بنات الخريف وحلم الربيع الهارب

عبد اللطيف النكاوي

sgdfhgjhj10041.jpg

عبد اللطيف النكاوي

sgdfhgjhj10042.jpg

صدرت للكاتب المغربي مصطفى شعبان عن دار أكورا للنشر والتوزيع، روايته الجديدة "بنات الخريف". وإذا كان اختيار عنوان العمل الادبي يتقاطع فيه الإبداعي والتجاري فللناشر مشاركة في تحديده والمصادقة عليه، تزيد وتنقص هذه المشاركة حسب طبيعة العقد المبرم بين الطرفين. ولأيٍّ كانت الغلبة في اختيار العنوان وأظنها لصاحب النص، يضعنا هذا الأخير أمام تعارض حادّ يرخي بظلاله على عالم الرواية. نسبت اللغة العربية البنات، جمعا ًومفرداً، لعناصر كثيرة من الفكر والطبيعة: بنات الدهر (الشدائد)، بنات الصدر(الهموم)، بنات الأرض (النبات وغيره)، بنات الليل (البغايا) ... ولكنها لم تنسب للخريف بناتاً. يجعل عنوان الرواية لفصل الخرَف والخريف بناتا فيقودنا لتساؤل ثان: أهن بنات خريف أم هو خريف بنات؟ ويزيد عنصر التعريف في كلمة "خريف" التساؤل حدة، فالخريف المعني هنا هو خريف خاص لم يسبقه ربيع ولا يدرك جفافه وبؤسه إلا من قضى شبابه يلاحق الشواهد الجامعية ويمنّي النفس بغد أفضل. ويأخذ عنوان الرواية بعدا تراجيديا في سياق ما اصطلحت وسائل الاعلام الغربية على نعته "بالربيع العربي" في انتظار أن تستقر المواكبة الفكرية والثقافية العربية على تسمية تستوعب المخاض الذي يعيشه المجتمع العربي.                                          

تقترن مفاهيم وقيم الخصب والشباب والأمل بالبنات في حين تقترن مفاهيم الزوال والذبول والوهن بالخريف. ولعل في هذا التعارض الحاد بين عناصر العنوان أحد مفاتيح الرواية. تعارض تزكّيه متعارضات كثيرة، لا تقل حدة، على طول صفحات الرواية: السلف/الخلف، الأصالة/الحداثة، الوطن/الهجرة، العقل/الخرافة....

سنحاول في هذه المقاربة الأولية ملامسة بعض جوانب "بنات الخريف" وفهم كيفية اشتغال هذه المتعارضات داخلها وفي عالم مصطفى شعبان الروائي.

راويتان لمحنة واحدة

لعل ما يميز "بنات الخريف" هو انها رواية نسائية ونسوية بامتياز رغم أن كاتبها رجل. والمُتمعّن في عوالم الرواية وتفاصيلها يدرك بسهولة أن هذه النسوية ليست تقنية روائية أو تلوينا خارجيا انما هي تعبير عميق عن وعي بمعاناة المرأة المغربية من الانتكاسة التي تعرفها المدرسة وبوار الشواهد التي تمنحها. انتكاسة تواكب أخرى على مستوى القيم والعلاقات الاجتماعية. ولتعميق هذا الإحساس بمعاناة المرأة وتقاسمه اختار الكاتب لراويتيه ضمير المتكلم حتى يضفي على خيط الاحداث مسحة من الواقع. سمّى الكاتب فصلي الرواية بأسماء الراويتين: كنزة الباحثة عن ابن الحلال وصفاء الغارقة في أوحال الهجرة وويلاتها. راويتان متداخلتان متعاونتان تبرر وتعضد أولاهما الثانية:" إيّاك والعودة يا صفاء، كلما ضاقت بك الأحوال تذكّري أحوالي أنا وياسمينة وانظري ما جرى لكوثر!"[ii]. صفاء هي حلم وأمل كنزة. وكنزة هي الوازع لصفاء قصد الصمود في وجه مشاكل الغربة وتحدياتها. تحاصر الخيبات والانتكاسات (البطالة، العنوسة والمجتمع) الراوية كنزة ومعها آمالها المقموعة، هي البنت الطموحة والناجحة في مسيرتها الدراسية: "انظري الى حال خالتي كنزة المتخرجة من الجامعة وصديقاتها العاطلات!"[iii]                                                                                

