نظرة في ديوان (ما يشبه الرّثاء).... للأديب فراس حاجّ محمد

محمد موسى عويسات

clip_image002_56f5a.jpg

الدّيوان يقع في مائة وتسعين صفحة من القطع المتوسط، وصدر عن دار طباق للنّشر والتّوزيع، الطّبعة الأولى 2019.

جاء العنوان (ما يشبه الرّثاء) ليعبّر عن مضمون الدّيوان، فكان بحقّ اختيارا موفّقا، فلا تكاد تخلو قصيدة منه من رثاء أو ما يشبه الرّثاء، لا بل هو البكاء وأحيانا الصّراخ. والسّؤال الذي يبعثه العنوان هو ما الذي رثاه الشّاعر؟ أي ما القضايا التي بكاها الشّاعر في ديوانه؟ والحقّ أنّ الشاعر رثى أمورا كثيرة، يرثي الوطن، ويرثي القدس، ويرثي الثّقافة، يرثي حال الشّعر والنّقد والرواية، ويرثي حال الشّعب في تسلط الاحتلال عليه كما في قصيدة شيء عن الجنود، ولكنّ هذا الرّثاء أو ما يشبه الرّثاء جاء على صورة النّقد المجتمعيّ العامّ، ومنه النّقد الاجتماعيّ، فالسّخط والتبرّم والرّفض وغيرها هي السّلك الذي تنتظم فيه هذه القصائد، وقلّما تجد قصيدة تخلو منه، فمثلا يقول في قصيدة (ضدّ عليك): أنا يا وطن الأراجيف... ضدّ من شربوا بكأسك خمرة البلد الشفيفة... أنا ضدّ من لبسوا بعارك مخملا ظلّا... بآهات مخيفة" . وفي كلّ هذا يجعل الشّاعر من نفسه محورا لكلّ هذا النّقد، يقول في قصيدة (شيء عن الجنود): الجنود يغتصبونني... ويأخذون منّي لغتي... ويسرقون ملامح صوتي. إلى أن يقول: الجنود يغسلون دمي المدنّس بالشّظايا". وتغلب على قصائد الشّاعر النّظرة السّوداويّة فهناك حشد عظيم من الألفاظ والعبارات البكائيّة الرّثائيّة الحزينة اليائسة: (عيون اليأس ملأى، وقفت سويعات الهباء، تفيض به المحارق، صحراؤنا عفراء تلفظنا، قولي له قد مات، غريبان هنا وهنالك، ينقلب العالم يمشي على رأس مشوّه، إلخ. وهكذا عبّر الشاعر بهذه اللغة عن نفس يختلجها ألم وحزن مكنونين، وحسبنا بعض العبارات التي تعبّر عن حالته النفسية إذ يقول في المقطع الرابع عشر من الجزء الموسوم بـ (أخيرا): ما في القلب أقسى من لغة القصائد ... خائنة قصائدي هذه، إلى أن يقول: "خائنة دمائي التي تغطّيني... بقطعة منّي... وتستر نفسها بالتورية". يقول في قصيدة الوقت مشبع بالثرثرة: "أنا لا أحبّ تتابع السنين... وأكره الرزنامة والأجندة ... وتاريخ ميلادي وأعياد ميلاد الأصدقاء والقربى... وذكريات حبيبتي المبتعدة ... وأكره يومين آخرين بعيدين قريبين... الأول من يناير والأخير من شهر ديسمبر... وأنسى طوال العام هذا المفترس الأكول... يقضمني يوما فيوما... ويجعلني محتاجا لمراجعة الطبيب أكثر... أكثر من أيّ عام مضى."

