(السيرة النبوية- الصحوة – النهضة ) 4 خطوط التعويض في البناء الحضاري

وحتى نعوض أنفسنا عن إشراف الوحي المباشر، الذي كان يقود التجربة الأولى لهذا الدين، تحت رعاية الله سبحانه وعنايته، وبعد أن انقطع عنا خبر السماء، الذي كان يصحح المسيرة باستمرار، وحتى نعوض أنفسنا عن غياب الحبيب القائد الذي لا ينطق عن الهوى، اصبح لزاماً علينا، أن نبحث عن منهج علمي، يحمينا من جهلنا وتخبطنا، منهج يؤخذ من المصادر الشرعية ونصوصها، يخضع لها، ويهتدي بها في كل صغيرة وكبيرة، و هذا المنهج يقو م على خطوط رئيسة منها:

1- الخط الأول: الأخذ بالأسباب:

وتقوم منهجية الأخذ بالأسباب على أساس راسخ من العقيدة الإسلامية، حيث يدرك المسلم أن خلافته على الأرض، توجب عليه الاستعداد للحياة الدنيا، من خلال الأخذ بالأسباب، وعلى أساس من معرفة النواميس والسنن، التي غرسها الله سبحانه وتعالى في الكون والحياة والنفس البشرية، وحيث أن المنهجية القرآنية، تدفع بالمسلم نحو اكتشاف الأسباب ومعرفة نتائجها، والأخذ بها حتى يتقوى بهذا الاكتشاف، ويستعين به في بناء حضارته، مع علمه أَن هذه الأسباب، لا توصل إلى الأهداف، إلا بتوفيق من الله عز وجل.

المؤمن يتقوى بالأسباب، ويلجأ إلى خالقها، طالباً منه التوفيق والعون والسداد، حتى لا يقع في عبادتها من دون الله، انه يتوكل على الله وليس على الأسباب ونتائجها، قال صلى الله عليه وسلم  (اعقلها وتوكل)(3).

ونلاحظ ذلك عملياً في تطبيقات الرسول صلى الله عليه وسلم ففي غزوة بدر مثلاً، أخذ بالأسباب والاستعداد، ثم ختم ذلك بالدعاء إلى خالقها، طالباً منه العون والثبات، ثم ترك الأمر لمشيئة الله سبحانه تختار للمسلمين ما تريد.

يقول سيد قطب -رحمه الله - (فأما هذه الأمة المختارة فقد استيقنت هذا كله، واتسع له تصورها ووقع في حسها التوازن بين ثبات السنن وطلاقة المشيئة فاستقامت حياتها على التعامل مع سنن الله الثابتة والاطمئنان إلى مشيئته المطلقة)(4).

ومن ضوابط هذه المنهجية والتي تدعمها شواهد كثيرة من السنة الشريفة ما يلي:

1- لا بد من وضوح الغايات والأهداف، التي نصت عليها عقيدة الإسلام وشريعته في تفكير المسلم، لان وضوح الأهداف والغايات يؤدي إلى وضوح الطرق والمراحل والوسائل التي توصل إليها، وإخضاع العلم والتطبيق لنية العبادة والتقرب به إلى الله وهو أول أسباب النجاح، والعلم والأعمال تتحول إلى طاعة وقربى، إذا خلصت النية فيها لله سبحانه وتعالى، قال صلى الله عليه وسلم: (إنما الأعمال بالنيات وإنما لكل امرئ ما نوى...) متفق عليه(5).

2- ومن ضوابط هذه المنهجية: التأصيل الشرعي الدائم للعلم والعمل، لان هذا التأصيل معناه، صحة العمل، وصحة العبادة، والقبول عند الله أولاً، ومعناه أيضاً إسلامية المنهج وإسلامية التطبيق، وإسلامية الغايات والأهداف ثانياً، وبذلك ينال ثقة المسلمين، ومن معانيه نفي الخبث والانحراف والتشوه عن دين الأمة، والعودة به إلى صفاء النبع الذي تشرب منه الأمة (القرآن والسنة).

3- ومن ضوابط هذه المنهجية الأَخذ بأقصى درجات الاستعداد العلمي، لفقه الإسلام والعمل به من القرآن الكريم والسيرة النبوية الشريفة (التجربة التطبيقية الأُولى) لان المسلم مطالب شرعاً بالمقاربة والتسديد، ولأن العلم العميق بالإسلام يضيء طريق العمل له، قال صلى الله عليه وسلم:

1- "... ولكن سدوداً وقاربوا... " (6).

2- (فقيه واحد اشد على الشيطان من أَلف عابد)(7).

4- ومن منهجية الأخذ بالأسباب: إتقان العمل على أساس من التخصص، بداية من العلم الذي يصف ذلك التخصص والانتهاء به إلى التطبيق العملي الذي يوظفه في بناء حضارة الإسلام، وأعلى مراتب العمل اتقاناً هو الإحسان، الذي يجمع بين (النظرية و التطبيق) في أعلى مراتبها قال صلى الله عليه وسلم:

1- (من عمل بما علم أورثه الله علم ما لم يعلم)(8).

2- (إن الله يحب إذا عمل أحدكم عملاً أن يتقنه)(9).

3- (الإحسان أن تعبد الله كأنك تراه، فإن لم تكن تراه فإنه يراك...)(10).

4- (أن الله كتب الإحسان على كل شيء...)(11).

5- ومن منهجية الأخذ بالأسباب، تفتح عقل المسلم للتعلم من تجاربه في الحياة، والفطنة وعدم تكرار الأخطاء، والابتعاد عن الحمق، والغباء، والإمعية، والتقليد، ودفن الرأس في الرمال، وهذه الصفات السلبية، لا تتواجد في مسلم عرف إسلامه جيداً، ومن رآها في نفسه، فعليه ان يراجع فهمه للإسلام من جديد، قال صلى الله عليه وسلم:

1- (لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين) متفق عليه(12).

2- (المؤمن كيس فطن حذر، وقّاف لا يعجل )(13).

3- (اتقوا فراسة المؤمن فإنه ينظر بنور الله)(14).

4- (لا يكن أحدكم إمعة...)(15).

5- (الكيس من دان نفسه وعمل لما بعد الموت والعاجز من اتبع نفسه هواها وتمنى على الله الأماني)(16).

6- ومن هذه الضوابط الابتعاد عن الترف الفكري، وتحويل العلم إلى عمل، لان فائدة العلم هي في العمل به، ومواجهة الأخطاء ومنع تراكمها، ونلاحظ أن أدبيات الصحوة الإسلامية - في أيامنا هذه - تقوم على المجاملة والتهرب من التصحيح، في كثير من جوانبها، خوفاً (من جلد الذات) كما يقول العباقرة المبررون...!!

7- ومن العبارات المشهورة في تاريخ هذه الأمة، أَن عمر -رضي الله عنه- وعندما تأخر النصر على المسلمين في إحدى المعارك قال لقائد تلك المعركة: إنما ننتصر عليهم بطاعتنا لله وعصيانهم له، فإذا تساوينا معهم في المعصية كانت الغلبة للقوة، أَي للأخذ بالأسباب.

وسوم: العدد 863