مي خالد؛ بين ثرثرة الجوائز؛ واستعجال الكتابة!

صلاح حسن رشيد

سأل رجلٌ أحدَ حكماء العرب يوماً: "متى أتكلم؟ فقال له: إذا اشتهيتَ الصمت! فعاد الرجلُ ثانيةً يسأله: ومتى أصمت؟ فأجاب الحكيم: إذا اشتهيتَ الكلام"!

فهل؛ طبَّقت الكاتبة/ مي خالد هذه المقولة التي استشهدت بها في أحد مقالاتها بجريدة الأهرام العام الماضي .. على رواياتها، وكتاباتها، وفنها الأدبي؟!

ففور قراءتي لروايتها(مقعد أخير في قاعة إيوارت)؛ تمنَّيتُ؛ لو أعادت هذه الكاتبة، التي تمتلك الأدوات والموهبة .. العكوف من أجل إخراجها بصورةٍ فنيةٍ أفضل؛ لكن الاستسهال، والسرعة، والاستعجال، وضعف لغتها، والثرثرة الفارغة، والتكرار، والمط، وعدم التفريق بين لغة السيناريو ولغة الرواية، وعدم إحكام الصنعة الروائية؛ جعل الإبهار، والفن، والإدهاش؛ يأتي نزراً يسيراً؛ كشمس الشتاء في خفوتها، وهوانها، وضعفها على الناس والنقاد!

وأعرف أنَّ كلامي؛ سيكون صادماً لكاتبة؛ أعطاها معرض القاهرة الدولي للكتاب جائزته الأولى هذا العام عن روايتها(جمنازيوم)؛ فعذرُ شيرين أبو النجا، وحسين حمودة؛ وطاقم شللة التحكيم؛ أنَّ المواهب شحيحة؛ (وقوفَ شحيحٍ؛ ضاع في التُّرْب خاتمه) كما قال أبو الطيب المتنبي!

فكم؛ من الجوائز والأسماء؛ التي لا تستحق الحبر الذي أُرِيقَ على الورق من أجلها!

فنحن الآن؛ لا نمتلك قامات: يوسف إدريس، ولا حنا مينه، ولا الطيب صالح، ولا عبد الرحمن منيف، ولا إبراهيم أصلان، ولا غادة السمان، ولا ...!

وإذا كانت الروايات قد غزتنا الآن؛ من كل جانب؛ فأغلبها تافه؛ ويغلب عليه الحس التجاري؛ وثقافة الورشة؛ التي يقوم عليها لفيفٌ من الصنايعية والترزجية والنقدجية؛ حتى تخرج على مقاس صاحبتها؛ والأسماء أوضح من الشمس، والحكايات يعرفها الأجِنَّة في بطون أمهاتهم، والحيوانات في البراري، والفلوات والأزِقَّة والنجوع!

ومَن أراد المزيد؛ فليلقني خلف مباني: وزارة الثقافة، والمجلس الأعلى للثقافة، وهيئة الكتاب، وقصور الثقافة، وأكاديمية الفنون، ومباني الجوائز الخليجية للروايات المصنوعة .. ومعه سيفه وعتاد المنازلة الكبرى؛ فسيرى الصفقات بأُمِّ عينه؛ حتى لو كان أحول، أو أعشى، أو أعمى، أو أكمه!

فـ(مقعد أخير في قاعة إيوارت)؛ كتابة أولى متعجِّلة؛ مليئة بالأخطاء اللغوية، والفنية؛ فليس كل شئ في الواقع؛ يتم نقله على الورق؛ وإلاّ؛ كان الواقع أفضل من النقل عنه؛ بالكتابة الواهية الساذجة؛ الارتجالية العفوية؛ غير الناضجة، ولا المدروسة!

فأين هضم الواقع، وتمثُّله؛ وسبك الخيال به في رؤية أكثر اتساعاً ورحابة في عمل مي خالد؟!

ونصيحتي؛ لمي خالد نفسها هي؛ لقد ظلمكِ النقاد؛ وظلمتكِ الجوائز!

فمن الممكن أن تكوني كاتبة جيلٍ؛ لو تفرغتِ للكتابة؛ بالقراءة الواعية، وصقل الموهبة، وليس تقليد هذا وذاك، والثرثرة التي لا غَناءَ فيها في الفن الحقيقي!

