السيرة النبوية (2) (نظرية التعويض (إمكانية التعويض))

أ. عباس المناصرة

لقد شاءت حكمة الله سبحانه وتعالى أن تخاطب البشرية في مرحلة نضوجها الحضاري، بنبي خاتم ودين خاتم، تجد فيه ما يناسب نموها الحضاري المفتوح إلى يوم الدين. وكانت السمة الخاصة بهذا الدين، انه دين عام شامل كامل صالح لكل زمان ومكان، وجعل الله في هذا الدين من سعة المناهج ومرونتها، ما يتسع لظروف تطورها واستيعاب همومها.

لقد انتهى وقت المعجزات الحسية، التي كانت تناسب عقلية الأمم الغابرة، لأَن المعجزات الحسية، كانت تتناسب مع طفولتها الحضارية البدائية، حيث كان تأثير المعجزة الحسية ينتهي بانتهاء رسول تلك الحقبة، وقبيل ظهور الإسلام كانت البشرية قد وصلت إلى مستوى من الحضارة والعلم، يؤهلها لأن تخاطب بدين، يخاطب العقل والوعي الذي وصلت إليه.

ومن هنا كانت الرسالة الخاتمة، والنبي الخاتم لسلسلة الأنبياء، يحمل منهجاً قابلاً للتكرار، لمرونته وشموليته، وكانت معجزة الإسلام (القرآن الكريم) تعتمد الإعجاز العلمي، والثقافي، والفكري واللغوي، والتشريعي، والمنهجي، وكل أنواع الإعجاز التي يمكن للعقل البشري أن يصل إليها، أنها معجزة باقية، دائمة التحدي قال تعالى: (سنريهم آياتنا في الآفاق وفي أنفسهم حتى يتبين لهم أنه الحق) فصلت:53.

هذه المعجزة القرآنية التي تقوم على الخطاب المنهجي الدائم للإنسان، هي نفسها التي عوضت البشرية عن انقطاع الوحي، وغياب النبي، لأن غياب النبي لا يعني غياب المنهج، كما أنها اعتبرت البشرية قادرة بما وصلت إليه من رشد حضاري، على تكرار التجربة الأولى، لتطبيق القرآن الكريم، في السيرة النبوية مرات أخرى، إذا صدقت مع الله في النية والعمل، قال صلى الله عليه وسلم (إني تركت فيكم ما إن اعتصمتم به فلن تضلوا أبداً كتاب الله وسنة نبيه)(2).

وغياب النبي عليه الصلاة والسلام، لم يكن إلا بعد أن ترك الأمة على المحجة البيضاء، ليلها كنهارها لا يزيغ عنها إلا هالك، وقد ترك لنا التجربة الكاملة لتطبيق القرآن الكريم في السيرة العطرة.

وخبر السماء لم ينقطع عن الأرض، إلا بعد أن أكمل الدين نصاً وتطبيقا، قال تعالى: (اليوم أكملت لكم دينكم وأتممت عليكم نعمتي) المائدة 3.

وهكذا نرى أن بقاء الكتاب والسنة والسيرة العملية، يعوض البشرية عن انقطاع (الوحي)، وغياب (النبي)، شريطة أن تعي استخراج الدروس من الكتاب والسنة استخراجاً علمياً مقنناً، يصف لنا: فقه الإسلام في العقيدة والشريعة، والحلال والحرام، والتكليف والاستثناء، وفقه الواقع، وفقه المراحل والأساليب، وفقه المحاكمة، وفقه فهم الغايات والأهداف.....

ولكن يجب التذكير بقضية مهمة، وهي أن كتاب الله وسنة رسوله، تكفي لإنارة الطريق وزيادة، شريطة أن يدرك دعاةُ هذا العصر أن هناك مهمة شغرت، بعد انقطاع الوحي وغياب النبي أُوكلت إليهم، وهي من اخطر المهمات، ولا يمكن النجاح في التعويض إلا بإتقانها، إلا وهي: مهمة التصحيح المستمر لتجربة التطبيق الجديدة، فقد كان الوحي الكريم يُصحح مسار التطبيق، وينقل أَوامر الله سبحانه وتعالى إلى نبيه باستمرار، ومن هنا كانت حكمة تنجيم وتفريق القرآن، مرتبطة بأسباب معينة، تخص التطبيق والتصحيح في الفهم والنية والعمل.

