أحدث فلسفات السيسي: «ما عندناش»!

في باريس، خلال مؤتمر صحافي مع الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون، يواجه الرئيس المصري عبد الفتاح السيسي سؤالاً حول حقوق الإنسان؛ فيحيل السائل إلى سلّة أسئلة مضادة: لماذا لا تسألني عن حقوق التعليم والصحة والسكن، وهذه كلها «ما عندناش»، كما قال؟ وقبل أن يبلغ الصحافة أن مصر ليست في أوروبا (كأنّ المعلومة غائبة، أو هي اكتشاف جديد!)، وبالتالي فإنها ليست خاضعة لما تخضع له بلدان أوروبا من معايير بصدد حقوق الإنسان، أعلن السيسي أنه لا يوجد في مصر معتقل سياسي واحد!

وإذا كانت بعض تعبيرات وجه ماكرون قد فضحت بعض أحاسيس الحرج إزاء أقوال ضيفه المصري، فإنّ حكمة الزيارة كانت تُحال ـ في نهاية المطاف، وكما في كلّ مثال لاجتماع ساسة الغرب مع أنظمة الاستبداد المختلفة ـ إلى ما سيُعقد من صفقات تجارية واستثمارية مختلفة؛ على رأسها عقود الأسلحة، غنيّ عن القول، خاصة وأنّ البحرية المصرية هي ثاني أكبر مستخدم للقطع العسكرية التي تنتجها شركة «نافال»، بعد فرنسا ذاتها. لم يكن غريباً، إذن، أن يصرّح ماكرون أنه «مدرك للظروف الأمنية التي يتحرك فيها الرئيس السيسي، لديه تحدي استقرار بلاده ومكافحة التطرف الديني»؛ متابعاً: «أؤمن بسيادة الدول ولا أعطي دروساً للآخرين، كما لا أحب أن يعطي أحد بلادي دروساً». كذلك لم يكن مفاجئاً أن تدخل طائرة السيسي الأجواء الفرنسية، ترافقها ستّ طائرات «رافال»، في علامة صريحة، وفاضحة، على نوعية الحفاوة!

والحال أنّ السيسي كان قد أتى إلى باريس وقد خلّف وراءه واحدة من أبشع مجازر الإرهاب التي تعرّضت لها مصر، منذ انقلابه العسكري في تموز (يوليو) 2013. ولكنه، قبل التحليق إلى فرنسا، وفي غمرة تجاهل تامّ مذهل لمقتل 53 من رجال الشرطة المصريين خلال اشتباكات الواحات، والامتناع عن تعزية عائلات الضحايا؛ قصد العلمين لتلبية واجب آخر أشدّ أهمية، في يقينه: إحياء ذكرى اليوبيل الفضي لمعركة العلمين! ولو تجاسر صحافي في مصر، فسأل السيسي عن أسباب ذلك التجاهل، فلعله كان سيتلقى إجابة أخرى من طراز «ما عندناش»، تقتفي أثر الفلسفة ذاتها التي ستُعلَن من قصر الإليزيه.

ولا يؤتى بجديد عند الإشارة إلى تواطؤ الديمقراطيات الغربية مع أنظمة الاستبداد والانقلابات العسكرية، إذْ سبق أن تنعّم السيسي باحتفاء مماثل من المستشارة الألمانية أنغيلا ميركل، وكذلك فعل الرئيس الأمريكي دونالد ترامب، ورئيسة الوزراء البريطانية تيريزا ماي. بيد أنّ هذا الاحتضان لنظام السيسي بذريعة محاربة الإرهاب، لا يثمر إلا مزيدا من تقصير أجهزة السيسي في محاربة الإرهاب، كما أثبتت الوقائع الدامية خلال الأشهر والسنوات الماضية. ليس أقلّ خطورة ذلك المآل الآخر، الذي يتمثل في اتكاء السيسي على صمت الغرب، فضلاً عن اعتماده على مستويات شتى من التواطؤ، للإمعان أكثر في سياسات القمع الداخلية، وزجّ المئات في السجون، واختفاء مئات آخرين، وإساءة توظيف القضاء تحت اشتراطات قانون الطوارئ.

ما يتعامى عنه أمثال ماكرون وميركل وترامب وماي، وسواهم كثر من زعماء الغرب، هو تلك الحقيقة الساطعة التي تشير إلى علاقة تكاملٍ تصاعدية بين تشديد الاستبداد واشتداد الإرهاب؛ وبين تبييض صفحة الفساد والفاسدين، واتساع موجات الغلاء والإفقار الشامل؛ وبين إعادة إنتاج النظام الأمني القديم على نحو أسوأ، ونجاح الإرهاب والحركات الجهادية في اجتذاب شرائح جديدة من قلب أوساط السخط الشعبية…

وإذْ لا يطلب أحد من ماكرون أن يعطي الدروس لجنرال انقلابي، فإنّ ممارسة التعامي عن سابق قصد وتصميم هي التسمية الأخرى لسياسة التواطؤ ضدّ شعب مصر. وفي هذا خزي فاضح لرئيس يتفاخر مواطنوه بأنّ بلدهم حاضنة حقوق الإنسان!

أحدث فلسفات السيسي: «ما عندناش»!

وسوم: العدد 744