكدوا أنك لن تكون مسلما غلا إذا نفضت يديك من الاقتداء بالرسول صلى الله عليه وسلم واكتفيت بالقرآن .

أنا هنا لا يشغلني الردّ على هذه الفرقة او تلك وإنما أتعجب ممن يستقبلونها بكل سهولة وينساقون خلف ادّعاءات يكفي ذكرُها لبيان فسادها ، أين العقيدة الصحيحة ؟ أين لإيمان الذي ظهرت أدلته القطعية وتوارثناها منذ زمن النبوة ؟ أين اليقين ؟ أبسهولة يدخل الشكّ القلوب ويعصف بالعقول ؟

شيعة ، قاديانية ، قرآنيون ، تنصير، وهابية :

عندما يفقد الجسم المناعة يصبح سهل المنال والاختراق ، تعصف به الأمراض المختلفة ، وتنهكه حتى الاصابات البسيطة ، فلا يقوى على التصدي لها ولا تُجدي فيه الأدوية المعتادة إذا كان يتلقى العلاج ، فكيف إذا اجتمع مع انتفاء المناعة فقدانُ الطبيب الماهر والدواء الفعال ؟

أليس هذا حال مجتمعنا بعد عقود من التغريب القهري والتسلط العلماني ألاستئصالي الذي طال إفسادُه الحياة الثقافية والاجتماعية ؟ ما بقي كلام عن ثوابت وطنية ولا بقيت لنا مرجعية حضارية جامعة بل صرنا عرض لتحريف منهجي للإنسان والمجتمع صادرٍ عن تخطيط دقيق يهدف إلى إنشاء جيل هجين لا دين له ولا لغة ولا معالم ولا حصانة نفسية ولا مستوى علمي رفيع ، بهذا يسهل تغريبه وفرنسته والتحكم فيه من طرف النخبة العلمانية المستحوذة على الاقتصاد والإعلام ووسائل التوجيه ، ويكفي أن ننظر إلى " الاصلاح " الذي طال المنظومة التربوية لنقف على رجاحة هذا الرأي ، فقد تمّ قطع الصلة بالقرآن والسنة والأخلاق الفاضلة والخلفية العربية الاسلامية ليحلّ محلها الفكر المادي ونظرية داروين والإباحية منذ برنامج المستوى الابتدائي.

في هذا الجوّ المشحون بالتغريب والتجهيل وتجفيف منابع التدين  وجدت الدعوات الهدامة موطأ قدم لم تكن تحلم به حين كان الجسم محصّنا والمناعة متوفرة حتى في عهد الاحتلال الفرنسي ، هجم علينا التشيّع تموّله إيران ، والوهابية بمباركة البترودولار، والقاديانية المنبوذة في منبتها في شبه القارة الهندية ، وعاد الاستشراق عبر خرافة سمّاها " القرآنيين " ، وخلت الساحة للتنصير بمباركة شبه علنية من أوساط سياسية وإعلامية معروفة تعمل على إنشاء ضرّات للإسلام والعربية كي تقع البلاد في النهاية تحت الوصاية العلنية لما يُسمّى " المجتمع الدولي " و فرنسا بالذات.

إن هذا ليس تهويلا ولا رجما بالغيب ولا تشاؤما لكنه – مع الأسف – الواقع الماثل للعيان والمستقبل كما يخططون له .

هنا تبدو جريمة شغل الشباب بهذه الدعوات الوافدة الشريرة ليهدر فيها طاقته وأوقاته فتخلو الساحة لمن يخططون ويسجلون النقاط ويكسبون الجولات الواحدة  تلو الأخرى ، أجل ، إنها لجريمة أن يشتغل الشباب – في هذه الظروف الشديدة على الأمة - بالجدل العقيم في مسائل هامشية تاريخية والخروج على إجماع الأمة والانتقال إلى سبّ الصحابة ولعن البخاري ومسلم والزعم أن محمدا صلى الله عليه وسلم ليس آخر الأنبياء وتعليق الصليب ، وتبلغ المأساة مداها حين ينخرط أئمة ودعاة في الموجة بالردود والتهارش بدل الاشتغال بإعداد البديل الذي يقينا الشرور ، فهم أيضا ينحازون – بحسن نية – إلى الجدل ويتركون العمل ، مع تقديري لغيرتهم واعترافي بالحُرقة التي تسكنهم.

