مظاهر الأزمة في النقد الأدبي الإٍسلامي المعاصر (خواطر وأفكار سريعة)

أ. عباس المناصرة

يمكننا أن نسجل بعض مظاهر الأزمة النقدية في هذه العجالة، من خلال الإشارات السريعة للمظاهر البارزة على السطح، ضمن النقاط التالية:

1استمر دعاة النقد الإسلامي على التعريفات الناقصة المختزلة التي طرحها الرواد قبل أكثر من أربعين عاماً، ولم يغيروا فيها شيئاً سوى بعض الكلمات والعبارات، وهذا يدل على قلة الجهد المبذول في تعريف الأدب الإسلامي وتفصيل دقائقه، واستخراج مصطلحاته ومفاهيمه الخاصة به، مما أفقد (مشروع الأدب الإسلامي) الخطاب النقدي الجاد والمقنع للآخرين، وبذلك كان ضعف الخطاب النقدي سبباً لضعف الاستقطاب للأدب الإسلامي، وكثيراً ما نقف عاجزين في تعريف الأدب الإسلامي أمام أنفسنا وأمام الآخرين، بسبب قلة الحصاد النقدي الموجود بين أيدينا، وهو حال نابع من وهم الاكتمال الذي سيطر على تفكير دعاة الريادة.

2الوقوع في حالة وهم الاكتمال:

كثير من دعاة النقد الإسلامي يعيشون حالة وهم الاكتمال، فقد وقع في وهمهم أن تجربة الرواد قد اكتملت من جميع جوانبها، وما عليهم إلا أن ينزلوا لواقع التطبيق النقدي، ولكنهم نسوا أنهم لا يملكون نظرية إسلامية نقدية واضحة المقاييس، تهدي التطبيق وتشكل معياراً للحكم على الأدب، وبذلك ظهرت تطبيقات عشواء ليس لها منهجية إسلامية سوى الخبرة الفردية.

3 – الاتكاء على تقنيات النقد الغربي:

وعندما وقع هؤلاء الواهمون في حالة من وهم الاكتمال، ولم يجدوا الأداة النقدية في فكر الرواد استعاروا تقنيات النقد الغربي وخلطوها بالنقد العربي القديم، وظنوا بذلك أنهم حققوا للنقد الإسلامي مقاييسه، فبدأت محاكمة النصوص الإسلامية من هذا المنظور، فأدى ذلك إلى الارتباك وفقدان القدرة على النصح النقدي للمبدع، فسادت التطبيقات الفضفاضة والمجاملة والمدح والتهرب من التوجيه النقدي السليم، ففقد المبدع المسلم من يأخذ بيده ويشرف على صقل تجربته ويحفزه نحو معارج الابتكار مما أدى إلى تكريس الضعف والسطحية في الإنتاج.

وعاش الأديب المسلم على ما يملكه من ثقافة نقدية خاصة كوَّنها باجتهاده، ولكنه لا يملك نقداً إسلامياً يحقق طموحه في توضيح (إسلامية الأدب) ومقاييسها.

4 – فقدان اللغة النقدية المشتركة:

أين هي اللغة النقدية الواحدة المشتركة لمشروع النقد الإسلامي؟ التي لو تكلمنا بها، استطعنا أن نفهم مقاصد بعضنا دون عناء أو تعب.

أظن أننا لم نصل بعد إلى تلك اللغة، لأننا ما زلنا نبحث عنها، ولن نصل إلى امتلاك تلك اللغة، إلا إذا وصلنا إلى النظرية الأم، التي توحد فقهنا ونظرتنا وفكرتنا، حول قضايا الأدب المتشعبة.

وعندما نصل إلى تلك اللغة النقدية المشتركة، سوف نتخاطب بلغة المصطلح، فيفهم بعضنا بعضاً، لأنها لغة نقدية علمية متفق عليها، وليست لغة الخبرة النقدية العائمة التي نتخاطب بها الآن في نقدنا الإسلامي العشوائي.

وهذه اللغة النقدية المشتركة التي نطمح في الوصول إليها، لا تتأتى جزافاً ولا تنبع من الفراغ والعفوية، وإنما تأتي بالقصد والتخطيط والتحديد والتوحيد للمرجعية والمنهج والغاية.

وهي لا تأتي إلا بعد الكد والجهد من المبدعين المخلصين، الذين يجمعون بين النضج والمنهجية العالية، وعندها تستطيع هذه الفئة أن تفرض فقهها وتفسيرها وخطابها النقدي المقنع، وحيث يطمئن الناس إلى صفاء إسلاميتها ووعيها الأدبي، ثم تمتد هذه اللغة بعد أن تتشكل وتتكامل وتتبلور فتكون لغة نقدية مفهومة للجميع، ويبدأ انتشار تلك اللغة النقدية المؤصلة شرعاً وأدباً حتى تستقر ويصطلح عليها.

