مَعَ إِعرَابِ القُرآنِ...

أ. د. سعدالدين إبراهيم المصطفى

وَقَولُهُ تَعَالَى: (مَثَلُهُم كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوقَدَ نَاْرًا فَلَمَّا أَضَاْءَتْ مَا حَوْلَهُ ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِم، وَتَرَكَهُمْ فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبْصِرُونَ) . المَثَلُ يُؤَثِّرُ فِي القَلْبِ مَاْ لَا يُؤَثِّرُهُ وَصْفُ الشَّيءِ فِي نَفسِهِ، وَذلِكَ لِأَنَّ الغَرضَ مِن المَثَلِ تَشبِيهُ الخَفِيِّ بِالجَلِيِّ وَالغَائِبِ بِالشَّاهِدِ، فَيَتَأَكَّدُ الوُقُوفُ علَى مَاهِيَتِهِ، وَيَصِيرُ الحِسُّ مُطابِقًا لِلعَقلِ، وَذلِكَ هُوَ النِّهَايَةُ فِي الإِيضَاحِ فِي التَّرغِيبِ فِي الإِيمانِ لِذا مُثِّلَ بِالظُّلمَةِ .

قَولُهُ: (مَثَلُهُم) مُبتَدأٌ. وَ(كَمَثَلِ) جَارٌّ وَمَجرُورٌ خَبَرُهُ، فَيَتَعلَّقُ بِمَحذُوفٍ علَى قَاعِدَةِ البَابِ. وَالتَّقدِيرُ: مَثَلُهُم مُستَقِرٌّ. وَأَجازَ أَبُو البَقَاءِ (ت616هــ) وابن عطيَّة (ت542هــ) أَنْ تَكُونَ الكَافُ اسمًا هِيَ الخَبَرُ، وَنَظِيرُهُ قَولُ الشَّاعِرِ :

أَتَنتَهُونَ؟ وَلَنْ يَنهَى ذَوِي شَطَطٍ  كَالطَّعنِ يَذهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالفُتُلُ

وَهذا مذهَبُ الأَخفَشِ (ت215هــ): يُجِيزُ أَنْ تَكُونَ الكَافُ اسمًا مُطلَقًا. وَأَمَّا مَذهَبُ سِيبويه فلا يُجِيزُ ذلِكَ إِلَّا فِي شِعرٍ. وَأَمَّا تَنظِيرُهُ بِالبَيتِ فَلَيسَ كما قَالَ، لأَنَّ فِي البَيتِ نَضْطَرُّ إِلَى جَعلِهَا اسمًا لِكَونِهَا فَاعِلَةً بِخِلافِ الآَيَةِ.

وَالَّذِي يَنبَغِي أَنْ يُقَالَ: إِنَّ (كَافَ) التَّشبِيهِ لَهَا ثَلاثَةُ أَحوَالٍ: حَالٌ يَتَعَيَّنُ فِيهَا أَنْ تَكُونَ اسمًا، وَهِيَ ما إِذا كانَتْ فَاعِلَةً، أَو مَجرُورَةً بِحَرفٍ، أَو إِضَافَةً، وَمِثَالُ الفَاعِلِ قَولُهُ: (مِن البَسِيطِ)

أَتَنتَهُونَ؟ وَلَنْ يَنهَى ذَوِي شَطَطٍ  كَالطَّعنِ يَذهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالفُتُلُ

وَمِثَالُ جَرِّهَا بِحَرفٍ قَولُ امرِئِ القَيسِ :

وَرُحْنَا بِكَابْنِ المَاءِ يُجنَبُ وَسْطَنَا    تُصَوَّبُ فِيهِ العَينُ طَورًا وَتَرتَقِي

وَمِثَالُ جَرِّهَا بِالإِضَافَةِ قَولُهُ : (مِن السَّرِيعِ)

فَصُيِّرُوا مِثَلَ كَعَصفٍ مَأَكُولْ

وَحَالٌ يَتَعَيَّنُ أَنْ تَكُونَ فِيهَا حَرفًا، وَهِيَ: الوَاقِعَةُ صِلَةً، نَحوُ: جَاءَ الَّذِي كَزَيدٍ، لأَنَّ جَعْلَها اسمًا يَستَلزِمُ حَذفُ عائِدِ مُبتَدَأٍ مِن غَيرِ طُولِ الصِّلَةِ، وَهذا مُمتَنِعٌ عِندَ البَصرِيِّينَ، وَحالٌ ثَالِثَةٌ يَجُوزُ فِيهَا الأَمرَانِ، وَهِيَ ما عَدَا ذلِكَ نَحوُ: زَيدٌ كَعَمرٍو.