والمراجع للقرآن والسيرة، يجد أن المجاملة والمداراة على حساب المنهج مرفوضة تماماً، وفي دروس غزوة أُحد وحُنَين أمثلة واضحة على ذلك، لأن الضعف في التصحيح، يؤدي إلى تراكم الخطأ، والقبول بالأخطاء، يُشكل تآكل الدعوات من الداخل وانهيارها.

فكيف ومتى يستطيع دعاة هذا العصر أن يستخرجوا فقه التصحيح المستمر، الذي يضع النقاط على الحروف ؟ دون ضغط من هوى، أو مصلحة، أو مدارة على حساب المنهج، ولعلها أخطر قضية تتحدى دعاة اليوم.

والإجابة الوحيدة التي أراها - مقنعة لي على الأقل - هي أن تبحث الأمة عن منهجها العلمي، الذي يوضح خطوط التعويض الحقة، من كتاب الله وسنة رسوله، وتستخرجه لينير لها طريق العمل، شريطة أَن ينبع هذا المنهج من عباءة القرآن، وسنته -صلى الله عليه وسلم- ويصب في وجدان المسلم، دون أن تلوثه مناهج التغريب، تحت اسم البحث عن ضالة المؤمن (الحكمة) كما يزعم الزاعمون.

خطوط التعويض في البناء الحضاري

وحتى نعوض أنفسنا عن إشراف الوحي المباشر، الذي كان يقود التجربة الأولى لهذا الدين، تحت رعاية الله سبحانه وعنايته، وبعد أن انقطع عنا خبر السماء، الذي كان يصحح المسيرة باستمرار، وحتى نعوض أنفسنا عن غياب الحبيب القائد الذي لا ينطق عن الهوى، اصبح لزاماً علينا، أن نبحث عن منهج علمي، يحمينا من جهلنا وتخبطنا، منهج يؤخذ من المصادر الشرعية ونصوصها، يخضع لها، ويهتدي بها في كل صغيرة وكبيرة، و هذا المنهج يقو م على خطوط رئيسة منها:

1- الخط الأول: الأخذ بالأسباب:

وتقوم منهجية الأخذ بالأسباب على أساس راسخ من العقيدة الإسلامية، حيث يدرك المسلم أن خلافته على الأرض، توجب عليه الاستعداد للحياة الدنيا، من خلال الأخذ بالأسباب، وعلى أساس من معرفة النواميس والسنن، التي غرسها الله سبحانه وتعالى في الكون والحياة والنفس البشرية، وحيث أن المنهجية القرآنية، تدفع بالمسلم نحو اكتشاف الأسباب ومعرفة نتائجها، والأخذ بها حتى يتقوى بهذا الاكتشاف، ويستعين به في بناء حضارته، مع علمه أَن هذه الأسباب، لا توصل إلى الأهداف، إلا بتوفيق من الله عز وجل.

المؤمن يتقوى بالأسباب، ويلجأ إلى خالقها، طالباً منه التوفيق والعون والسداد، حتى لا يقع في عبادتها من دون الله، انه يتوكل على الله وليس على الأسباب ونتائجها، قال صلى الله عليه وسلم  (اعقلها وتوكل)(3).

ونلاحظ ذلك عملياً في تطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم ففي غزوة بدر مثلاً، أخذ بالأسباب والاستعداد، ثم ختم ذلك بالدعاء إلى خالقها، طالباً منه العون والثبات، ثم ترك الأمر لمشيئة الله سبحانه تختار للمسلمين ما تريد.

يقول سيد قطب -رحمه الله - (فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله، واتسع له تصورها ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان إلى مشيئته المطلقة)(4).

ومن ضوابط هذه المنهجية والتي تدعمها شواهد كثيرة من السنة الشريفة ما يلي:

1- لا بد من وضوح الغايات والأهداف، التي نصت عليها عقيدة الإسلام وشريعته في تفكير المسلم، لان وضوح الأهداف والغايات يؤدي إلى وضوح الطرق والمراحل والوسائل التي توصل إليها، وإخضاع العلم والتطبيق لنية العبادة والتقرب به إلى الله وهو أول أسباب النجاح، والعلم والأعمال تتحول إلى طاعة وقربى، إذا خلصت النية فيها لله سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى...) متفق عليه(5).

