( السيرة النبوية – الصحوة – النهضة ) 9 المرحلة الثانية: (الشمولية النظرية)

أ. عباس المناصرة

نظريات العلوم الإسلامية (الفقه النظري المتخصص)

مقدمة: وقبل أن ندخل في الشمولية النظرية، أحب أن أقدم رأيين، رأي في أهمية النظرية والتنظير، ورأي آخر في أهمية التخصص.

أ- الرأي الأول في أهمية التنظير:

يقول الأستاذ محمد وليد سليمان تحت عنوان " دعوة إلى التنظير " (نزعم ابتداء أن كلمة (التنظير) قد ظلمت ظلماً شديداً في أوساط العاملين في الحقل الإسلامي، فما تكاد تذكر إلا وتتأفف منها الأنفس، أو تحيطها بالسخرية والازدراء، ونزعم أيضاً أن شيئا من الجهل هو السبب الرئيس لذلك، فما اتفق المفكرون على شيء اكثر من اتفاقهم على أن "الفكر يسبق الحركة " وأنَّ وضوح الرؤية من أوليات أسباب النجاح.

إن المظهر الأساسي لظلم كلمة (التنظير) ومفهومها في الوسط الإسلامي، ذلك الغياب الكبير للتنظير والمنظرين، وما يرافق هذا الغياب من ظن المسلمين وأوهامهم انهم شبعوا تنظيراً وكلاماً وكتابات، وان الإسلام اليوم بحاجة إلى العمل الجاد والإخلاص والتضحيات... ولما كنا نريد بالتنظير هنا، التنظير للعمل الإسلامي خاصة، فان من السهل أن ندعو المتأملين والباحثين إلى جولة في المكتبة الإسلامية، ليصدموا بندرة الكتب التي تنظر للعمل الإسلامي، وتبحث في أهدافه ووسائله وطرائقه، وأسباب نجاحاته أو إخفاقاته)(22).

 ب- الرأي الثاني: في أهمية التخصص:

يقول الأستاذ برغوث عبد العزيز بن مبارك تحت عنوان " خاصية التخصص"

(لقد كان لخاصيتي العلمية والعملية، دور بالغ الأثر في طبع الواقع العالمي الراهن بميزة التخصص الدقيق في كل شيء، فعلى صعيد المعرفة مثلاً، تفرعت المعارف، وتخصصت بشكل لم يكن يتصوره " دو كايم " وهو يقدم ملاحظته في موضوع علم الاجتماع فقد تعب كثيراً في موضوع التسمية نفسه، واليوم نجد هذا العلمَ متفرعاً إلى اكثر من سبعين فرعاً، كل واحد منها بحاجة إلى وقت كبير جداً لاستيعابه وقد انتشر المنطق التخصصي في كل تفاصيل حياتنا العامة والاقتصادية والاجتماعية، والثقافية، والتعليمية والتربوية والإدارية، انه فيما يتعلق في هذه الفكرة بالذات، نتأسف كثيراً لما يحدث في عالمنا الإسلامي عندما نشاهد متخصصين مطلقين، يتكلمون في كل العلوم بلا علم ولا دراية، ما زالت تراودهم فكرة الموسوعية التي قضى عليها عصر العالمية والعلمية والعملية)(23).

كان القصد من ذكر موضـوع " الـتنظير " والتخصـص هو الإشارة إلى أهمية الشمولية النظرية (علم الفهم النظري) لكل قضية من قضايا العلم في القرآن والسنة، والتي كان غيابها سبباً من أسباب ميلاد "ظاهرة الفوضوية " وبذلك فقدت الصحوة الإسلامية من يرشد خطاها في الفهم وينقلها من مرحلة الاعتقاد بصلاح هذا الدين وشموله، إلى نظريات شمولية متخصصة تترجم عقيدة الشمول في الفهم، وتوضح خرائطها وتأخذ بيدها نحو النهضة المهتدية بالعلم الإسلامي المتخصص.