والجانب الآخر في هذا الديون، الموحي بحالة نفسيّة تعتري الشاعر وتتجلّى ظاهرة للعيان، هو البوح الجنسيّ الجريء، فالديوان مغرق في تفاصيل تصلّ حدّا يمسّ بالذّوق السّليم، ويأباه الدّين، وتأباها الأعراف والقيم، وهذه تأخذ مساحة لا بأس بها من أشعاره في هذا الدّيوان، وتعدّ قصيدته ( وجع السّؤال... تعب الحقيقة) ص158 خير دليل عليها. ويقول في قصيدته (غير أمّي): "ثمّة امرأة غير أمّي... تفتّش في ملابسي الداخليّة عن أمارات النساء الأخريات... عن مصير الحبّة الزرقاء في جيبي ... عن رائحة أنثويّة في الخلايا النائمة". وهذا البوح له تفسيران: الأول أنّ الشّاعر يعبّر عن معاناة ذكوريّة، فيحاول تقيؤها عبر أشعاره، يصرح بهذا في قوله: "وتقلّ بعد قليل شهوتي... وشهوتي تأخذ بعدا افتراضيّا مريضا.... وأكون مضطرا وأنا أرى تجاعيد وجهي الأبيض وفي شعر رأسي وجسمي... وتساقط الشّعر عن ساقيّ وصدري... أشعر أنّني صرت أقرب للعدم". وفي هذا السّياق نرى الشّاعر يحمل على النّساء، وينظر لهنّ نظرة شهوانيّة، فالمرأة في ديوانه موضع شهوة، وقد بدت الإساءة لهنّ بيّنة، والنّظرة لهنّ دونيّة، يقول في المقطع الخامس والعشرين من (وأخيرا) في حديثه عن لفظة (نساء) وفي تلاعب لغويّ ناجح: النّساء ليست جمعا مطلقا... مفردة لغويّة تخلو من المعنى... تكذب في دلالتها أحايين أخرى... النّون عارية... كأنّ النّهد في جوف حوت... والسّين مثل كناية من السّعف المجرّد... في الرّمل يابسة... أسقطت في البحر ثلاثة من أسنانها". إلى أن يقول في الهمزة من لفظ نساء: تخلع نفسها وتعوم في بحر من الإغراء... تحمي نفسها من ضعفها الكونيّ... النّساء بلا عائلة". ويقول في قصيدة (صفّ من النّسوان) مصوّرا المرأة كبيرة السّنّ في أبشع صورة: صفّ من النّسوة ... مقطّشات الملابس مثل الحمام الهرم.... منفّشات الرّأس، والأذرع بالية، والجلد أجعد أصفر دون زغب طريّ. إلى أن يقول: "يحاولن احتمالا ميّتا في افترار الابتسام... فتصيب الكشرة أفواههنّ الدّردة... تفوح منهنّ كؤوس السّهرة بعد منتصف السّكر... يمتعض البعوض من غثاء أقلقه... صفّ من النّسوان يتقنّ كلّما مرّت ظلال الفحل فصول تلك الثّرثرة... تصمت عاجزة شهواتهنّ العجِزة". فالشّاعر في أغلب حديثه عن المرأة لم يحسن الحديث عن الحبّ والمشاعر والخوالج العاطفيّة، بقدر ما أجاد وأكثر من الحديث عن الشّهوة، وهذه بحقّ أفرغت قصائده المتألّقة من النّاحية الفنّيّة واللغويّة، من المضمون الإنسانيّ الراقيّ والمعنى السّامي. فالحديث الشّهواني وهذه الإباحيّة تثير سؤالا، أو تردّنا إلى قضيّة: ما المقصود من الأدب إذا لم يكن مأدبة للتربيّة النفسيالرّاقية، والذوق الفطريّ السّليم؟