تفقد الحياة طعمها والأشياء ألوانها فتضيق السبل بكنزة لتغوص في تاريخ الحي ومسيرتها الخاصة بحثا عن بصيص من أمل يساعدها على مقاومة الحصار الخانق. تستعرض كنزة تحولات الحي وشخصياته من متسولين وباعة متجولين مستحضرة كل جزئيات ما كان يصنع رونق وبهجة الحي:" لقد كان الحياء يعم الزقاق والحي والمدينة، قبل ان يهاجمه المسخ متسللا الى المدينة والحي والزقاق والدور."[iv]

وإذا كانت العودة الى الماضي، ماضي الحي وماضي كنزة الطلابي هي نوع من التنفيس عن الذات قصد الاحتماء من حر الحاضر وقساوته فهي في الحقيقة نوع من التماهي مع عناصر المكان والزمان: حالة الإحباط التي تعيشها كنزة ورفيقاتها ما هي الا انعكاس لحالة الاندحار والتقهقر التي يعرفها فضاء وزمان الأحداث.

وإذا كانت الراوية الأولى تعاني انسداد الأفق وغياب الامل في حي طفولتها فالراوية الثانية ركبت قطار الدراسات العليا في فرنسا لتجد نفسها محاصرة بمحنة شهادة الإقامة وتجديدها السنوي وارتباط هذا التجديد بتقدم بحث الاطروحة. ناهيك عن المحيط الاجتماعي والثقافي واللغوي المختلف:" ...كل شيء في الحجرة تعمه الفوضى، كما هي أفكاري. يتشتت عقلي في الأسبوع الذي أجدد فيه البطاقة فأهمل غرفتي بالكامل."[v]

ويكتشف القارئ سريعا ان صفاء لا تود إتمام اطروحتها حتى لا تفقد شهادة اقامتها. فهي مقيمة لأنها طالبة وهي طالبة لأنها لا تريد أن تلقى مصير كنزة. وتشترك الراويتان في اللجوء الى الماضي الطلابي المفعم بعناصر الامل والحياة لمقاومة جفاف وقساوة الحاضر: "في رحلة الغربة، بدأت اعيد اجترار العشب الجاف عبر الذكرى استلذ طعمه، استطيب عيشه من بعيد، اربط الوصل من داخل ركام الذكرى، اشم رائحة السكينة، رائحة السلام، دفء الحياة، رائحة الاسرة فأحيا... استحضر كيف كنت أعيش وأحيا مع صديقاتي: كنزة وياسمينة ونوال لا يعرف الهم الينا مسربا."[vi]

بديل العمل المفقود وحلم التحقق تلجأ كنزة الى الفضاء الرقمي تلاحق فيه حلم الزوج الهارب. وتكتشف ان هذا الحلم هو الآخر مهدد من قبل الفخاخ والاوهام التي تلف هذا العالم. وبهذا تكتمل حلقة الحصار المضروب على كنزة ورفيقاتها: شهادة بدون قيمة، عمل مفقود، زوج مفقود ومجتمع يواسي في العلن ويقسو في الخفاء.

صفاء تقاوم كابوس الإقامة وتؤجل لحظة كساد شهادتها التي أصبحت خطرا على اقامتها. تبحث هي الأخرى عن زوج يمدد اقامتها ويؤجل شبح العودة الى جحيم كنزة. وفي رحلة بحثها عن المُخلّص تُعرّي صفاء تناقضات حياة الهجرة ونفاق الخطابات السياسية:" بعد ذلك لم يتحدث عن عقد العمل، ولا عن تحديد نوع الاشغال المتعلقة به، أدركت ان عملي سيكون بالأسود كما يقال، أسررتها في نفسي ولم أتجرأ ان أقول شيئا. "[vii]

صوتان يتناوبان على سرد بل فضح محنة واحدة: نساء في ربيع عمرهن يقاومن خريفا خانقا من البطالة والعنوسة ورقابة المجتمع.