وهو أمر سهل الحصول عند العمل الجاد، ولكن لا بد من تحقيق شروط حصوله، وهو توحيد المرجعية والمنهج، لأن توحيد المرجعية هو الذي يوجد اللغة المشتركة، وهو الذي يوحد الفكر والمفاهيم ويقرب التجارب من بعضها.

وهو أمر مفقود في لغة النقد الإسلامي الحالي الآن، لأننا نأخذ من مشارب متعددة، تؤدي إلى التباعد والتباين ولا تؤدي إلى التقارب والتوحد.

هذه اللغة النقدية الواحدة التي تعبر عن وحدة التفكير والمنهج والمصطلح والممارسة والتطبيق، لا يمكن أن تظهر قبل أن نحدد مرجعية التنظير للأدب الإسلامي، التي تضمن لنا الانطلاقة القوية الموحدة، وأظن أن هذه المرجعية محددة بـ(القرآن الكريم والسنة النبوية الشريفة وأدب الصحابة والراشدين) لاستخراج أصول الفقه النقدي، ثم يأتي بعد ذلك دور الأجيال الإسلامية في تجديد الفقه النقدي ومده بخبرات وإبداعات جديدة، وعند ذلك يحق لهذا النقد أن ينتسب إلى الإسلام لأنه خرج منه واحتكم إليه.

5 – وأخيراً وليس آخراً، كان الهدف من هذه المقدمة الطويلة التي تناولت تاريخ مصطلح الأدب عند العرب، ثم عرجت على مصطلح النقد الإسلامي الذي طرح (قضية الأدب الإسلامي) في الساحة الأدبية، والظروف التي اعتورت هذا المصطلح، تمهيداً لطرح موضوعنا الجديد (مفهوم الأدب الإسلامي في ضوء نظرية العلم والمعرفة) لأن الأدب الإسلامي ظهر في أحضان الأدب العربي في صدر الإسلام، ثم بدأت الدعوة الحديثة للأدب الإسلامي، وقد ألقينا الضوء على الظروف التي كانت سبباً في بروز أزمة النقد الإسلامي وانعكاساتها على الأدب الإسلامي، وغموض مفهومه الذي لم يلق العناية الكافية، التي تبلور مفهومه وتفصل مقاصده، بسبب قلة الجهود المبذولة، وبقاء التعريفات المختزلة التي طرحها الرواد وتأتي محاولتنا القادمة لتعريف الأدب الإسلامي، تمهيداً للاهتمام بهذه القضية لعلنا نجدد الانتباه والجدال والسجال الذي يعمقها ويؤصلها.

4 – دوافع هذا البحث وفوائده

1 – بحثنا هذا هو بداية لمشروع هدفه التعريف بمصطلح (الأدب الإسلامي) على أسس من البحث عن البدايات الفكرية وتفاصيلها في ضوء نظرية المعرفة، للاستفادة منها في إيضاح معالم المصطلح.

2 – التعريفات المختزلة التي سيطرت على ساحة النقد الإسلامي، لا توصل الباحث إلى فهم واضح لمشروع الأدب الإسلامي، لأنها لم تتعب نفسها في البحث عن الأسس الفكرية الجادة للمشروع، وهي عاجزة عن تقديم الخطاب النقدي المقنع، مما يؤدي إلى عجز متراكم في عملية التنظير النقدي ومصطلحاته ولا يساعد في إيضاح دقائق الفكر النقدي، ولذلك يبقى النقد الإسلامي كسيحاً عاجزاً، إذا لم يستند إلى حكمة نقدية مفصلة ترتوي من ينابيع القرآن الكريم والسنة الشريفة وأدب الصحابة، وهذا هو السبب الذي جر الناقد الإسلامي إلى الاتكاء على مقولات النقد الغربي تحت عباءة (الحكمة ضالة المؤمن) ويبقى في حالة من التبعية، لأنه يتهرب من البحث عن الأصول الفكرية التي تفسر له نظريته الإسلامية في النقد.

فلا بد من الصبر على متاعب مرحلة التأسيس للنقد الإسلامي، إذا أردنا أن نخرج نظريتنا من داخل الإسلام، حتى نستطيع أن ننتمي إليه. لأن النقاء واستقلال النقد الإسلامي بنفسه عن الآخرين، لا يتأتى إلا من خلال المصطلحات النقدية التي تتوالد أثناء عملية التفصيل الجاد للنقد الإسلامي، وبميلاد هذه المصطلحات تتضح معالمه ويتيسر استقلاله ويبين خطابه.

3 – التعريفات المختزلة التي قدمها جيل الرواد للأدب الإسلامي، هي تعريفات ريادية غير مكتملة، وينقصها التحديد الشامل، لأن الرواد قد قدحوا لنا شرارة التأسيس، فعلقوا لافتة الأدب الإسلامي في أرض المشروع، ووظيفة هذه اللافتة أن تعلن عن البدء في المشروع، مشروع التأسيس للنقد الإسلامي ومفاهيمه التي تهتدي بها جهود المبدعين، وهنا يبدأ الخلاف:

- بعضنا يعتبر التعريف قد اكتمل وما عليه إلا أن يبدأ.

