المقدمة لديوان الرمَل للشاعر أحمد القاطي

محمد فريد الرياحي

إني أرى الشاعر في شاعرية عرضها كعرض الذات التي تسع ما كان، وما هو كائن، وما سيكون، من الصور والرؤى والأحلام التي أصلها من الأنا الفوار، ومرجعها إليه، في لحظة دافقة بالحياة، رائقة في الوجود، معرقة في الخيال، مغرقة في الجمال، لائطة بالأسحار، موزونة بالأوتار، موصولة بالأسرار، لا ترقى إلى الأسمى إلا لتبقى فيه أمدا من الشعور، وحيزا من الانفعال، فإذا هبطت منه في انقشاع الحلم عن الواجهة الأخرى التي لا تنفك تلوح بما فيها من الثقل والسواد، فإذا هبطت منه مقهورة محسورة، عادت في تمردها، وثورانها، وطيرانها إليه وهي في أبهى صورها، وأزكى ذِكرها، وأحلى عبرها، وأغلى سيرها، لتفصح عن الذي فيها من السمو إلى الأعالي، والدنو من العلالي، في مدد لا يقل، وعزم لا يكل، وهل يرتد الشعراء عن الذي عزموا من الإرادة؟ وهل يترك الشاعر ما نواه في محرابه من مواسم العبادة؟ إني أراه وهو يسير في طريقه إلى ما يُسر له من سماوة القمم، ونقاوة الهمم، أراه يعود حينا بعد حين إلى صباه، ومبتدا هواه، لعله يجد فيه ما رآه في أول احتكاكه بالوجود من اللمحة الشاعرة، والوثبة الغامرة، في ورد من الهبات الدرية، والصلات البدرية. أليس الشاعر ، ولو اشتد عوده، طفلا لا يفارق صباه إلا ليعود إليه، في عناق لا يتخلف عن موعده، ولا يرتد عن وعده؟ أليس الصبا هو معقد الآمال والأحلام، حتى إذا ولى بدا ما هو واقع من الأحوال الضيقة حقيقة ترخي بسدولها، وتبغي ديمومة في المكان والزمان؟ غير أن الإنسان في ثباته وهيامه بالحركة لا يرضى بهذا الواقع الذي يضرب بجذوره في المأساة بعنفوانها فيه، فلا سبيل فيما يخيل للنزعة الانهزامية إلى الخلاص أو الفكاك. غير أن الإنسان الشاعر، وهو يقبل من عالم الرؤى والأحلام، لا يرضى بأن يكون كما هو في الواقع، أو كما أريد له أن يكون فيه محسورا مدحورا، ولكنه يتطلع في توفز هو مالكه، والقائم فيه والمقيم عليه، إلى ما أراده، بل إلى ما أريد له من الانسياب في العالم العلوي الذي هو عالم الشعور في غليانه وثورانه، واحتدامه بالصورالمونقات، واحتدامه بالفكَر المورقات، فلا مجال إذن للانحسار والارتداد في لحظة

فانظروا بعد هذا الذي ذكرناه من الإشارة والعبارة إلى المجموعة الشعرية التي كتبها الشاعر أحمد القاطي بعصبه في جولة من الطرب، ودورة من العجب، فهي ترجمان ذاته، ومفتاح صفاته، ومغلاق ما كان من لحظاته العسيرة، داخل تجربته الوفيرة، فلما استوت هذه التجربة قولا من القول، وأداء من الأداء، وفنا من الفن، تم له من الامتداد في الزمن الشعري ما مكنه من الوقوف بحاله التي لا تبلى، ولوامعه التي تُملى في جوانية هو مدركها بالبصيرة الرهيفة. أليس هو الشاعر الذي عرفته ذكيا في أشعاره، بهيا في أسطاره، رضيا بأوتاره، سخيا في قراءاته وأذكاره؟ أليس هو الشاعرالذي أدرك تازة بما فيه من جليل الهبات، وجميل الصفات، من قبل أن تدركه هي بما فيها من الحب الوريف، والظل الرهيف، والحكي الطريف؟ لقد كان أحمد القاطي، وعرفته في مهرجانات الشعر والأغنية التي انعقدت الأيدي عليها في تازة الفيحاء في مرحلة من مراحل هذا الوطن الشامخ، لقد كان مع أخذه من الشعر بوفرة هي له، إنسانا يملك من معاني الإنسانية ما مكن له في الأصل الأصيل من القدرة على العطاء الأغر الأروع. ألا وإن أهم ما ينبغي أن يكون عليه الشاعر، أي شاعر بلغ منه حب الشعر الشغاف والسويداء، هو تغلغله في الإنسانية، وتغلغل الإنسانية فيه، فإذا هو قادر مقتدر على أن يبلغ من الشاعرية حبتها ومهجتها، ويدرك قلبها ولبها، فإذا هو هي، وإذا هي هو.أما بعد، فإن هذه المجموعة، وقرأتها، شاهد على إنسانية الشاعر أحمد القاطي الذي أحب الجميل فلم يركن إلا له، وقدس الجليل فلم يلجأ إلا إليه. وهل في الوجود الشاعري أجمل من الجميل في ذاته، وأجل من الجليل في جوهره؟

(1) من ديوان الشاعر إبراهيم ناجي

وسوم: العدد 915