فَذْلَكاتٌ لُغَويةٌ سياسيّة

د. محمد بسام يوسف

(1)

*فَذْلَكَةُ الأَلِف*:*

*(أَخَذَ) وأخواتها!..*

(أَخَذَ) تعني: حاز الشيء وحَصَّله، كما ورد في محكم التنـزيل: (خُذْ مِنْ أَمْوَالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَتُزَكِّيهِمْ بِهَا..) (التوبة: من الآية 103).. وقد طوَّر الحكّامُ الحاليون هذا المعنى، ليواكبوا العصر الذي نحن فيه، فإذا ما أرادوا (تطهير) زَيْدٍ من الناس.. فإنهم -ليطهّروه- يأخذون مالَه كله وليس بعضه، ومالَ جيرانه وجيران جيرانه!.. وبعد أن تتم عملية التطهير الماليّ والنفسيّ، يُطَهّرون الأرض منه، وهي عملية التطهير الجسديّ!.. 

لكن للحق والحقيقة نقول: إنَّ عملية التطهير الأخيرة -أي الجسديّ- قد تتأخَّر، لتوافق فعل (أخَّر) أي: جعل الشيء بعد ميعاده، وهو فعل من أخوات (أَخَذَ)!.. فالأخْذُ ربما يتم على مراحل متدرّجةٍ عدّة، فمثلاً: قد يأخذون برأسه أولاً، أي: يُمسكون به، وبعد ذلك يُقرّرون معاقبته (أي أخذه)،  بطريقةٍ حضاريةٍ قانونيةٍ دستورية، من خلال محكمةٍ عسكريةٍ ميدانيةٍ، غير مسموحٍ لها أن تُصدِر حُكمَها إلا خلال أقل من دقيقةٍ زمنيةٍ واحدة!.. 

وإذا كان ذلك (المأخوذ) أي: المعاقَب.. ذا حظٍّ عظيم، فقد يكتفي (الآخِذُ) أي: المعاقِب، بحكم الحبس عليه، وهو أحد معاني (أَخَذَ) أي: حبَس، وقد استُخدم هذا المبدأ بتصرّفٍ في زماننا، فأصبح الآخِذ لا يتردد في (أخْذِ) أي: حبْسِ، كل من له صلة (بالمأخوذ)، كأبيه وأمه وزوجته وأولاده وبناته وثلاثة أرباع أقاربه وعشيرته، وزملائه وأقرانه!.. لأنَّ (الآخِذ) الرسميّ في الوطن هو (الأمين) أي: الحافظ الحارس، على أمْن الوطن، فإذا ما (أَمِنَ) الناس كلهم، أي: اطمأنوا ولم يخافوا، فإنهم سيصبحون في ساحة  فعل (أَنَسَ)، وهو من أخوات (أَخَذَ) أيضاً!.. فعندما يتم الأَخْذُ بمعنى التطهير، أي تطهير الوطن من تسعين بالمئة من أبريائه، فإنّ الباقين يأنسون إلى الآخِذِ امتثالاً لفعل (أَنَسَ) أي: سَكَنَ إليه وذَهَبَت به وَحشته .. وذلك بعد أن (أَفَلَ) أي: غاب، التسعون بالمئة من أبناء الوطن!.. و(أَفَلَ) أو غابَ.. من أخوات (أَخَذَ) أيضاً، وقد يكون المعنى معنوياً أي: غاب عن التأثير والتأثّر، نظراً لاتساع رقعة (الحرية!) في الوطن!.. أو يكون المعنى مادياً محسوساً أي: غابَ عن الأنظار، والغياب قد يكون فوق الأرض أو تحتها، ومن الممكن أن يكون بين الجدران أو وراء القضبان، أو وراء حدود الوطن، أو وراء ما وراءها!.. بهدف الاختلاط بـ (الأنام)، وهم كل ما على الأرض من الخَلْقِ، إذ يستمتع المرء بسعادة الغربة عن الوطن، ويظفر بنعيم المهجر، وخصائص الهجرة القسرية!..

بذلك ينقسم الناس إلى فئاتٍ عدّة: فئة (أَخَذَ)، وفئة (أَفَلَ)، وفئة (أَمِنَ) و(أَنسَ) .. وفئتين أخريين لن نتوقّف عندهما طويلاً هما: فئة (آهَ) أي: قال آهِ من التأوّه، وفئة (أَكَلَ)، أي: مَضَغَ وبَلَعَ!.. وآهِ كانت تُقال قديماً بسبب حزنٍ أو ألمٍ أو ما شابه.. لكن في زماننا هذا، فإنّ (آهِ) لا تقال إلا عندما تكثر المسرّات والإنجازات، وتعظم البطولات، وتتفتّق العبقريات!.. وكل هذه الأمور هي من مزايا الآخِذِ المذكور آنفاً، وأمثاله من طبقة الـ (أَرِسْتُقراطية)، وهي الحكومة التي تمثل –على ذمّة معاجم اللغة- الأقلية الممتازة.. وبما أنّ كل الأقليات في كثيرٍ من أوطان العرب والمسلمين، لاسيما في بلدنا.. ممتازة، والحمد لله الذي لا يُحمَد على مكروهٍ سواه.. فإنّ الشعوب، بأكثريّتها الساحقة الماحقة، على ذمّة وسائل إعلام الآخِذ، تعشقها وتنتخبها وتصطفيها من بين كل الخَلْق، لتقود حركة تقدّمها وتطوّرها وتفوّقها وازدهارها وتحريرها!.. 

