تكسير البنية وتجديد الرؤيا في الشعر العربي المعاصر

عبد المجيد العابد

تكسير البنية وتجديد الرؤيا

في الشعر العربي المعاصر

عبد المجيد العابد

[email protected]

يعد الشعر الحر قطيعة إيستيمولوجية للقصيدة العربية التقليدية، وقد أملت ذلك الظروف التي عاشها الشعراء خصوصا بعد نكبة فلسطين 1948، وهزيمة يونيو1967، فكان أن أعاد الشعراء وغيرهم النظر في جميع المثل والرموز التي كانوا يعتقدونها، فرأى الشعراء حينها أمام هول الفاجعة وصدمة الحداثة الغربية تغيير كل النماذج المحتذاة، لأنها لم تستطع مواكبة التحولات المستجدة، فإذا كان الشعراء الفحول القدماء قد عبروا عن قضايا عصورهم بالشكل التقليدي للقصيدة العربية الذي ينسجم مع تلك الظروف، فلا بد للشاعر الحديث إذا أراد التعبير عن قضايا عصره من أن ينفلق من إسار عمود الشعر، وينطلق في رحابة شكل جديد يتيح له إمكانية التعبير، لذلك استبدل القصيدة الحرة بالقصيدة العمودية. 

ويعرف شعر التفعيلة بوصفه نظاما وزنيا جديدا كسر نظام الشطرين المتناظرين والقافية والروي الموحدين، لكنه حافظ على التفعيلة وجعلها أساسا له. يقوم الشعر الحر على ستة بنود: السطر الشعري، والجملة الشعرية، والتدوير، والتنويع في القافية والروي، واختلاف الضرب، والمزج بين تفعيلات البحور.

وقد حظي الشعر الحر بتسميات عدة أهمها: الشعر المعاصر، والشعر الحديث، والشعر الجديد، والشعر المنطلق، والشعر المرسل، وشعر الشكل الجديد، وشعر التفعيلة. ويعد بدر شاكر السياب ونازك الملائكة أول من قصد الشعر على منوال شعر التفعيلة، وقد اقتفى أثرهما جم غفير من الشعراء المحدثين نذكر منهم: البياتي، وصلاح عبد الصبور، ويوسف الخال، وأدونيس، ونزار قباني، ومحمود درويش، وأحمد المجاطي المعداوي، وعبد الرفيع جواهري، وغيرهم كثير.

ومن خصائص قصيدة تكسير البنية نذكر:

·  التفاعل مع التراث والنظر إليه باعتباره رموزا وقيما إنسانية وجمالية؛

·  الانفتاح على الثقافات الأجنبية شعرا ونثرا؛

·  التحرر من هيكل القصيدة التقليدية العمودية وبنائها، والاحتفاظ بوحدة التفعيلة وقوة الإيقاع الداخلي؛

·  تكثيف الصور الشعرية المعتمدة على المجاز والانزياح؛

·  الاستثمار المفرط للرمز والأسطورة والمونولوج والخرافة والحكاية الشعبية؛

·  الاهتمام بالقضايا الراهنة ورصدها من زاوية ذاتية خالصة؛

·  الاعتماد على الرؤيا في تكوين نظرة شمولية تجمع الذاتي بالموضوعي؛

·  توظيف اللغة الإيحائية المشبعة بالدلالات العميقة التي تبتعد عن التوظيف التقريري؛

·  الغموض، وهو صفة لازمة لكل شعر جيد طالب للجدة والحداثة؛

·  الشعر الحديث تجديد للرؤيا، وهي في عمقها تختلف عن الرؤية البصرية، فإذا كانت هذه الأخيرة تتعلق بالحس المباشر للموضوعات، فإن الرؤيا تتجاوز الإدراك المباشر المعتمد على المدركات الخمس، التي تتطلب حضور الموضوع الإدراكي، فالرؤيا تشكل موقفا جديدا اتخذه الشعراء الحداثيون من العالم والأشياء، إنها عبور من الظاهر إلى الباطن، وانتقال من دلالات العبارات إلى دلالات إشاراتها، إن الرؤية قرينة البصر، بينما الرؤيا لازمة عن البصيرة والحدس والكشف والحلم؛

·  الشعر الحديث خطاب تجتمع فيه الثقافة العربية التقليدية بالثقافة الغربية الحديثة، ثم القرآن الكريم والأساطير والخرافات والحكايات الشعبية والملاحم (ملحمة جلجامش مثالا)، والتصوف (الحلاج، ابن عربي، السهروردي، البسطامي..)؛