أَرَادَ: مِثلُ الطَّعْنِ، وِبِمِثلِ ابنِ المَاءِ. وَيَجُوزُ أَنْ يَكُونَ الخَبَرُ مَحذُوفًا، تَقدِيرُهُ: مَثَلُهُم مُستَقِرٌّ كَمَثَلِ، فَالكَافُ علَى هذا حَرفٌ. وَالمَثَلُ وَالمِثْلُ وَالمَثِيلُ وَاحِدٌ، وَمَعنَاهُ: الشَّبَهُ. وَالمُتَمَاثِلَانِ: المُتَشَابِهَانِ.

وَ(الَّذِي) فِي مَحلِّ خَفضٍ بِالإِضَافَةِ، وَهُوَ مَوصُولٌ لِلمُفرَدِ المُذكَّرِ، وَلكِنَّ المُرَادَ هُنَا جَمعٌ، وَلِذلِكَ رُوعِيَ مَعَناهُ فِي قَولِهِ: (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِم وَتَرَكَهُم) فَأَعادَ الضَّمِيرَ علَيهِ جَمعًا، وَالأَولَى أَنْ يُقَالَ: إِنَّ (الَّذِي) وَقَعَ وَصفًا لِشَيءٍ يُفهِمُ الجَمعُ، ثُمَّ حُذِفَ ذلِكَ المَوصُوفُ لِلدِّلالَةِ علَيهِ.

وَقَولُهُ: (استَوقَدَ): (استَفْعَلَ) بِمَعنَى (أَفعَلَ)، نَحوُ: استَجَابَ، بِمعنَى (أَجَابَ)، وَهُوَ رَأيُ الأَخفش (ت215هــ)، وَعلَيهِ قَولُ الشَّاعِرِ : (مِن الطَّوِيلِ)

وَدَاعٍ دَعَا: يَا مَنْ يُجِيبُ إِلَى الهُدَى  فَلَم يَستَجِبْهُ عِندَ ذاكَ مُجِيبُ

أَي: فَلَمْ يُجِبْهُ.

الفَاءُ لِلسَّبَبِ أَي: استِئنَافِيَّةٌ. وَ(لَمَّا) حَرفُ وُجُوبٍ لِوُجُوبٍ هذا مَذهَبُ سِيبَوَيهِ. وَزَعَمَ الفَارِسيُّ (ت377هــ) وَتَبِعَهُ أَبُو البَقَاءِ العُكبُرِيُّ (ت616هــ)، أَنَّهَا ظَرفٌ بِمَعنَى (حِينَ)، وَأَنَّ العَامِلَ فِيهَا جَوَابُهَا. 

اسمُ شَرطٍ غَيرُ جَازِمٍ مَبنِيٌّ فِي مَحلِّ نَصبٍ مَفعُولٌ فِيهِ ظَرفُ زَمانٍ مُتَعَلِّقٌ بِالجَوابِ (ذَهَبَ). أَضَاءَ: فِعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ. وَ(مَا) اسمٌ مَوصُولٌ مَبنِيٌّ فِي مَحلِّ نَصبٍ مَفعُولٌ بِهِ. حَولَهُ: مَفعُولٌ فِيهِ ظَرفُ مَكانٍ مَنصُوبٌ. وَالهَاءُ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ مَبنِيٌّ فِي مَحلِّ جَرٍّ مُضَافٌ إِلَيهِ. (أَضاءَتْ مَا حَولَهُ) فِي مَحلِّ جَرٍّ مُضَافٌ إِلَيهِ.

وَفِي (مَا) ثَلَاثَةُ أَوجُهٍ، أَحَدُهَا: أَنْ تَكُونَ بِمَعنَى الَّذِي، وَالثَّانِي: هِيَ نَكِرَةٌ مَوصُوفَةٌ، أَي: مَكانًا حَولَهُ،  وَالثَّالِثُ: هِيَ زَائِدَةٌ.