أما عملية الاختيار أو الاصطفاء تلك، فلا تأتي إلا بعد أن تأكل الأكثرية الكاثرة المذكورة ذلَّها وهوانَها.. وكذلك ألسِنَتَها، امتثالاً لفعل (أَكَلَ)، أي: مَضَغَ وبَلَعَ!.. 

والبلع يختلف -طبعاً- بين الآخِذ والمأخوذ.. فالآخِذُ ينتمي إلى الفئة التي تحقّق الأساطير، و(أسطورة) تعني خرافة أو حكاية ليس لها أصل، إذ يقال مثلاً: أسطورة الديمقراطية، وأسطورة التوازن الاستراتيجيّ، وأسطورة الخيار الاستراتيجيّ، وأسطورة التحرير، وأسطورة الانفتاح السياسيّ، وأسطورة السيادة الوطنية.. إلى آخر قائمة الأساطير التي يعايشها الإنسان السوريّ!.. لكن الآخِذ قد تمرّ عليه ظروف صعبة يصبح فيها (أرنباً)، وهي الحالة الناجمة بالضرورة عن وَعْيِ المأخوذ.. وعندئذٍ ربما لا يجد الأرنب لنفسه مكاناً يتخفّى فيه من غضبة المأخوذ، لاسيما حين يتبرّأ منه (أي من الآخِذِ) رفيقُ دربه: إبليس اللعين، و(إبليس) هو رأس الشياطين، وجَمْعُها: (أباليس) و(أبالِسَة)، والآخِذ عادةً، هو الشكل البشريّ المنتمي إلى فئة الأبالِسة، التي أصبحت تضم شياطين الإنْسِ، فضلاً عن شياطين الجِنّ!..

ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ

* الفَذْلَكَة -كما ورد في المعجم الوسيط- تعني: [مُجْمَلُ ما فُصِّلَ وخُلاصَتُهُ]، وهي [لفظة مُحدَثة].

******************************

فَذْلَكاتٌ لُغَويةٌ سياسيّة (2)*

*فَذْلَكَةُ الباء *:*

 *(بَئِسَ) وأخواتها!..*

بَخَسَ، بَذَلَ، برهَنَ، باعَ، بَرَعَ، بَرْطَلَ، بَطَشَ، بَطَحَ، بَسْمَلَ، بَقَرَ، بَكَى، بَلَصَ

* * * * * * * * * * *

(بَئِسَ) تعني: افتقر واشتدت حاجته، فتحوّل إلى إنسانٍ بائسٍ فقير.. وليس من الضروري أن تكون حاجة البائس إلى المال أو الطعام والشراب، فقد يكون بحاجةٍ إلى الحرية والكرامة، أو إلى العدل، أو إلى الأمن بكل أنواعه وأشكاله!.. فإذا أصاب البائسَ جوهرُ فعل: (بَخَسَ)، فإنه سيعاني من أشدّ حالات البؤس!.. و(بَخَسَ) تعني: ظَلَمَ، فيقال: بَخَسَ وَلِيُّ الأمر رعيّتَه، أي: ظَلَمَهَا!.. وربما يكون البَخْسُ في العَين، حيث يمتد بَخْسُ وليّ الأمر، أي: ظُلْمه .. إلى العيون الحادّة فيبخسها أيضاً، أي: يَفقؤها، وفَقءُ العيون قد يقع في داخل الزنازين على طريقة محاكم التفتيش، أو أن يكون الفَقْء معنوياً مجازياً، فإذا ما فُقِئت العيون بعملية البَخْس.. فإنها تصبح عاجزةً عن الرؤية، فلا ترى العيوب التي (تُزيِّن) حُكْمَ فخامته، بل ترى العيب حَسَناً، والحَسَنَ -إن كان موجوداً- تراه أحسن وأحسن!.. 

وإذا ما (بَذَلَ) سيادته أرضَ الوطن وثروته، لسواد عيون الأخ الروسيّ الحبيب أو الشقيق الفارسيّ اللبيب، أو العزيز الأميركيّ والغربيّ بشكلٍ عام.. أي أعطاها له عن طِيب نَفْسٍ.. فإنه لن يجد من أبناء الوطن من يرى هذا الكرم والسخاء غير المحدود، لأنّ عمليات بَخْس العيون -مَجَازياً- قد فعلت فعلها!.. وبذلك يكون السلطان قد (برهَنَ)، أي: أتى بالبرهان، على وطنيته وحُبّه غير المحدود لرعيّته ووطنه!.. فهو يعمل في ذلك عمل (البهلوان)، أي: الذي يتمتع ببراعةٍ فائقةٍ في اللعب والمشي على الحبل، وما أكثر الحبال التي يلعب عليها فخامة البهلوان!.. 

