يأس صامت

مأمون احمد مصطفى

(1)

اليوم

يوم أزرق

لا يشبه ألوان السماء

قاتم مربد مصوح

تتناوشه

نسور، وذئاب وصقور

فيه قصة،

وفيه غصة

يتكور، لتكتمل الحسرة

قيل لي

انهض

لا وقت في الوقت

احمل جثتك في النعش

فأنت الآن ميت

وسِرْ في جنازتك صامتًا

خاشعًا، ذائبًا، متأملاً

اتلُ فاتحة الكتاب

واذرف الدمع

يأس منسي ويأس صامت

فالبحر ممتد، واسع،

أزرق كاليوم

كي تجتازه

ستكون بحاجة لجناحي نسر أو عقاب

أو قارب صغير

لا يتسع لاثنينِ

بل لشخص واحد

وقدمين

(٢)

احفر قبرك قبل وصول نعشك

حدد مسافته ومساحته

لا تنسَ استواءَ التربة

وصقل الجدران

ولا تنسَ البخور

وعطر الزيت

ولا تنسَ

وردة يتيمة

أوراقها صفراء

أشواكها حزينة

لا تنسَها

فهي مثلك تسير في جنازتها

ومثلك تذرف الدمع

ومثلك لا تستطيع اجتياز البحر

ولا تنسَ بعض الأحجار

حتى تحدد ذاتك وطُولك وعرضك

ولا تنسَ أبدًا علبة السردين

لتكون مشربًا للطيور

(٣)

فكر بكل شيء

بالتفاصيل المهجورة

والمسكونة

فأنت الآن ميت

لديك متسع من الوقت

فكر بمن سيحملون نعشك معك

بحزنهم، بفرحهم، بصبرهم، وضجرهم

بمن سيهيل معك

عليك التراب

بمن سيجلب الماء

ومن سيعجن الطين

بمن سيسبُّك، ومن سيلعنك

لكن

لا تفكر

أو تحاول

أن تفكر

بمن سيغسلك

لأنه وحده

من يراك عاريًا، هامدًا

ووحده

من يخرج من حيز التفكير

(٤)

فكر بكل شيء

لا تنسَ شجرة التوت

أو حقل الشعير

وتذكر يوم ميلادك

يوم البكاء والعويل

يوم رقصة المخبوء في حبلك السري

فأنت

اليوم حر من كل القيود

لا تملِك من أمرك شيئًا

لا اختيار أو إرادة

لا اختبار أو شهادة

بوسعك أن تنام

وأن تملأ

عينيك بالتراب

فلا ذهب حيث أنت

ولا بريق

لا فرق بين شيح أو شهد

فوقك

شاهد واحد

يشير إلى ضريح

(٥)

فكر وفكر

بخطواتك الأولى

وفكر إن استطعت

بحبيبتك الأولى

بعاطفة تشبه رائحة اللون

بجيوش النمل والقمل

فكر بطعم الملح والليمون

بالخبز واللحم والسمك

بالعصافير حين تشوى

بالزيت والزيتون

بالشفق والغسق

وما بينهما

بالصيف والربيع

بالشتاء والخريف

بالصبح والظهيرة

ولا تنسَ الخيول والحمير

فكر بكل شيء وشيء

لكن

إياك أن تفكر ولو للحظة

بالرحيل

فالرحيل له مذاق رائع لاذع

لا شيء فيه من طعم الموت

أو طعم الحياة

هو هو

كما هو

طعم الرحيل

(٦)

انبش مساحات ومسافات

كليل ونهار

وكحاضر يتجهز للرحيل إلى مستقبل

ومستقبل يزحف للتحول

من ذاته

إلى ماض بعيد

وحاضر

معتقل بيمن ماض ومستقبل

كلحد، كقلاع تسقط

تتهاوى في رحم الصحراء

وكحبة سكر ذابت في محيط

أنت الآن حر وطليق

كما لم تكن يومًا

تعرف، تدرك الأشياء، تراها

لكنك، لا تقول، لا تفصح، لا تخبر

تدخل حلم السر والغامض،

تتحول سرًّا، غيبًا، ومجهولاً

لك اليوم تلال الخصوصية

ذات في ذاتها

ونفس في نفسها

انبش بمذراة قمح

ماضيًا وحاضرًا أنت فيه

لا مستقبل لك اليوم

انفتح الغيب عليك

دفعة واحدة

كبركان وزلزال

كعاصفة وزوبعة

لملم أشلاءك

من دود كنت تراه يومًا

ضعيفًا وحقيرًا

واكسر ظلمة القبر بزاوية من غرور

إن استطعت

انهض من قبرك

لتتذوق طعم الشمس

أو تكمل بناء الضريح

وسوم: العدد 893