التحـليـل

تندرج القصيدة ضمن خطاب الشعر الحر، وهو خطاب جاء نتيجة تحولات جذرية عرفها العالم العربي أدت إلى تغيرات واضحة في البنيات الشعرية وفق خطاب حداثي لا يلتفت إلى نموذج سابق، بل يقوم على الأخذ بتلابيب الحداثة رؤية ومنهجا، فنتج عن ذلك شعر مخالف لكل ما ألفناه في القصيدة العمودية، ويعد بدر شاكر السياب أول من فتح أكمام هذا النموذج الشعري الجديد، فإلى أي حد يعد نص "في الليل" مثالا واضحا لشعر تكسير البنية وتجديد الرؤيا شكلا ومضمونا؟

يتضح من خلال النظرة البصرية للنص أن القصيدة تضع قطيعة وحدا فاصلا مع الموروث الشعري التقليدي، فقد كسرت الشكل الهندسي للقصيدة العمودية باستثمار نظام السطر الشعري عوض نظام الشطرين المتناظرين، كما استبدلت تنويع القافية والري بوحدتهما، وتتفاوت الأسطر فيما بينها من حيث الطول وتوزيع البياض على السواد. يتكون العنوان من جملة بسيطة تعرب إعرابين اثنين، الأول أن خبرها محذوف تقدير كائن أو استقر بحسب المدرسة البصرية، والمبتدأ محذوف تقديره هذا أو هذه، والثاني أن شبه الجملة المكون من الجار والمجرور"في الليل" في محل رفع خبر والمبتدأ محذوف أيضا، وهذا القول الثاني مأثور عن المدرسة الكوفية في النحو. إن شبه الجملة المكون للعنوان غير تام المعنى، مما يدفع القارئ المخاطب إلى استعمال السيرورة التأويلية لاستبطان متاهاته إتماما لمعانيه، حيث يتم الربط بين الليل وما يحفل به من معان وسمات مميزة (الحزن، الخلوة، الكآبة، السهر، السهاد، البعد، النأي، الهدوء، السكينة، الاطمئنان، الموت، الخنوع، الخوف...). فما علاقة العنوان بقصد الشاعر؟ وماذا يريد السياب تحقيقه من خلال الغموض؟ وإلى أي حد يعتبر هذا العنوان عتبة لمعرفة غياهب النص؟

لقد ثبت أن القصيدة حديثة من جهة معمارها أو شكلها الهندسي، فمن خلال عتبات النص يمكن أن نفترض أن الشاعر بصدد الحديث عن رؤيته المخصوصة حول الزمان والمكان والمصير. فما محددات هذه الرؤية من خلال مضامين النص؟ وكيف تبلوت في القصيدة مناط التحليل؟

افتتح الشاعر بدر شاكر السياب قصيدته بتأثيث فضاء الغرفة الموصدة واصفا إياها ومضفيا عليها مسحة كئيبة، ثم نظر إلى ثيابه نظرة متسائل عن ردهات الزمن، يناجيها ويتحدث إليها افتراضا، لينتقل إلى حوار في خلده مع أمه، التي تحضر في جل قصائده،  مبرزا نظرته الشمولية المختلفة نحو المكان والزمان والموت، ليصل في الأخير إلى تأكيد لقائه أمه في اللحد، وفي ذلك إشارة إلى دنو أجله، فالسياب كان دائما يرى خلاصه في موته، نتيجة مرضه الذي كان لا يرجى شفاؤه، ويمكن أن نستجمع هذه المضامين في رؤية الشاعر الشاملة نحو الزمان والمكان والموت انطلاقا من معاناته، وهي رؤية رومانسية تطفح بها أغلب قصائده.

 توسل الشاعر في إبراز هذه المضامين الوجدانية المتشائمة بمعجم يمتح مفرداته من عناصر الطبيعة محاولا وضع المتلقي أمام نفسيته المنهارة الدائبة، وهو معجم وسيط يجمع بين السلاسة والجزالة، تتخلله بعض الكلمات التي تمتح من اللغة الموروثة، ويقوم على خرق المألوف  في تركيب كلماته مثل: (عزريل الحائك، من صدر الأرض)، يخرق أفق انتظار القارئ ويدفعه نحو متاهات التأويل. تتوزع هذا المعجم ثلاثة حقول دلالية: الأول متعلق بالألفاظ الدالة على المكان نمثل لها بـ:(الغرفة، ستائر، بستان، المقبرة، الأرض، لحد، النهر...)، أما الثاني فيتعلق بالألفاظ الدالة على الزمان نمثل لها بـ: (الليل، سريت، الزمن، يومـ، الحشر، أسير، ستلقاني...)، بينما الحقل الثالث فيرتبط بالألفاظ الدالة على الموت نمثل لها بـ: (الموت، سريت، الثكلى، أمي، كفني، عزريك، نم، لحدي...)؛ تجمع بين هذه الحقول علاقة قرابة تؤلفها النظرة الشمولية للشاعر نحو الكون والعالم، فالسياب يعيش غربة في المكان وغربة في الزمان وغربة في المصير، إن الغربة إذا هي النواة الجامعة لهذه الحقول. يجمع السياب بين الاغتراب وقضية الموت والمصير في هذه القصيدة عينها، وهي نفسها الرؤيا التي تغلب على معظم قصائده خصوصا اللندنية منها.

