مسك الكفاية – ودولة الدسائس

محمد عمر يوسف القراعين

clip_image001_254ff.jpg

صدرت رواية مسك الكفاية للأسير الفلسطيني باسم الخندقجي عام 2014، عن الدّار العربيّة للعلوم ناشرون،وتقع الرواية التي صمّم غلافها سامح الخلف في 330 صفحة من الحجم الكبير، وقدّم لها الأديب محمود شقير.

في هذه الرواية، لم يكتف المؤلف بتناول سيدة الظلال الحرة، بل تناول تاريخ دولة لم تستتب لها الأمور إلا بالدسائس والمؤامرات والمعارك، سآتي إليه بعد إبلاء الخيزران حقها. هل نحن أمام سيدتي الجميلة، أوMy Fair Lady؟ التي أبدعها برنارد شو، من فتاة ريفية بسيطة، وأدخلها قصور المجتمع المخملي، سرعان ما كشفت نفسها بسذاجتها، في حين أن نجمتنا اتخذت المركب الصعب، كأنها تقول:

 فإذا كانت النفوس كبارا    تعبت في مرادها الأجسام      "وإذا سرقتَ فاسرق جمل"

المقاء بنت عطاء بن سبأ صبية في عمر الورد، تعيش في شبوة من اليمن، حيث الخوارج الخارجون على سلطان العباسيين كما الأمويين قبلهم. يأسرها أمير الجند على أنها ترسل الطعام للعصاة، ليأخذها هدية لمولاه الخليفة. تتعرض لمحاولة اغتصاب ينقذها منه فارس شهم، هو الأنهد بن عروة بن الورد، الذي يهم بإعادتها لأهلها، ولكنها تصر على الذهاب إلى بغداد سبية تباع في سوق الجواري. يبدو أنها أصيبت بعقدة السبي، فأرادت استكمال دورها، أو بالأحرى أن المؤلف رتب ذلك في سياق الرواية، مع أن الأنهد حاول ثنيها بإطلاعها على حياة الجواري وبيعهم المذل في سوق النخاسة. لجمالها وعذريتها ، ترسلها راعية الحريم بعد تفحصها في الخان إلى الري، حيث القصر الزينبدي للمهدي ابن الخليفة المنصور، وتطلق عليها اسم الخيزران، الذي علمت فيما سبق أنه من أسماء الأضداد، لأنها لم تكن بهذا القدر من الرشاقة غير المرغوبة. فالشاعر البدوي يصف الجمال هكذا:

فهي هيفاء هضيم كشحها (أي خصرها)     ضخمة حيث يُشد المؤتزر

تُنجب للمهدي ولي عهده الهادي، وهي جارية أم ولد، لم ينادها حتى باسمها، فلم تتقبل ابنها لأنه ابن فض، وتنجب هارون فتتقبله وتنتقل من قصر إلى آخر، من الزينبدي إلى قصر الخلد فالرصافة وعيسباد، إلى أن يبني لها المهدي قصر الخيزرانية، لأنه أحبها وأعجب بها لسداد رأيها ونصحها له. ولكنها لم تبلغ ذروة الكفاية، فهي تصبو إلى الانعتاق والتحرر، الذي تفضل عليها به المهدي، لأن ولي العهد موسى الهادي يجب أن يكون ابن حرة.

حياة القصور في بغداد حافلة بالمكائد والعزل والقتل، وهي تشارك فيها لتعزيز مكانتها، وعندما يموت المهدي عام 169 هجرية، يخلفه الهادي الذي كان بطاشا بالعلويين، متعجرفا ضيق الصدر يبيح الخمور في مجلسه. لم يعجب الخيزران تخبطه ومجونه، كما لم يعجبه انفتاح أمه على العباد وأولي الأمر، فحاول تسميمها بوليمة عامرة، مات بعدها مختنقا تحت جوار ثلاث قويات البنية سنة 170.