وأقول لكِ؛ عليكِ بقراءة: المتنبي، والمعري، وابن عربي، والنفري، وشوقي، والعقّاد، وطه حسين، وأحمد حسن الزيات، والمازني، وجبران، ويحيى حقي، ومي زيادة، وزكريا تامر، ووديع فلسطين، والطاهر أحمد مكي، ودواوين الشعر الجاهلي، والآداب العالمية؛ ولكن؛ بمنظار فنان؛ لا مقلد!

وتحضرني هنا؛ حكاية الشاعرالطبيب/ إبراهيم ناجي في بدايته .. مع الدكتور/ طه حسين؛ وعنها يقول العلاّمة الأديب/ وديع فلسطين: "في عام 1934م؛ صدرتْ ثلاثة دواوين لشعراء مصريين هي:(الملاّح التائه) للمهندس/ علي محمود طه، و(أنفاس محترقة) لمحمود أبي الوفا، و(وراء الغمام) لإبراهيم ناجي. فتناول طه حسين هذه الدواوين الثلاثة في مقالاته النقدية التي كان ينشرها في جريدة(الوادي). أمّا ديوان علي محمود طه؛ فقد ظفر من طه حسين بالثناء المُستطاب، وأمّا ديوان أبي الوفا؛ فقد أنكر عليه طه حسين؛ أن يكون شعراً، واعتبره نظماً، بل كاد يعتذر من عدم الاهتمام به، وأمّا ديوان إبراهيم ناجي؛ فقد صبَّ عليه جامَّ غضبه، وقال: "إنَّ شعر ناجي أشبه بموسيقى الغرفة منه بهذه الموسيقى الكبرى، التي تذهب بكَ كل مذهبٍ، وتهيم بكَ فيما تعرف، وفيما لا تعرف من الأجواء"!

وطبيعيٌّ؛ أن يغضب الشاعران: أبو الوفا، وإبراهيم ناجي. أمّا أبو الوفا؛ فلم يرد على طه حسين؛ بل أثبتَ مقالته في ذيل ديوانه! ولكنَّ إبراهيم ناجي؛ لم يسكت؛ فردَّ على طه حسين بقوله: "أنتَ تراني شاعراً هيِّناً ليِّناً، وليس جبّاراً؛ فأنتَ مِن أنصار الأدب العنيف؛ الأدب النِّتْشَوِي- نسبةً إلى الفيلسوف الألماني نيتشة- الهتلري"!

وما كان من ناجي؛ إلا أنْ اعتزم طلاق الشعر والأدب؛ بل المجتمع الأدبي كله، وأعلن بلسانه قائلاً: "وداعاً أيها الشعر، وداعاً أيها الفن، وداعاً أيها الفكر، وداعاً ودمعةً مُرَّةً، وابتسامةً أمَرّ"!

وركب البحر قاصداً إنجلترا فِراراً من هذا النقد العنيف الذي تعرَّض له ديوانه من طه حسين، ولكنْ لم تطِبْ له الحياة في إنجلترا؛ حيث أُصيبَ في حادث سيارةٍ، وكُسِرتْ ساقه، ولم يجد مفراً من العودة إلى مصر؛ ليواصل أداء رسالته. وعندما اقتربت سفينته من ميناء بورسعيد هتف قائلاً:

هتفتُ؛ وقد بدتْ مصرُ لعينَي         رِفاقي، تلك مصرُ يا رفاقي!

 أتدفعني، وقد هاجتْ جناحي!         وتجذبني، وقد شدَّتْ وثاقي!

خرجتُ من الديارِ أجُرُّ همِّي          وعُدتُ إلى الديارِ أجُرُّ ساقي!

فلمّا سُئلَ طه حسين عن قسوته على إبراهيم ناجي؛ أجاب بحنكة الخبير الناقد قائلاً: "لو كان شاعراً فعلاً؛ فلن يستسلم؛ بل سيواصل الكتابة، والتجويد، والتحليق"!

وبالفعل؛ فقد وعى إبراهيم ناجي .. درس طه حسين؛ فتألَّق بدواوينه وموهبته وتجديده!

فهل؛ وعتْ مي خالد .. درس الجوائز الفالصو، والمدائح العرجاء، والكتابة الناضجة المطلوبة منها؟!

فالجوائز؛ لا تصنع أديباً؛ إلاّ إذا كان من أصحاب الاقتدار، والإبهار أصلاً!

وسوم: العدد 685