هذا من الناحية المعجمية، أما من الناحية التركيبية فقد تعددت الضمائر في القصيدة بين ضمير الغائب، يرصد في الغالب الوصف (يتنصت لي، يترصد بي، أعطاها الباب المرصود نفسا...)، وضميري المتكلم والمخاطب في الحوار(ليزورك، لبست ثيابي، سريت، ستقول لي..)، ليجعل من القصيدة صورة متكاملة تحكي قصة مفترضة صنعها خلد السياب المتأثر بالمرض، أما الجملة فقد زاوج فيها الشاعر بين استعمال الجملتين الاسمية والفعلية، فالفعلية دالة بذاتها على الاستمرار والتجدد، أما الاسمية فدالة على الثبات والاستقرار، يرصد الشاعر من خلال الأولى حال الغرفة ومعاناته بها (الغرفة موصدة الباب، الصمت عميق..)، وهي قرينة الوجدان، بينما الثانية فتدل على التحول (ليزورك في الليل الكابي، لبست ثيابي، سريت، ستلقاني أمي، لم يبل على مر الزمن، أعددت فراشا...)، وهي المهيمنة في النص، لأن الشاعر بصدد التحول نحو المصير المحتوم: الموت.

أما من الناحية البلاغية فقد ركنت الصورة الشعرية إلى الانزياح وخلق علاقات جديدة بين الكلمات تخرق المألوف في سبكها، وقد نهلت من الرمز والإيحاء بوصفهما قناعا وتدليلا يقوم على التجوز في الدلالات المباشرة للعلامات اللغوية، لكن رغم ذلك جعلت من مباحث البلاغة العربية القديمة سندا لها ومرجعا اعتمادا على التشبيه مثل (وأثوابي كمفزع بستان) على سبيل تشبيه محسوس بمحسوس، وكذلك الاستعارة كما في قوله (أعطاها الباب المرصود نفسا) على سبيل الاستعارة المكنية حيث حذف المشبه به(الروح) وأبقي على أحد لوازمه (النفس)، تدل على نزعة السياب التصوفية، وكذلك الشأن في (من صدر الأرض) كاستعارة مكنية أيضا، وكلها صور تقوم بوظيفة تعبيرية إبلاغية في النص، كما يمكن جعل القصيدة كلها صورة مشهدية شاملة كلية. أما من حيث الأساليب فقد زاوج الشاعر بين استعمال الأسلوبين الخبري والإنشائي، فالأول ما احتمل الصدق أو الكذب، والثاني ما لم يحتملهما معا، فالسياب يستعمل الأول للإخبار عن معاناته وتصوير واقعه المزري، والغربة التي يعيشها في المكان والزمان والموت (الغرفة موصدة الباب، ستائر شباكي مرخاة..)، وهي كلها أخبار ابتدائية خالية من التوكيد لأن الشاعر يعتقد بخلو ذهن المخاطب ليزوده بمعلومات جديدة، أما الأساليب الإنشائية فترتبط بانفعالات الشاعر، غلب عليها الإنشاء الطلبي المتمثل في الاستفهام (من دون رفيق؟ خروب المقبرة الصادي؟ ألا ترمي أثوابك؟) وهي استفهامات لا تفيد بحسب مقتضى الظاهر، بل خرجت عنه لتفيد معنى مستلزما حواريا بحسب مقتضى الحال تفيد الالتماس واليأس.