- وبعضنا يستعجل العمل ويريدنا أن نبدأ البناء دون حفر الأساس.

- وبعضنا يريد استيراد خرائط المشروع وتفاصيلها النقدية من أوروبا، لأنه يريد وبسرعة فائقة أن ينهي البناء، لينقل اللافتة من أرض المشروع إلى ظهر البناء.

- ونسينا أننا نؤسس لمشروع أدبي ينتسب إلى الإسلام، نسينا أن نستفتي الإسلام نفسه، لأن الإسلام آخر من يستفتى في حالات الاستعجال والانفعال، ولأنه وقع في وهمنا أن الإسلام يرضى منا أن يرفع اسمه فوق أي بناء، حتى لو تحكم فيه الهوى والمزاج، فكثيراً ما يقع المسلمون في الأحوال والأفعال، ثم يفطنون بعد فوات الأوان إلى استفتاء الإسلام، (وخلق الإنسان عجولاً)!!

5 – من أجل ذلك رأيت أن أبدأ مشروعي هذا في محاولة هدفها التفصيل لمفردات المشروع النقدي، وبقدر ما نستطيع، وذلك من خلال البحث عن أصول (الظاهرة الأدبية) في النفس البشرية وفي ضوء (نظرية العلم والمعرفة).

لأن نظرية العلم والمعرفة هي الأقرب من غيرها إلى تفسير الوعي الإبداعي والنشاط الفكري عند الإنسان، هذا من جانب، ومن جانب آخر، لأن الأدب يشكل نوعاً فريداً من أنواع النشاط الذي ينتجه العقل البشري، أثناء خلافته في عمارة هذه الأرض، وفي هذا مدخل مفيد لتعريف الظاهرة الأدبية أولاً، ثم الانتقال إلى التعريف العام للأدب، ومن ثم التعريف الخاص بالأدب الإسلامي ثانياً.

والله ولي التوفيق

الهوامش:

* ألقيت هذه المحاضرة في مقر رابطة الأدب الإسلامي العالمية – المكتب الإقليمي عمان في 10/8/2002 ضمن موسمها الثقافي.

1 – دورة المفاهيم الإسلامية/ معهد الفكر الإسلامي/ المنعقد في الجامعة الأردنية/ الورقة الثانية/ 1996

2 – تاريخ الأدب العربي/ شوقي ضيف/ ط9، ص3/ دار المعارف

3 – ديوان طرفة ابن العبد

4 – لامية العرب. الشنفرى

 5 – الحديث (أدبني ربي...) انظر النهاية/ ابن الأثير/ غريب الحديث والأثر ج1، ص3 والوافي في تاريخ الأدب/ فائز الغول ومجموعة من المؤلفين ج1، ص5

6 – تاريخ الأدب العربي/ شوق ضيف ص8.

7 – العمدة ج1/11

8 – مقدمة ابن خلدون ص408

9 – انظر كتب كل من:

د. شكري فيصل المجتمعات الإسلامية وتطورها اللغوي والأدبي في القرن الأول وتطور الغزل...

د. محمد محمد حسين: الاتجاهات الوطنية في الأدب، حصوننا مهددة من الداخل...

د. عبد الرحمن رأفت الباشا: نحو مذهب إسلامي في الأدب والنقد - الرياض 1985

أ. أنور الجندي: دراسات إسلامية معاصرة.

10 – انظر كتب كل من:

سيد قطب: في التاريخ فكرة ومنهاج، وفي ظلال القرآن، والنقد الأدبي أصوله ومناهجه..

محمد قطب: منهج الفن الإسلامي.

وصلاح الدين السلجوقي: الفن الإسلامي من خلال كتاب الإسلامية والمذاهب الأدبية.

ونجيب الكيلاني: الإسلامية والمذاهب الأدبية ومدخل إلى الأدب الإسلامي من سلسلة كتاب الأمة.

11 – رابطة الأدب الإسلامي العالمية: القوانين والأنظمة، ومجلة الأدب الإسلامي، الإصدارات والنشر ومقابلات صحفية متعددة مع الدكتور عبد القدوس أبو صالح (رئيس الرابطة) التي يشرح فيها فكرة الرابطة.

12 – من قضايا الأدب الإسلامي: د. صالح آدم بيلو ص 57

13 – ملخصات مؤتمر الأدب الإسلامي: الأدب الإسلامي النشأة والمصطلح د. محمد زرمان/ ص17/ جامعة الزرقاء الأهلية/1999.

14 – انظر في (سيمياء الأدب/ حسن الأمراني) و(الثنائيات الأساسية/ عماد الدين خليل) من كتاب مؤتمر الأدب الإسلامي في جامعة الزرقاء الأهلية 1999 (ومقدمة في نظرية الأدب الإسلامي/ عباس المناصرة/ دار البشير 1997).

وسوم: العدد 789