في جماليات القرآن الكريم ... آفاق أرحب بحذف "المعمول"

زهير سالم*

وهذا عنوان أرشحه بحثا لطالب شهادة عليا "ماجستير" بل بكل تأكيد يصلح موضوعا بحثيا منيفا لشهادة دكتوراة. إذا وجد الطالب والمشرف الذوّاقين..

لن أطيل المقدمة لأختصر، وسأضرب أمثلة تباعا أدفع بجمالها عن نفسي بعض كآبات الزمن البئيس..

في قوله تعالى:

(وَاللَّهُ يَدْعُو إِلَىٰ دَارِ السَّلَامِ وَيَهْدِي مَن يَشَاءُ إِلَىٰ صِرَاطٍ مُّسْتَقِيمٍ) يونس 25.. حذف المعمول/ المفعول به المتمثل فيمن هو المدعو؟؟

ومحل الشاهد الذي نتوقف عنده نتذوق حلاوته، في قوله والله يدعو إلى دار السلام. وتسألني وهذا الداعي العزيز الحكيم البر الرحيم اللطيف الخبير قد عرفناه، وهذا مكان الدعوة الدار التي يظللها السلام قد جاءنا من خبرها القليل أو الكثير، فمن هو منا المدعو، وهل هي دعوة خاصة أو عامة، هل هي دعوة ملية أو قومية أو عرقية أو فئوية أو شخصية، وحذفت حكمة الداعي الحكيم الخبير أي إشارة للمدعو، فلا شخص ولا وصف ولا وسم ولا إشارة، إنها دعوة مطلقة مفتوحة عامة يتوجه بها خالق الجميع إلى الجميع، وكل واحد من بني البشر المكلفين مدعو، وقد وصلته بطاقة الدعوة المذهبة عبر آية من الكتاب العزيز، وحصل كل ذلك بحذف المعمول أو المفعول به لأن اقتضاء اللسان العربي أن تقول دعوت الناس أو القوم أو الأهل أو الصحب، فيكتمل معى الدعوة بمفعولها وتحديد من هي الفئة المستهدفة بالدعوة، ولكن القرآن الكريم في هذا المقام الرباني الكريمـ وحين يكون الداعي رب العباد، فإنه يوجه الدعوة لكل العباد فلا شريف ولا وضيع، ولاغني ولا فقير، ولا كبير ولا صغير، ولا عالم ولا أمي، إلا وتشمله الدعوة فتعمه وتخصه، ويبقى من حقه بعدُ أن يختار الجواب. وتقول العرب ومن حق على المدعو أن يجيب الداعي. ويقول الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم "لو دعيت إلى كراع لأجبت" والكراع بعض أطراف الحيوان مع ما فيها من لحم قليل "المقادم" وهذا من تواضعه صلى الله عليه وسلم..

هذا والدعوة عند العرب تكون على وجهين، دعوة خاصة تخص المدعو باسمه أو بأهل بيته أو برهطه الأدنين، ويسمونها دعوة المنتقر، كأن الداعي وهو يحدد المدعويين بأسمائهم أو أوصفاهم ينقرهم نقرا كما ينقر الطير الحب. والطريقة الثانية للدعوة هي دعوة الكرام المياسير، ويسميها العرب، الدعوة "الجفلى" الطعام اليوم في دار فلان أيها القوم، أو أيها الربع ، أو يا أهل الديرة. وفي يوم الخندق جاء سيدنا جابر بن عبد الله إلى سيدنا رسول الله يدعوه وبعضا من أصحابه على "عناق" جدي صغير، فصاح صائح رسول الله صلى الله عليه وسلم: يا أهل الخندق هذا جابر بن عبد الله يدعوكم على طعام صنعه لكم - وإن لم تكن تعرف بقية المعجرة النبوية الكريمة فالتمسه. هذه هي الدعوة الجفلى، ويتمدح بها العربي، يقول طرفة بن العبد، ولا تقل لي من هو طرفة بن العبد؟؟ يقول..

نحن في المشتاةأ يعني في قلب الشتاء، عندما تكون الحياة في البادية أقسى ما تكون...

نحن في المشتاة ندعو الجفلى ..لا ترى الآدب فينا ينتقر

والآدب صاحب المأدبة والوليمة، والانتقار حدثتكم عنه..

والله يدعو إلى دار السلام دعوة جفلى ،من رب العباد تشمل كل العباد ولا تخص ملة ولا قوما ولا جنسا ولا فئة، دعوة شاملة كاملة مفتوحة عزيزة مكرِّمة لمن تلقاها وأكثر تكريمالمن أجابها..

كرمك مولاك بالدعوة، دعاك الملك إلى داره، وفي دار الملك لا صخب ولا وصب فهي دار السلام، وترك لك حرية إجابتها، فإن شئت أجبت فوجدت من كرامة الداعي وبره ولطفه وكرمه ما لا عين رأت ولا أذن سمعت ولا خطر على قلب بشر، وإن أبيت فعلى نفسك جنيت.

ولن أغادر المقام قبل أن أهمس همسة عن المدعو إليه "دار السلام : ويظل الناطقون نيابة عن الوسواس الخناس يتحدثون عن جنتنا التي يزعمونها غارقة في اللذات الحسية قصور وحور ولحوم وفواكه وأنهار من خمر ومن لبن... و

ولو لم يكن في القرآن الكريم من إشارة إلى النعيم النفسي غير تسمية الجنة "دار السلام" لكفى، وقوله: (وَتَحِيَّتُهُمْ فِيهَا سَلَامٌ)، وقوله (وَنَزَعْنَا مَا فِي صُدُورِهِم مِّنْ غِلٍّ إِخْوَانًا) ، وقوله (وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ نَّاضِرَةٌ إِلَىٰ رَبِّهَا نَاظِرَةٌ) بحقك علينا يا مولانا لا تحرمنا لذة النظر إلى وجهك الكريم...

*مدير مركز الشرق العربي للدراسات الحضارية والاستراتيجية

وسوم: العدد 1005