في رفقة الهذيان وخطر الجنون:

تتوالى الانتكاسات والهزائم على شخصيات "بنات الخريف" ليضيق الأفق وتنعدم الحلول والمخارج، فينفتح السرد على بعد جديد هو الهذيان. والهذيان لا يعني بالضرورة الخلل أو المرض، كما يقول جبريال ديشي[viii]، بل هو محاولة إعادة بناء الذات تحت ضغط ديناميكية عاطفية قوية.

فهذه الراوية الاولى تسرح عبر الخيال لتقيم الأعراس وتبثّ الفرحة والبهجة في محيطها الخريفي، فيغدو الهذيان المُتنفّس الوحيد عن حالة الاختناق التي تعيشها: "أغوص في ذكرى العرس وقاعة الافراح. أجد النساء في هرج ومرج حين تنطلق العيطة من ابواقها مرقصة، تستجيب بعض النسوة لجذبها ويبقى "الركز" على الأرض والتموج مع ايقاعاتها في كل صوب..."[ix]

ولا تقلّ الراوية الثانية صفاء هذيانا عن صديقتها ورفيقة خريفها كنزة، فها هي تدخل عالم الصراصير تبحث في رفقتهم عن قبس من الأمل والتخفيف عن النفس من هول الحصار والجفاف: «تكبر الحجرة وتضيق. تكبر الصراصير وتصغر، أغمض عني، افيق ثم أغفو. أجدني وسط قاعة الحفلات، صراصير أم أناس مسخوا على هيئات صراصير؟ يغنون، يرقصون على ايقاعات موسيقى صاخبة لا اعرف ما افعل وسطهم، البسوني خرقة الصرصور: هذا زمن الرقص والغناء، فارقصي يا صفاء. قال لي الرجل الصرصور."[x]

وإذا كان الهذيان في حالة الراويتين وتحت وقع الضغوط والحصار يشكّل تنفيسا يكاد يكون طبيعيا عن النفْس وتجديدا للنفَس في مسيرة الصمود والمقاومة من أجل التحقّق والبقاء، فان رواية "بنات الخريف" تطالعنا بمآل آخر لشخصياتها، جذري هذه المرة، انه الجنون،

مُزكّية بذلك قول الباحثة شوشانة فيلمان:" لا يُسمع صوت الجنون كذات ناطقة، في التاريخ الثقافي إلا في وعبر النص الادبي."[xi]  

لم تصمد كوثر أمام الاحباطات المتتالية " فتاهت في عوالمها النفسية، تكلم أناسا غير موجودين من حولها، تحاول أمها انتشالها من شرودها ومن أحاديثها الغريبة لكن دون جدوى، وهي غير مصدقة ما آلت اليه ابنتها، تدفع الشك في جنونها، تكرر الحال مرات، الى ان سلمت بالأمر وصدقت جنون ابنتها. تتكلم كوثر بحرية أكثر في نوبات جنونها، تصيب وتخطئ في أحاديثها، تتحدث أحيانا بلغة القانون وكأنها في الكلية والحي الجامعي، وكلما استعر جنونها، لبست بذلة الطبخ، تأبطت صحنا من صحون المطبخ وبعض الورق المجعد، تمشي جيئة وذهابا في بهو المنزل، تقف صوب المرآة، تخاطب صورتها، تصيح بصوت مرتفع: محكمة."[xii]

وإذا كانت كوثر قد ركبت الجنون أو ركبها لتواجه المجتمع وتفضح تناقضاته بل لتحاكمه في غياب من يأخذ بحقها في هذا المحيط المحاصِر والمحاصَر بالسكون والهزيمة، فإن بوعلام الشخصية الرجالية التي تتقاسم وبقية الشخصيات النسائية نكبة الشواهد "المشنوقة"، فقد جاوز حدود الكلام "فتعرى وسط السويقة صائحا في وجوه المارة: شدّو هنا! نزع نظارته السوداء، امسكها بيده اليسرى شاهرا سبابته: ها الحرية! الديموقراطية تربية يا ويلي تربية!"[xiii]