2- ومن ضوابط هذه المنهجية: التأصيل الشرعي الدائم للعلم والعمل، لان هذا التأصيل معناه، صحة العمل، وصحة العبادة، والقبول عند الله أولاً، ومعناه أيضاً إسلامية المنهج وإسلامية التطبيق، وإسلامية الغايات والأهداف ثانياً، وبذلك ينال ثقة المسلمين، ومن معانيه نفي الخبث والانحراف والتشوه عن دين الأمة، والعودة به إلى صفاء النبع الذي تشرب منه الأمة (القرآن والسنة).

3- ومن ضوابط هذه المنهجية الأَخذ بأقصى درجات الاستعداد العلمي، لفقه الإسلام والعمل به من القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة (التجربة التطبيقية الأُولى) لان المسلم مطالب شرعاً بالمقاربة والتسديد، ولأن العلم العميق بالإسلام يضيء طريق العمل له، قال صلى الله عليه وسلم:

1- "... ولكن سدوداً وقاربوا... " (6).

2- (فقيه واحد اشد على الشيطان من أَلف عابد)(7).

4- ومن منهجية الأخذ بالأسباب: إتقان العمل على أساس من التخصص، بداية من العلم الذي يصف ذلك التخصص والانتهاء به إلى التطبيق العملي الذي يوظفه في بناء حضارة الإسلام، وأعلى مراتب العمل اتقاناً هو الإحسان، الذي يجمع بين (النظرية و التطبيق) في أعلى مراتبها قال صلى الله عليه وسلم:

1- (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم)(8).

2- (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)(9).

3- (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك...)(10).

4- (أن الله كتب الإحسان على كل شيء...)(11).

5- ومن منهجية الأخذ بالأسباب، تفتح عقل المسلم للتعلم من تجاربه في الحياة، والفطنة وعدم تكرار الأخطاء، والابتعاد عن الحمق، والغباء، والإمعية، والتقليد، ودفن الرأس في الرمال، وهذه الصفات السلبية، لا تتواجد في مسلم عرف إسلامه جيداً، ومن رآها في نفسه، فعليه ان يراجع فهمه للإسلام من جديد، قال صلى الله عليه وسلم:

1- (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) متفق عليه(12).

2- (المؤمن كيس فطن حذر، وقّاف لا يعجل )(13).

3- (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)(14).

4- (لا يكن أحدكم إمعة...)(15).

5- (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)(16).

6- ومن هذه الضوابط الابتعاد عن الترف الفكري، وتحويل العلم إلى عمل، لان فائدة العلم هي في العمل به، ومواجهة الأخطاء ومنع تراكمها، ونلاحظ أن أدبيات الصحوة الإسلامية - في أيامنا هذه - تقوم على المجاملة والتهرب من التصحيح، في كثير من جوانبها، خوفاً (من جلد الذات) كما يقول العباقرة المبررون...!!

7- ومن العبارات المشهورة في تاريخ هذه الأمة، أَن عمر -رضي الله عنه- وعندما تأخر النصر على المسلمين في إحدى المعارك قال لقائد تلك المعركة: إنما ننتصر عليهم بطاعتنا لله وعصيانهم له، فإذا تساوينا معهم في المعصية كانت الغلبة للقوة، أَي للأخذ بالأسباب.

2- الخط الثاني: فتح بوابة الاجتهاد والتجديد والإحياء واكتشاف سنن الكون والحياة.

الاجتهاد بين الثوابت (الأحكام القطعية) والمتغيرات (الظنية):

أ- الثوابت: ويقصد بثوابت الإسلام، الأصول والفروع التي نص عليها الشرع بحكم قطعي الدلالة، وهي إلى لا مجال فيها للاجتهاد، لأن الشارع حددها وفصلها فهي أحكام ثابتة لا تتبدل ولا تتغير، ومجال اجتهاد العقل البشري هو فهمها وفقهها، كما نص عليها الشرع، وكما يفهم من دلالته اللغوية، وأسباب نزوله؛ لان القاعدة الشرعية تقول (لا اجتهاد في موضع النص). وهي محاور ثابتة، تغطي جميع مسائل الحياة تغطية مباشرة متفاوتة، وتنبثق من العقيدة الإسلامية في أصولها، ومن الشريعة الإسلامية في أحكامها، كقضايا العقيدة وآيات الأحكام وفقه العبادات.. وغيرها.

وهذه الثوابت المنصوص عليها شرعاً، لا مجال فيها للاجتهاد، ولا تقابل إلا بالتسليم والخضوع لأمر الله سبحانه وتعالى فيها، والخروج عليها أو الخضوع لها يتوقف عليه كفر أو إيمان.