من يتصدى للفِرق الضالة التي تدخل بلادنا بغير استئذان ؟

إنها تتسلل أحيانا وتتبجح أحيانا أخرى ، تزعم أنها تحمل إلينا رسالة الخلاص ، كلها تقول لنا لم تفهموا الاسلام إطلاقا لا أنتم ولا الأجيال السابقة ، علماؤكم جهلة ودعاتُكم ضالون ، إذا أردتم الحقيقة فهي عندنا دون سوانا ، هذا ما ينفثه الشيعة والقاديانيون و" القرآنيون " المزعومون والوهابية ، أما التنصير فليس بعيدا عن هؤلاء لكنه يدعو إلى المسيحية في حين يدعونا الآخرون إلى ...الاسلام !!!

هكذا أصبحت البلاد كلأ مباحا للفرق الضالة ، وفينا سمّاعون لدعايتها بسبب ضياع المناعة الفكرية واستفحال القابلية للغزو الثقافي.

من يتصدى لهذه الفتن المتلاحقة ؟ كثير منّا يحمّلون المسؤولية لوزارة الشؤون الدينية ويطالبونها بحماية المجتمع من هؤلاء الدخلاء ، وهذه نظرة سطحية جدا لأن الوزارة ليست جهة دينية بل هي جهاز إداري تابع لسياسة النظام الحاكم ، وهذا النظام هو الذي سلم المساجد للطائفة الوهابية لخدمة أغراضه في غسيل العقول والحيلولة دون عودة الحركة الاسلامية المعتدلة إلى النشاط في بيوت الله ، ذلك أن هذ السلفية المزعومة التي انتشرت هنا وهناك ( وهي شئ آخر غير السلفية الأصيلة التي نحبّها ) تسوّق العلمانية بثوب سلفي ، وتقدم للنظام خدمات جليلة حين تلخص رسالتها في تقديس الحكام مهما جاروا وصرفِ المسلمين عن جميع مظاهر المساهمة في الحياة العامة كتأسيس الأحزاب والمشاركة في الانتخابات ودخول البرلمان والحكومة فضلا عن  مظاهر الاحتجاج السلمية كالمظاهرات والإعتصامات والإضرابات ... وهذا قرة عين السلطة لتجد نفسها ليس أمام مواطنين حريصين على حقوقهم وحرياتهم ولكن أمام قطيع يكفيه الفتات المتساقط من موائدها ، يسبح بحمدها ولو أخذت ماله وجلدت ظهره ، لذلك يسّرت لهم اعتلاء المنابر التي غدت مصدرا لتفريق الصف وإغراق المصلين في المواضيع الميتة والثقافة القاتلة والمعارك المنتهية ، بالإضافة إلى سوء الأخلاق المتمثل في التبديع والتكفير والتضليل والشتم وبذاءة اللسان ، فلا ينخدعنّ أحد بالكلام عن " المرجعية الدينية الوطنية " ، فما ضاعت هذه المرجعية الغالية إلا بفعل النظام ، فكيف ننتظر منه حمايتنا من الدعوات الهدامة ؟

كف ننتظر من المساجد أن تحمينا من الآفات الفكرية الدخيلة إذا كان معظمُها يسيطر عليه الدخلاء الذين أرهقوا الناس باسم " السلف الصالح " ، رسالتهم الهدم بدل البناء والتعسير بدل التيسير والتنفير بدل التبشير وتفريق الكلمة بدل جمعها وإلغاء العقل بدل إنارته والعيش في الماضي بدل الحاضر والمستقبل ؟ حتى في تصدّيهم للشيعة فهم يضرّون أكثر ممّا ينفعون لسببيْن اثنيْن : الأول هو اقتصارهم على اللعن والتكفير بعيدا عن المناقشة والتفكير ، والثاني هو انخراطهم في معركة سياسية لا علاقة لنا بها ، إذ يقومون بالانتصار للنظام السعودي ضد النظام الإيراني ، وهذا الأخير يخدم مشروعا مذهبيا طائفيا واضحا بينما لا يخدم النظام الأول أي قضية إسلامية أبدا إنما صراعه سياسي بحت من أجل بقاء عرش الأسرة الحاكمة ، فما دخلنا نحن في هذه المعركة البعيدة عنا ، وما علاقة الاسلام بها ؟