وَقَولُهُ: (وَتَرَكَهُم فِي ظُلُمَاتٍ لا يُبصِرُونَ) فَهذِهِ جُملَةٌ مَعطُوفَةٌ علَى (ذَهَبَ اللهُ بِنُورِهِم) لا مَحَلَّ لَهَا مِن الإِعرَابِ. فِعلٌ ماضٍ مَبنِيٌّ علَى الفَتحِ. وَالهَاءُ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ مَبنِيٌّ فِي مَحلِّ نَصبٍ مَفعُولٌ بِهِ أَوَّل. فِي ظُلُمَاتٍ: حَرفُ جَرٍّ. اسمٌ مَجرُورٌ. وَالجَارُّ وَالمَجرُورُ مَفعُولٌ ثَانٍ لـِ (تَرَكَهُم). (لا يُبصِرُونَ) نافِيَةٌ لا عَمَلَ لَهَا. ويُبصِرُونَ: فِعلٌ مُضَارِعٌ مَرفُوعٌ وَعَلَامَةُ رَفعِهِ ثُبُوتُ النُّونِ مِن الأَفعَالِ الخَمسَةِ. وَوَاوُ الجَمَاعَةِ ضَمِيرٌ مُتَّصِلٌ مَبنِيٌّ فِي مَحَلِّ رَفعٍ فَاعِلٌ. وَالجُملَةُ فِي مَحلِّ نَصبٍ حَالٌ مِن الضَّمِيرِ الهَاءِ فِي (تَرَكَهُم).

فَإِنْ قِيلَ: لِمَ قِيلَ: ذَهَبَ بِنُورِهِم، وَلَم يَقُلْ: أَذهَبَ اللهُ نُورَهُم؟؟؟ فَالجَوابُ: أَنَّ مَعنَى أَذهَبَهُ: أَزَالَهُ، وَجَعَلَهُ ذَاهِبًا، وَمَعنَى ذَهَبَ بِهِ: إِذا أَخَذَهُ، وَمَضَى بِهِ مَعَهُ، وَمِنهُ: ذَهَبَ السُّلطَانُ بِمَالِهِ: أَخَذَهُ، فَالمَعنَى: أَخَذَ اللهُ نُورَهُ، وَأَمسَكَهُ، فَهُوَ أَبلَغُ مِن الإِذهَابِ.

التَّصرِيفُ

اسْتَوقَدَ: علَى وَزنِ اسْتَفعَلَ. مَاضٍ ثُلاثِيٌّ مَزيدٌ فِيهِ ثَلاثَةُ أَحرفٍ قَبلَ الفَاءِ وَالزّيادةُ فِيهِ لِلطَّلَبِ. وَهُوَ علَى وَزنِ الرُّبَاعِيِّ وَغَيرُ مُلحَقٍ بِهِ، صَحيحٌ مَثالٌ. يُوقَفُ علَيهِ بِالسُّكُونِ المُجَرَّدِ، وَيَجُوزُ الرَّومُ، وَالإِشمامُ وَالتَّضعِيفُ، فِي الوَقفِ، وَالسِّينُ سَاْكِنَةٌ فَجِيءَ بِهَمزَةِ الوَصلِ لِلتَّمَكُّنِ مِن النُّطقِ بِالسَّاكِنِ، وَلَمَّا اتَّصَلَتْ بِهِ اليَاءُ سَقَطَتْ الهَمزَةُ لَفظًا.

العَرُوضُ

أَتَنتَهُونَ؟ وَلَنْ يَنهَى ذَوِي شَطَطٍ  كَالطَّعنِ يَذهَبُ فِيهِ الزَّيْتُ وَالفُتُلُ

أَتَنتَهُو/نَ؟ وَلَنْ/ يَنهَى ذَوِي/ شَطَطِنْ    كَطْطَعْنِ يَذْ/هَبُ فِيـ/ـهِ زْزَيْتُ وَلْـ/ـفُتُلُو

مُتَفْعِلُنْ-فَعِلُنْ -مُسْتَفْعِلُنْ- فَعِلُنْ      مُسْتْفْعِلُنْ- فَعِلُنْ- مُسْتَفْعِلُنْ- فِعِلُنْ

مِن البَحْرِ البَسيطِ.

العَرُوضُ: (شَطَطِنْ، فَعِلُنْ: ///ه، وَالضَّربُ: فُتُلُوْ، فَعِلُنْ: ///ه). العَرُوضُ والضَّربُ مَخبُونَانِ. وَالخَبنُ: حَذْفُ الثَّانِي السَّاكِنِ. وَقَد لَحِقَ أَيضًا الصَّدرَ فِي أَوَّلِ البَيتِ.

وسوم: العدد 884