وهذه الثوابت تُعين العقل البشري على الاستقرار، وتريحه من التخبط، وتبين له البدايات السليمة، وهو مطالب بالتكيف معها والتطبيق لها، والتحرك ضمن إطارها، لأنها بمثابة الضوابط التي تضبط حركة الإنسان، وعقله داخل محور الهداية، حتى لا يضل ولا يشقى بين كثرة الطرق المتشعبة.

يقول سيد قطب -رحمه الله-: (وهي من مقومات هذا التصور الأساسية وقيمه الذاتية، فهي لا تتغير ولا تتبدل ولا تتطور حينما تتغــير " ظواهر" الحياة الواقعية، ولا يقتضي هذا "تجميد" حركة الفكر والحياة، ولكنه يقتضي السماح لها بالحركة داخل الإطار الثابت وحول المحور الثابت، وسمة الحركة داخل المحور الثابت هي طابع الصنعة الإلهية في الكون)(17).

ب- المتغيرات: وأَما ما تغير من الإلى بين الزمان والمكان، ولم يرد فيه نص شرعي، فقد تُرِك المجال فيه للعقل البشري، لاستنباط الأحكام بضوابط لا تخرج عن المحاور الثابتة، حتى يقوم العقل بحل إشكالية التغيير والتطور فيها بالحكم الاجتهادي، وهذه هي بوابة الاجتهاد والمساحة والتي فتحها الله سبحانه وتعالى لتوظيف العقل البشري خدمة للمحاور الثابتة في الإسلام، ولمواجهة حركة الحياة المتبدلة والمتغيرة المتطورة، لأن حكمة الله شاءت أن تحمي الإنسان المؤمن من نفسه بالثوابت، وان تترك العناصر المتطورة والمتغيرة لعقول أبناء الإسلام، حسب الأزمنة والأمكنة، وحسب تغير مصالحها ليجتهدوا فيها ضمن حدود الثوابت ومعطياتها.

جـ - وقد وردت مجموعة من المصطلحات التي توضح أهمية التعامل مع المتغيرات الاجتهادية في أحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم منها:

1- الاجتهاد: ( إذا حكم الحاكم فاجتهد فأصاب فله أجران، وإذا حكم فاجتهد فأخطأ فله أجر)(18).

2- التجديد: (إن الله يبعث لهذه الأمة على رأس كل مئة سنة من يجدد لها دينها) "رواه أبو دواد في الملاحم".

يقول الأستاذ عمر عبيد حسن في مقدمته لكتاب " المنهج النبوي في التغيير الحضاري ": "لقد جعل التجديد تكليفاً، ولم يقتصر على أن يكون إخباراً، والتجديد الذي هو في الحقيقة تقويم للواقع وتغيير له ومحاولة للعودة به إلى الينابيع الأولى، بعد إدراك هذا الواقع في ضوء المنهج النبوي للتغيير... وهو لازم من لوازم الخاتمية، حيث توقف التصويب من السماء، فلا بد من ممارسة عمليات التصويب والتقويم للواقع في ضوء مرجعية قيم السماء... "(19).

3- الإحــياء (من أحيا سنـة من سنتي قد أُميتت بعـدي، فــإن له من الأجر مثل من عمل بها)(20) وكل هذه المصطلحات تحث على الاجتهاد، لتجديد أمر هذا الدين، حتى يندفع للسيطرة على الحياة، لكسر  طوق الجمود والتخلف ولمواجهة الانحراف، وحتى يعود العمل بالإسلام من خلال العلم به والاجتهاد له والتجديد لأمره.

إنه دين يجمع بين المحاور الثابتة - بالنص الشرعي ـ وبين الأمور المتغيرة في الحياة؛ حتى يحمي الإنسان من الضلال، فيندفع إلى العلم والتطبيق حيث يكلف العقل البشري بالاجتهاد لها.

وهو دين يعلم ضعف العقل البشري فيعطيه (الثوابت) التي حميه من الانزلاق وراء الأهواء، ويعلم عظمة هذا العقل، فيكلفه (بالاجتهاد والتجديد والإحياء واكتشاف سنن الله) في الكون والحياة؛ من أجل تسخيرها لخدمة خلافته في الأرض، وهذا هو الجمع الدائم بين الثابت والمتغير، في موازنة حكيمة؛ لضبط النشاط الحضاري للإنسان، وحمايته من الضدين (الانفلات والجمود).

وسوم: العدد 808