نظم الشاعر، من حيث الإيقاع الخارجي، قصيدته على تفعيلة (فاعلن) من وزن بحر المتدارك، وهو من الأوزان الخليلية الصافية، لكن لم يحترم قواعد الخليل في استعمالها، حيث استبدل نظام السطر بنظام الشطرين المتناظرين، ووزع التفعيلة في أسطره الشعرية بحسب دفقته الشعورية وتجربته الشاعرية، فهي حينا واحدة(السطر الرابع) وحينا آخر تفعيلتان أو ثلاث تفعيلات... كما وزع البياض على السواد بطريقة تنسجم مع والجو النفسي للشاعر، كما اعتمد التدوير حيث تبدأ التفعيلة في السطر الخامس وتنتهي في السطر السادس، ونوع في القافية والروي، فالأولى مطلقة رويها متحرك في الأسطر (15-20..)، ومقيدة رويها ساكن في أسطر أخرى(4-8..) مردفة (8-3-4-17) وغير مردفة (20-22..)، كما نوع في الروي، فالروي حينا قاف، وهو حرف شديد جهور، وحينا باء أو دال، وهي كلها شديدة، أو نون وميم، وهي حروف شفوية تدل على الأنين والحزن، إنها أصوات مرتبطة بالمعاناة والأسى والتأزم. أما الإيقاع الداخلي فتميز بتكرار حروف بعينها أهمها أرواء القصيدة، فالقاف تكرر 13 مرة والدال تكرر 12 مرة والباء تكرر 13 مرة، وهي كلها حروف شديدة جهورة تعكس شدة المعاناة والجهر بها، كما تكررت عدة حروف مهموسة كالهاء والسين تعكس الجو النفسي المتأزم للشاعر، وتكررت أيضا حروف ممدودة باطراد لتفيد التأوه والحسرة، ولم يقتصر التكرار عند الحروف، بل تعداه إلى الكلمات (الباب 3 مرات، والصمت مرتان) وتكررت عبارة (الصمت عميق)، وتكررت كلمات عن طريق الجناس (نهلا/ نهل، ليلا / الليل)، ثم أسطر شعرية بعينها قدمت القصيدة في صورة أغنية أسيفة. أما التوازي فيتضح في التوازي الصرفي في بعض من أوزان بعض الصرفيات( عميق/ صديق، زادي/ صادي، عميق/ طريق,,)، والتوازي التركيبي التام في قوله: (الغرفة موصدة الباب، رب طريق، لم يبق صديق)،  ثم التوازي الدلالي (62-27) الذي يضم كل الكلمات التي تجمعها نواة معنوية ناظمة للنص تفيد المعاناة والاغتراب. إن المزاوجة بين التكرار والتوازي وغيرهما على مستوى البنية الإيقاعية خلق للنص موسيقى تنسجم والمعاناة التي يعيشها السياب وتؤثر بذلك، لا محالة، في المتلقي.

إن هذا النص مناط التحليل نسخة من خطاب تكسير البنية وتجديد الرؤيا في الشعر العربي الحديث، حيث استجمع كل مقومات هذا الخطاب، فالبناء الهندسي مكسر للبنية الشعرية العربية التقليدية، كما عددت القصيدة من الروي والقافية، أما المضامين فمبنية على رؤيا الشاعر التشاؤمية، واعتمد السياب معجما تقوم مفرداته على الخرق المألوف في تركيبها، وقد نهلت الصورة الشعرية من خاصة الانزياح وخلق علاقات جديدة بين الكلمات بحسب السياق والرؤيا الشعرية، كما توسلت بالرمز والإيحاء، وقام الإيقاع على التفعيلة بدل البحر واعتماد السطر الشعري والجملة الشعرية وغيرها، وكلها خصائص تمتح من معين هذا الخطاب.

القصيدة

الغرفة موصدة الباب

والصمت عميق

وستائر شباكي مرخاة..

رب طريق

ستنصت لي، يترصد بي خلف الشباك، وأثوابي

كمفزع بستان، سود

أعطاها الباب المرصود

نفسا، ذر بها حسا، فتكاد تفيق

من ذاك الموت، وتهمس بي، والصمت عميق:

(لم يبق صديق)

ليزورك في الليل الكابي

والغرفة موصدة الباب

ولبست أثوابي في الوهم

وسريت: ستلقاني أمي

في تلك المقبرة الثكلى،

ستقول: (أتقتحم الليلا)

من دون رفيق؟

جوعان؟ أتأكل من زادي:

خروب المقبرة الصادي؟

والماء ستنهله نهلا

من صدر الأرض:

ألا ترمي

أثوابك؟ والبس من كفني،

لم يبل على مر الزمن؛

عزريل الحائك، إذ يبلى،

يرفوه. تعال ونم عندي:

أعددت فراشا من لحدي

لك يا أغلى من أشواقي

للشمس، لأمواه النهر

كسلى تجري،

لهتاف الديك إذا ذوى في الآفاق

في يوم الحشر.

سآخذ دربي في الوهم

وأسير فتلقاني أمي.

لندن: 27/02/1963

ديوان بدر شاكر السياب، دار العودة، بيروت 1971، صفحة608.