أمّا التفسير الثاني لمثل هذا البوح الصّريح، فقد يكون بقصد لفت النّظر للشّاعر وشعره من خلال ضجيج تثيره في المحافل الأدبيّة والأوساط النقديّة، وهذه حالة نفسيّة أخرى غير الأولى، وهي ظاهرة ملحوظة في عصرنا، وفي عصور خلت، فلمّا أراد بشار بن برد أن يطلب الشّهرة وأخذ موقع في مربد البصرة، هجا جريرا. يقول شاعرنا في المقطع الأول من (وأخيرا): "وقصيدة عمياء تخبط كلّ باب ... تشجّ رأس الهاربين من الخراب إلى الخراب" ويقول في قصيدة (اسم في المذكّرة): جمعت شتاتي في آخر المشوار... رقما تربّع في مهاوي الذّاكرة... رسمت نجومي في سماء مكفهرّة... تلبّدت أسماؤها التي نافت عن العشرين... لأكون ذيلا في محطّة ... نعت لي نفسها بمرور قافلة... من العرسان كلّهم لم يعجبوها". وإذا ما جئنا إلى اللغة والصّورة، وجدنا الشّاعر يبدع في معظم قصائده، وبخاصّة فيما يتعلّق بالنّدب والبكاء والرّثاء ونفث الحسرات، وفيما يتعلّق بالحديث عن الشّهوة والصّراخ الجنسيّ، ولكنّني لم أره أفلح كثيرا في جانبيّ اللغة والصورة لمّا تناول بعض القضايا، من مثل النّقد للحالة الأدبيّة الشعريّة والنّقديّة والثقافيّة، ففي قصيدة (أولئك المردة) نجده يميل إلى المباشرة ويتحوّل شعره إلى سباب بلغة بسيطة وصور فنّيّة باهتة، يقول: " المثقفون يحيون في غابة صنعوها بأيديهم... وصاروا ذئابها... كلّ شيء ينهشون... الوردة والقصيدة" إلى: " المثقّفون مرض عضال... مزدحمون في المقهى... لا يعرفون الحبّ". وقد تجلّى هذا الضعف في حديثه عن مدينة القدس في قصيدته (المدينة لا تموت)، فلا أرى الشاعر أجاد الحديث عن المدينة، وبدا على قصيدته التكلّف، وكانت خالية من العاطفة، والمتفكّر فيها لا يجدها أكثر من موضوع تعبير، بل بدا التكلّف في صورة معقّدة جاء بها:" تلك المدينة... مذ كانت قرنفلة تعيش بنفسها... يتسلّق التاريخ ظلّها الأبديّ كلّما انتبه النّهار... لحجارة من بابها الغربيّ... في جبل المكبّر" ... ثمّ يأتي في أسلوب تقريريّ ليقول: " تلك المدينة المسمّاة مجازا القدس... روح الله.... معبر نحو السماء الثامنة... ماء الله والنّجوى الإلهيّة" فهل هذه صورة يستسيغها الذّوق الشّعريّ السّليم؟! وممّا يؤخذ على الشّاعر في هذا الدّيوان أنّه لم يحسن التّوظيف التراثيّ، وبخاصّة في الجانب الدّينيّ، وأقف هنا عند توظيفه لقصّة يوسف في قصيدة ( لم يعد أحد بريء) يقول: " رأيت دماء يوسف نازفة... وقميصه المقدود من قُبل... ومن دُبُر جريح... ويوسف لم يكن في الجبّ" ويقول: " رأيت يوسف في الشّوارع... يذرع الحانات واحدة فواحدة... ليشرب نخب ذئب وحمل"، فهو لم يأت من قصّة يوسف بحدث حقيقيّ يوظّف ليعبّر عن واقع أو يؤخذ منه درس، أو يصنع منه صورة جماليّة، بل عمد إلى القصّة وقلبها رأسًا على عقب دون أن يلتفت أنّه يتحدث عن نبيّ الله يوسف. فوصف يوسف يدور على الخمّارات ورجل هوى وظالم وجاهل وغير ذلك أمر يتنافى مع الدّين. وربّما يفسّر هذا الأمر بما فسّر به إغراقه في البوح الجنسيّ، ينشد به الضّجيج الذي ربّما يرفعه أو يخفضه. ويبقى السؤال الملحّ في كلّ ما يكتب من الألوان الأدبيّة هو: لمن نكتب؟. صحيح أنّ الكاتب يعبّر عن نفسه وعن تجربته وشعوره ورؤيته الخاصّة، ولكنّه في نهاية المطاف يقدّم كلّ هذا للنّاس، في الشّكل واللغة والمضمون. فالإغراق في الرّمزيّة، أو جلب الاستعارة الغريبة المركّبة، أوالإغراق في الخيال إلى حدّ الانغلاق، أوالخروج عن الذّوق العامّ، أو المسّ بالقيم الدينيّة، وتوظيفها مشوّهة، أو حشد الألفاظ الغريبة، كلّ هذا يفقد النّصّ قيمته، ولا يخرجه من محبس دفتيّ الكتاب. ولا يعذر كاتب أو شاعر في أنّه مسبوق إلى مثل هذه الأمور، فقد قال بشّار بن برد أشعارا كثيرة، كان بها فحلا من فحول شعراء مطلع العصر العباسيّ، وقد خالطها كثير من الغثّ في مضمونه، وقد فرضت غثاثة المضمون غثاثة في اللغة، فكانت أشعاره المقدّمة لطلاب العربيّة منتقاة، والمتروك منها متروك لاستكشاف شخصيّة بشار. وعلى أيّة حال لا بدّ أن يكون نتاجنا الأدبيّ ملتزما، أي ذا قضيّة جليلة نافعة توجّه الناس والأجيال، ولا بدّ أن يبتعد أدب عن البكاء والجلد والتفريغ النفسيّ.

وسوم: العدد 846