أخيرا أصبح ابنها الحبيب هارون الخليفة، الذي سئم من الفتنة المشتعلة بين أمه، التي تفضل حفيدها المأمون ابن الجارية الرومية مراجل، على الأمين ابن زوجته زبيدة، فآثر النأي بنفسه عن قصر خلافته، لاجئا إلى برية سلطانه، واثقا بقدرة وزيره البرمكي وأمه من ورائه، على إدارة شؤون الحكم والرعية، واثقا أيضا أن الغمامة أنى ذهبت فخراجها يعود إليه. وهنا تصل الخيزران إلى مسك الكفاية، فهي تتربع على عرش الدولة العباسية الشاهق، وكل ما واجهته وانتصرت عليه، يقبع أسفلها في هاوية انتقامها. تمضي إلى جناح الحريم في القصر بطولها الفارع، قائلة للحواري:      انهضن واذهبن فأنتن حرائر.

قدم لنا المؤلف رواية متنوعة مستفيدا من وقته في الأسر، ومن الكتب والمراجع المتاحة، لتكون  شاملة للأدب والتاريخ، والاجتماع والسياسة وحتى نواحي العشق والغرام، كما كان ينوع في سرده بين مسيرة الخيزران، كسبية من الكوفة للري فبغداد، ليعيدنا بين آن وآخر إلى الصحراء مع الأنهد ورقية وسيدة القبيلة، حيث يحدثونا عن سكان الصحراء، بأنهم أحرار يخدمون بعضهم بعضا ولا سيد عليهم، وعن الصعاليك وقصص من التاريخ، عن سبأ وخزاعة وزرقاء اليمامة، والحب بين توبة بن الحمير وليلى الأخيلية، والجواري ومصادرهن وأصنافهن، فأضاف لنا الكثير. وقد أحبت المقاء بهذه المناسبة فارسها الأنهد، وحافظت على ذكراه بعباءته السوداء المخبأة بصندوقها الخشبي، فقد كان رجلها الأول، ولكنها لم تكن أنثاه الأولى التي هي رقية.

في الرواية يبدو لنا الوجه غير المشرق، للعصر العباسي الأول، الذي حسبنا أنه أزهى عصور الدولة العربية الإسلامية. فهذه عاصمة الرشيد، التي بناها المنصور بسخاء، مع أنه كان يعرف بأبي الدوانيق لبخله، كما كنا نعتز بأن الخليفة الأول، أخذ لقب السفاح لأنه استعمل الشدة معذورا لضبط الأمن في دولته الجديدة، مغفلين أنه سرق الخلافة من محمد بن عبد الله بن الحسين بن علي، المشهور بالمهدي أو النفس الزكية، حيث كانت الدعوة له في أواخر عهد الأمويين، فخذله المنصور والسفاح، كما قضى المنصور على أبي مسلم الخراساني، قائد جيش العباسيين ضد مروان بن محمد، وقضى على عمه عبد الله بن علي، ثم نقض ولاية العهد لعيسى بن موسى ابن أخيه لمصلحة ابنه المهدي. تبع ذلك محاولة الهادي نقض ولاية أخيه هارون لمصلحة ابنه جعفر، ومحاولة الخيزران نقض ولاية الأمين كما مر سابقا.

 كل هذه الدسائس والمؤامرات تحدث في أقل من أربعين عاما من عمر الخلافة العباسية، يقابلها الانتقال السلس في ولاية العهد في بريطانيا مثلا، خلال أكثر من خمسة قرون، خلال حكم ثلاث أسر منذ نهاية القرن الخامس عشر، حيث تداول السلطة ملوك وملكات، حسب أحقيتهم في ولاية العرش، بدون إقصاء أي منهم لتولية وريث أخر. هذا الأسلوب الذي استنه المنصور ومن بعده ظل سائدا خلال حكم العباسيين، الذي أصبح اسميا بعد المتوكل 247 هجرية، وانتقل حتى للدولة العثمانية. كما يلاحظ أن ترك أمور الدولة للوزير البرمكي من قبل الرشيد، أصبح تقليدا اتبعه الخلفاء من بعده، حتى أصبح الحكم بعد المتوكل أيضا، بيد القادة الأتراك والبويهيين والسلاجقة، الذين كانوا السلاطين في الدولة، وأصبح الخليفة العباسي صورة فقط لشرعنة الحكم، كما كان يقال:

  خليفة في قفص   بين وصيف وبغى       يقول ما قالا له    كما تقول الببغا

وسوم: العدد 700