من الأساليب البهلوانية الحديثة، على سبيل المثال، أن يجلسَ سيادته وراء كل طاولةٍ مستديرة، فيبيع ويشتري ويقترف كل ما من شأنه أن يُزيّن فعل (باعَ) ويزخرفه، أي: أعطى شيئاً وقبض ثمنه، وهذا الشيء الذي قبض ثمنه، ربما يكون أرضاً أو أمّةً أو شعباً أو وطناً.. أو كل أولئك!.. والعجيب أنّ ذلك البهلوان يبقى رابضاً على كرسيّه عشرات السنين.. لماذا؟!.. لأنه (بَرَعَ) في التمويه على شعبه من جهة، و(بَرَعَ) في (بَخْسِ) العيون سلفاً، أي: فَقْئِها.. من جهةٍ ثانية، فأصبحت تلك العيون لا ترى إلا ما يرى، أو ما يَسمح لها أن ترى!.. و(بَرَعَ) تعني: فاقَ نُظَراءه في أمرٍ من الأمور، وعِلّة البراعة هنا، هي أنّ البهلوان باعَ قبل غيره، بل أفرط في البيع، لكنه على الرغم من ذلك كله، يبقى الزعيم الذي لا مثيل لعبقريّته ووطنيّته وقوميّته، والقائد البطل، والفارس الهمام الذي لا يُشَقّ له غبار.. فهو العدوّ اللدود لعدوّ الأمّة، والصامد الوحيد بين نظرائه وأقرانه، والقطب الذي يدور في فلكه كل شريفٍ(!) يملك ذرةً من ضميرٍ أو وطنيةٍ أو نخوةٍ أو مروءةٍ أو شرف، والبطل لكل ممانَعةٍ وصمود!..

في مثل تلك الأحوال والظروف، لا بدّ للبهلوان البارع، أن يبرع في أسلوبَيْن أساسيّين للتعامل مع أبناء وطنه، أولهما: أسلوب (بَرْطَلَ)، أي: رشا (من الرّشوة).. وهو الأسلوب الذي يستخدمه مع كل مَن يستطيع فتح فمه من حاشيته، أو من مراكز القوى التي حوله!.. وثانيهما: أسلوب (بَطَشَ)، أي: أخذ الناس بالعنف، وهو أسلوب حضاريّ حديث، يستخدمه مع كل أبناء شعبه الذين لم يتمكّن من بَخْسِ عيونهم (أي فَقْئها)، إذ يمرّ هذا الأسلوب الحضاريّ: (بَطَشَ)، عبر مساراتٍ عدّة، أهمها: (بَطَحَ)، أي: ألقى خصمه أرضاً على وجهه.. ثم (بَسْمَلَ)، أي: سمّى عليه إذ يقول بسم الله الرحمن الرحيم.. ثم أخيراً: (بَقَرَ) بطنَه بَقْراً، أي: شَقّه!.. 

ولكي لا يكتشف الناس سبب شَقّ البطون (أو بَقْرها) –وبخاصةٍ عندما تكثر حوادث البَقْرِ-.. يقوم البهلوان بممارسة عمليات البكاء، مستخدماً أسلوب: (بَكَى)، أي: دمعت عيناه حُزناً!.. على مَن؟!.. على كل الذين بَطَحَهُم وبَقَرَ بطونهم، بعد أن بَسْمَلَ عليهم -رحمهم الله-!.. 

أما إذا انكشف أمره، وثار عليه شعبه.. فإنه يسارع لتنفيذ أسلوب: (بَلَصَ)، أي: سرق المال فلم يترك منه شيئاً!.. ومن الطبيعي أن يكون البَلْصُ، قد بدأ منذ اليوم الأول الذي جلس فيه السيد البهلوان على كرسيّ الخدمة.. خدمة الشعب والوطن والأمّة!.. إذ يتقدّم الوطن العزيز على قلب فخامته -بفضل خدمته الجليلة- ألف خطوةٍ.. إلى الوراء، فيعود الوطن العزيز بذلك إلى البؤس الواضح الظاهر حتى للعيون المبخوسة!.. وعندئذٍ فحسب، تكتمل دورة (بَئِسَ) على أكمل وجهٍ وأفضله، بل أحسنه!.. 

ـــــــــــــــــــــــــــــــــ

**الفَذْلَكَة -كما ورد في المعجم الوسيط- تعني: [مُجْمَلُ ما فُصِّلَ وخُلاصَتُهُ]، وهي [لفظة محدَثة].*

وسوم: العدد 954