الشمولية النظرية:

وحتى نسير في خطوات علمية تفصل شمولية العقيدة، وتنقلها إلى شمولية الفهم النظري المتخصص، في طريق تعويض الأمة عما فقدته من تصويب السماء، بعد انقطاع الوحي وبعد غياب النبي عليه الصلاة والسلام وفي ضوء المرجعية الشرعية، آخذاً بالأسباب التي تضمن للأمة خصوصيتها ونقاء دينها.

 وهي علوم نظرية وسيطة بين علوم التفسير وعلوم التطبيق، هدفها نقل الفهم من حالة الأفكار والآراء المبعثرة هنا وهناك، إلى نظرية علمية كاملة الموقف.

هذه العلوم النظرية، هي التي تنقل الإسلام من معتقد الصلاح الشامل إلى تفصيل شمولية الإسلام علمياً، حيث تعطينا تصوراً علمياً نظرياً يعتمد النسق المترابط في الموضوع الواحد، حتى تنكشف أجزاء هذا الموضوع وعلائقه: الخاص، والعام، والاستثناء، والتفصيل من خلال فهم مقاصد جميع الشواهد على الخارطة الشاملة للنظرية:

(نظرية في علم النفس الإسلامي، نظرية في علم الاجتماعي الإسلامي، نظرية في علم التربية الإسلامية، نظرية في علم الاقتصاد الإسلامي، نظرية في علم السياسة الشرعية الإسلامية، نظرية في الأدب الإسلامي، نظرية في علم الإدارة الإسلامية، نظرية.....).

 ويكون استخراج هذه النظريات بجمع النصوص الشرعية والتطبيقية من القرآن الكريم والسنة الشريفة والسيرة الشريفة، واجتهاد الصحابة والتابعين والعلماء في علوم التفسير والفقه والتطبيقات الإسلامية الصحيحة عبر العصور ومن خلال فهم أساليب اللغة العربية وأسباب النزول (للآيات) وأسباب الورود (للسنة)، حتى يتحقق الفهم في نظرية كاملة شاملة للموضوع الواحد نضمن من خلالها ما يلي:

1- جمع النصوص الشرعية في الموضوع الواحد، وتصنيف مقاصد هذه النصوص، وكشف مسارات الأحكام المستخرجة منها، وترتيب هذه الأحكام في نظرية مترابطة، كاملة البناء والموقف والخطوات المنهجية.

2- هذه النظرية هي انتقال من جهود علماء التفسير إلى جهد علمي جديد هو علم الفهم النظري، الذي يعتمد على جهود علماء التفسير ويستخرج منها فهماً متخصصاً، يحل كثيراً من المشكلات، مثل مشاكل الفهم الموضعي في علم التفسير، وتصنيف جهود العلماء في القضية الواحدة، وإزالة وهم التعارض بين النصوص الشرعية، والاهتمام بالتفصيل العلمي الذي يخدم هدف التطبيق، للوصول إلى الفهم العلمي المؤصل شرعياً.

3- أنها نظرية شاملة كاملة، تنقل جهود علماء التفسير من حالة تفسير المقاصد الشرعية إلى نظرية في فهم هذه المقاصد وتصنيفها وضبطها، بحيث تستغرق جميع الشواهد التخصصية من مصادرها الشرعية، دون إهمال أو تجاهل لأي شاهد، وتضع كل شاهد في موقعه الحقيقي من خارطة الشواهد، وتربط نسق العلاقات العلمي بين الجزء والكل، داخل النظرية الواحدة ثم علائق هذه النظرية مع الثوابت والمتغيرات من البناء الإسلامي الشامل، ولو افترضنا أن قضية ما، لها مئة شاهد من القرآن الكريم والسنة والسيرة والتطبيقات المختلفة لها في التاريخ الإسلامي، وتغيب عدد قليل من شواهدها فمعنى ذلك أن هذه النظرية مهددة بالضعف، لعدم اكتمال الشواهد، ولأن الشواهد القليلة المتغيبة عن البحث قد تقلب النسق العلمي والاستنتاجي لبناء النظرية، إلى اتجاهات جديدة في الفهم والفقه.

وسوم: العدد 868