بقيت أقلية من الأئمة يبذلون وسعهم لإحقاق الحق وإبطال الباطل ، من يخالفهم أكثر ممن يساعدهم لأن أمامهم عقبة كأداء نصبها التغريبيون هي شبح الحرية الشخصية التي بِاسْمِها تُباح المنكرات والفواحش وحتى الكفر الصريح ، وليس في دستورهم بندٌ يقدسونه سوى هذه المفردة التي يعملون من خلالها على إبطال شعيرة الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر بنصّ القانون وقوّته .

ننادي الأحزاب الاسلامية لتصدّ الهجمة ؟ إنها – مع الأسف – أصبحت مجرد أحزاب دنيوية تدور في فلك النظام ، لا تقدم ولا تؤخر ، وهي أعجز من أن تكون أداة في التدافع الذي نتحدث عنه منذ أن انغمست في العمل الحزبي وتركت ساحة الدعوة فشغلها الأدعياء بدل الدعاة.

من يحمي المجتمع إذًا ؟ المدرسة التي يجري تغريبها على قدم وساق ؟ الاعلام الذي انحازت أغلب وسائله إلى جانب الدعوات الهدامة تبثّ أخبارها وتزيّنها وتتمنى انتشارها باسم حرية الفكر ؟ أولئك المثقفون الذين باعوا ضمائرهم للفكر الغربي ولو نطقوا بالعربية ؟

هناك حلّ واحد لا ثاني له يتمثل في إرساء صرح مجتمع مدني وطني حقا على أنقاض ذلك " المجتمع المدني " الذي أنشأته السلطة من شذاذ الآفاق من غلاة العلمانيين والبربرست والفرنكوفيل والفيمنست ، يأكل الغلة ويسبّ الملة ، همّه إقصاء الاسلام ، نريد أن تتحرّك النخبة المتشبعة بالثوابت المجتمعية على المستوى المركزي والمحلي لتكوين جمعيات ونوادِ وأُطُر فكرية وإعلامية بسيطة لا تحتاج إلى مقرات فخمة ولا أموال ضخمة ولكن إلى إخلاص وصدق وعزيمة كبيرة ، فالمهمة لا تنحصر في علماء الدين وحدهم – وإن كانوا هم الركيزة الأقوى في الردّ على أصحاب الأهواء – لكنها تمتدّ إلى كل مثقف غيور على دينه يبذل وسعه في نشر الوعي وبسط حجج وبيّنات  أهل الاسلام الصافية في المساجد والمدارس والجامعات والنوادي وعبر أي حيّز إعلامي مُتاح كالجرائد والأنترنت والتواصل الفردي الاجتماعي ، وأخصّ بالذكر جمعيات اولياء التلاميذ التي ينبغي أن تحمي الأجيال من المسخ بدل مسايرة " إصلاحات " هي عين المسخ ، ويا ليت الشباب يعود إلى الحلقات المسجدية تحت إشراف الدعاة الأتقياء المبصرين والعلماء العاملين لينهلوا العلم النافع من الثقات لا من المطويات الاستهلاكية التي تسوّق بسخاء  أفكار هذه الفرقة الضالة أو تلك .

هذه بعض الاقتراحات العملية الممكنة لصدّ الهجمات الشرسة على ديننا وشخصيتنا ، تحتاج إلى إثراء وتعميق وتصحيح وخاصة إلى انطلاق الخيّرين الى العمل قبل استفحال الظاهرة ، لأن المعادلة بسيطة : نحن ننظّر ونؤصل أما الدعوات الوافدة فهي تعمل وتتقدم وتحقق مكاسب في ظل الوهن الذي أصابنا.

وسوم: العدد 711