وإذا كان التنفيس عن الذات بالهذيان لا يتجاوز الشخصية ذاتها لأنه فعل فردي وخاص فان الجنون يتجاوزها بل يلغيها لأنه لا يبدو كذلك الا في عيون الاخرين الذين مكثوا على الضفة الأخرى من الواقع او الحقيقة. وبقدر ما يخيف الجنون في النص بقدر ما يعبّر عن حقيقة العقلاء العاجزين عن الجهر بها. فهذا بوعلام يُنعت بحكيم الحي، يبارك الناس كلامه في الخفاء ويلعنون الرجل في الظاهر. وهذه كوثر ترغم صديقات الامس على الصمت والفرار أمام فيضها الجنوني والصارخ بالحقيقة المقموعة:" لكن نحن في زمن الغرابة والاستغراب فيه كل شيء مقلوب. الناطق فيه بالحق انسان غير سوي ومجنون، يعيش بعيدا عن الواقع. المجتمع والسلطة يدفعان لضغط متواصل وحين يتولد الانفجار ويتحرر المرء من قبضة ضغوطاتهم، يتكلم بالحكمة والواقع، يُتهم بالجنون. وان صبر على القهر واللكمات المُوجّهة اليه فصبو، صبور. من هو العاقل، ومن هو المجنون؟"[xiv]

خلاصة أولية:

تنهل "بنات الخريف" من واقع جيل كامل من الشباب المغربي آمن بمصعد المدرسة الاجتماعي والاقتصادي، فاجتهد وأخلص الانتماء لهذا المصعد وحصد الشواهد تلو الشواهد ليكتشف ان المصعد عاطل توقفت حركته عند طابق البطالة وانسداد الأفق. يحملنا سفر الحكي عبر الدروب الشعبية وما كانت تعبق به، رغم ضيق الحال، من بهجة وأمل وما آلت اليه من بؤس وفتور. تعمّق الاحالات والاستشهادات بالتراث الشعبي والأغاني الخالدة والشعارات النضالية المفعمة بالأمل والنصر، داخل النص، التناقض بين ربيع الامس وخريف اليوم:" طال خريفنا في الزمن الرديءوطغى على الفصول كلها. سرنا من خريف الى خريف ولا ربيع يزهر: خريف القيم، خريف الثقافة، خريف العمر، خريف الحب، خريف الشهادات والشغل. مشيتنا عرجاء نتكئ على عصا الماضي حينا وعلى عصا الحداثة حينا آخر نزحف من خواء الى خواء. فعلى من نعلق آمالنا بعد ان طالت سنوات الخريف؟"[xv]

تصلب الراوية كنزة واقع الوطن الأم وتكشف عورته وتسلخ الراوية صفاء حلول الهجرة والوطن البديل فتعريها من زيفها وتكشف تناقضاتها لتكتمل حلقة الحصار وينتصب السؤال: ما الحل؟ يخير النص شخصياته بين الهذيان والجنون ويصفع القارئ بسؤال يتجاوز حدود النص ليعانق حلم الربيع العربي المُتمنّع.    

 

عبد اللطيف النكاوي، كاتب وباحث عربي من أصل مغربي، يعيش ويدرّس في فرنسا.    

[ii] مصطفى شعبان، بنات الخريف، أكورا للنشر والتوزيع، 2022، ص. 26

[iii] الرواية ص.31

[iv] الرواية ص.16

[v] الرواية ص.139

[vi]الرواية ص .156

[vii] الرواية ص.158

[viii] Gabriel DESHAIES, Délire histoire du concept, Universalis.fr

[ix] الرواية ص. 34

[x] الرواية ص. 140

[xi] Shoshana FELMAN, la folie et la chose littéraire, éditions Seuil, 1978, p.56

[xii] الرواية ص. 68

[xiii] الرواية ص.21

[xiv] الرواية ص. 69

[xv] الرواية ص.228

وسوم: العدد 1004