تاريخ الآداب الإنسانية (8) "بدايات ومؤثرات"

أ. عباس المناصرة

(8) الأدب الإسلامي مع الرسالة الخاتمة :

ثم جاء النبي الخاتم لرسالة الإسلام الكاملة المهيمنة على ما سبق من هدي الإسلام للأمم الإسلامية السابقة، وجاء هذا الإسلام الكامل الشامل، الذي يخاطب الإنسانية بكاملها، بما يتناسب مع نضوج البشرية في طورها الحضاري الأخير، يخاطب جميع الأمم خطاب جامعاً، بعد أن كان يخاطبهم في السابق مخاطبة الأجزاء والشعوب والأقوام والقبائل، جاء دور الإسلام الكامل الذي يخاطب البشرية كافة في قوله تعالى: (يا أيها الناس إنا خلقناكم من ذكر وأنثى وجعلناكم شعوبا وقبائل لتعارفوا إن أكرمكم عند الله اتقاكم)(32)،

وقوله تعالى أيضا: (وما أرسلناك إلا كافةً للناس بشيراً ونذيراً، ولكن أكثر الناسٍ لا يعلمون)(33).

وقوله تعالى: (قل يا أيها الناس إني رسول الله إليكم جميعا)(34).

وجاء الكتاب المقدس لهذه الرسالة الخاتمة والمعجزة الخالدة (القرآن الكريم) و   (الحديث الشريف)، لنجد أن مرجعية هذا الدين الخاتم تعتمد لغة البيان والأسلوب الأدبي المحبب لدى البشر، ومخاطبة العقل البشري خطاباً أدبياً معجزاً خالداً، يدفعه إلى التفكير والتأمل في الواقع الكوني المحيط بما يحتويه من مسخرات الحيوان والنبات والجماد والهواء والنجوم والكواكب والسماء والأرض، وكلها في صورها البلاغية مستمدة من الواقع الذي لا خرافة فيه ولا أساطير ولا سحر ولا عرافه، وبعيداً أيضاً عن جدل الفلسفة وجفاف أساليبها وطباعها.

وهذا ما صنعه القرآن الكريم وأحاديث الرسول صلى الله عليه وسلم من تأثير وتأسيس في الأدب الإسلامي، من أدب اللغة العربية ثم امتد تأثيره مع انتشار الإسلام في الآداب الإسلامية ولغات الشعوب الإسلامية الأخرى، و كلها توكيد للبلاغة الواقعية البعيدة عن صناعات الخيال الوثني المجنح، وذلك لأنها تميل إلى الصدق الفني الذي يخدم الصدق الواقعي الذي أشرنا إليه في الواقعية الإسلامية واقعية (الغيب والشهادة)، ويمتد مع المخيلة التي صنعتها العقيدة الإسلامية ليكون الخيال الإسلامي قائماً على البلاغة الواقعية والبيان، الذي يؤكد الاتصال بالمضامين التي ترسمها العقيدة الإسلامية والنظام الشامل للإسلام في ذهن المسلم، لأن الخيال الإسلامي يمتد حيث تمتد العقيدة الإسلامية، حين ترسم صورة كاملة عن الحياة، من بداية خلق الكون إلى نهاية يوم القيامة، وما تتعلمه الذاكرة الإسلامية من تفاصيل عن العقيدة ومقصد وجودنا في الحياة، وأوامر الله سبحانه وتعالى بحال مخلوقاته صغيرها وكبيرها إلى حقائق يوم القيامة وتفاصيلها وما يحدث في الكون من انفراط لعقد، كواكبه ونجومه، وظهور الجنة والنار وأحوال الخلق وتفاصيلها.

وهذا الأمر الذي نكشفه من سمات بلاغة الواقع والبيان الحق، هو ليس سمه سلبية لآداب أمم التوحيد والإسلام، بل هو تأكيد على هوية مستقلة لآداب هذه الأمم الموحدة العابدة لله سبحانه وتعالى في مذهب مترابط لآداب هذا التوحيد التي أنتجتها أجيال المؤمنين في عصور الأنبياء وأتباعهم، وبالذات الإسلام في عصر الرسالة الخاتمة، عصر محمد صلى الله عليه وسلم، وأمته الوارثة لهذا الدين إلى نهاية الزمان، وهو أمر مرتبط بعقيدة التوحيد ووضوحها في عقول المؤمنين، حين فسرت لهم الحياة ومقصد وجودنا فيها ووضحت لهم العلاقة مع المخلوقات التي سخرها الله لهم، وبذلك لم يقع عقل هذا المسلم في الخوف من الكائنات ولم يعبدها، و ظل متصلا بعلم الوحي و بخالقه، ولم يحتاج إلى صناعه الأساطير والأديان الوثنية والخرافات لتفسير الحياة، ولا وقع في تمجيد الذات والدوران حولها والروحنة والترويض، ولذلك جاء أدبه متطابقاً مع خياله الذي امتد مع عقيدته، هذه سمة آداب التوحيد والموحدين لله عبر عصور التاريخ، وهي تدل على نضج العقل ووضوح الهدف وبلاغة الواقع، لأنه لم يقع في البدائية والمراحل الطفولية والتفلسف التي وقع فيها العقل المنفصل، الذي انقطع عن الوحي ورفض التلقى منه. وهذه الفرية التي أطلقها بعض المؤرخين من المستشرقين، وبالذات أرنست رينان الفرنسي حين زعم أن الأدب العربي والإسلامي في مجموعهِ متخلفاً، إذا ما قورن بالآداب الإغريقية (اليونانية والرومانية)(35)، وأن كثيرا من الألوان تنقصه كالقصة والمسرحية والملاحم الشعرية والأساطير التي تدل على سعه الخيال المجنح وامتداده، ونسي هؤلاء أن الأساطير مرتبطة بثقافة العقل الوثني المنفصل عن علوم الوحي، وأن الخيال السامي والإسلامي هو خيال أمم التوحيد، ولم يدرك أن هذا الأدب هو أدب الحياة الإنسانية الراقية، التي تخلصت من الخضوع للطبيعة والأوهام والآلهة التي صنعها الوثني من أوهامه.

كما أن هذا المؤرخ وقع في هذا الخطأ الجسيم قد خالف منهج العلم والعدل، حين قاس الآداب الإسلامية على ما أُلف من الآداب الأوروبية الإغريقية، حيث جعل هذه الآداب نموذجا يحتذى ويقاس عليه، فمن الذي اعترف له بصحة هذا المقياس النقدي وسمح له أن يجعل من هذا الأدب نموذجاً؟! أليس هو العقلية الاستعمارية العنصرية المدفوعة بحالة الاستعلاء الأوروبي، وهي حاله مؤقتة ونهايتها إلى زوال بإذن الله، ولا يرددها إلا تلاميذ الاستعمار من المستغربين في بلادنا.

ولو أننا عكسنا القياس وخالفنا هذا المنهاج، لقلنا أن آدابهم هو أدب الإنسان المتخلف، الذي وقع تحت رحمة الطبيعة حين اختار البدائية، وانفصل عن علم الوحي فوقع في صناعه الأساطير والآلهة، وجعل الحرية المطلقة معبوده وهدفه ومنهجه الذي يركض وراءه.

*(عضو رابطة الأدب الإسلامي العالمية)

وسوم: العدد 888