(أما بين) الحضن والأمل..!

أحمد طاهر أبو عمر

الرافعي: قال سيبويه في (أما بعد): إن معناها (مهما يكن من شيء)، ونقول في (أما قبل) إن معناها (لقد كان ما كان...).

وأقول (أنا) :(أما بين): القبل والبعد، أعيش بين حضنيهما، تتناوشني رياحهما، (بين) الماضي والحاضر والمستقبل، (بين) هذه الأزمنة، أتقّلّب في مشاعري، أستدعي ذاكرتي، وأعيش (وأحيا) همّ حاضري، وأترقّب ما سيسفر عنه مستقبلي.....!

لئن قال الرافعي:(إنها لم تخطر لأحد قطّ)، فأنا أقول: إن (أما بين) لم تخطر لأحد قطّ، أضعها من أجلكم أيها الناس، لا من أجل محبوبة – كما الرافعي؛ فهي كأنما هي عندي (قبل وبعد)، وبينهما وهو (البين) يحتضنهما، يستوعب (القبل) ويحتضن (البعد) (بين) جناحيه.

و(البين) وإن كانت غريبة باللغة، مثل (أما قبل) فهي قريبة من كل قلب؛ لأنها الحضن...!

وإذا كانت (أما قبل) وجه الاتصال بأمس عند الرافعي، و(أما بعد) وجه الاتصال بغد، فإن (أما بين)

وجه الاتصال بـ (أما قبل) و (أما بعد)؛ لأنها الحضن....!

وإذا كانت (أما) حرف توصيل في (أما قبل) وحرف تفصيل في (أما بعد)، فإن (أما) في (أما بين) حرفٌ (بين) توصيل وتفصيل؛ فهي صلة عشق لـ (القبل) وعشق لـ (البعد)؛ لأنها الحضن........!

وإذا كان سيبويه قال في (أما بعد): إنها (مهما يكن من شيء)، وقال الرافعي في (أما قبل): (لقد كان ما كان)، فإن معنى (أما بين) عندي هو: استمرار اللذة والألم؛ استمرار تذوّق اللذة، واستمرار الصبر على الألم، وصولاً إلى الأمل ..!

(أما بين)، وقت أو زمان، وصل بين الماضي والحاضر والمستقبل، غير مقتصر على ماض ومستقبل؛ لأن معناها أن الوقت لا يتوقّف فيجمد، وإنما يستقّر لحظة فيها، أي في (أما بين)، ثم هي تغربله وتقدمه صافياً خالياً من الشوائب، من (أما قبل) إلى (أما بعد)، فهو – أي الوقت أو الزمان- عمر ممتدّ، ما يشي بأن (أما بين) تعني الحضن والأمل..........!

وإذا كانت (أما قبل) تطفح بالحنين، لتتخذ (أما بعد) في مقبل الأيام والأعوام تكئة تستلهم منها الشوق، فإن (أما بين) أداة النقل من (الحنين) إلى (الشوق)؛ لأنها الـ(بين)، ولأنها الحضن والأمل.......!

(أما بين): لسان وقلب معاً، لا ينفكّ أحدهما عن الآخر، ولا غناء لأحدهما عن الآخر، لسان عربي جميل، وقلب عربي جليل، فكيف تكون (أما بين) إذا ما اجتمعا في حضنيهما وبلغ أصداؤهما الآفاق، بعد أن انغمسا في دفئها، ولم لا، فهي الحضن..!!

لسان سؤول، وقلب عقول، لسان ينطق فيتدفق عطاء ومرامي، وقلب ينبض فيتدفق حبّاً ومعاني ... (أما بين) تطلق اللسان فإذا الحكمة تتدفق خاشعة فتُغْني، وتهمس في أذن القلب فإذا الحب كأنه شعر منساب فيُحيي، وكلاهما – اللسان والقلب- حضن (بين) حضنين، ونور يرسل أشعته عليهما، فيضيئان (ذكرى) في (أما قبل) و(أملاً) في (أما بعد) إذا قلتَ: ينبثق الجمال، فقد أصبتَ، وإذا قلتَ: يتراى الجلال، فقد أصبتَ، وإذا أنت من الجمال والجلال، في مقعد سرور وحبور، فكأن كلمات الحكمة ومراميها، ومشاعر القلب ومعانيها، قد اجتمعت في قلب ولسان، فكانت من الجمال والجلال بمكان.

في البدء كانت الكلمة، وتحولت إلى مشاعر دافقة، فشكراً لتلك المعاني التي ينطق بها لسان، وشكراً لتلك الشُّعل التي تضطرم في قلب فتضيء بنورها كل جنان ...!

إن (أما بين) السعادة، والعطر، والحضن، والأمل، فأكرم بها محبوبة، وصلة، وعاطفة، وحكمة، ونوراً، وبركة، تقرّب القريب، وتقرّب البعيد، تقرّب (القبل)، وتقرّب (البعد)، وتضمهما في حضنهما فتتعانق الألفاظ والمعاني، وتتنفس الرئتان منها أجمل الأماني، و(أما بين) الحضن والأمل..(أما بين)...!

عذراً لسيبويه، وعذراً للرافعي، إذ أُقحم نفسي (بينهما)، فأنا أردت أن أجمع (بينهما)، لأنني أحبهما، ولهما فضل عليّ كبير في أن أظهر (أما بين)، فأنا أقرّب القريب وأقرّب البعيد، وأجمع (بينهما) على خير، ومودة، وحكمة، وبلاغة، وأنس، وحضن وأمل، للخصوص والعموم .. إنها (أما بين)...!!!

وسوم: العدد 730