عبد الله بن رواحه (شاعر الذين يقولون ما يفعلون)

عباس المناصره

1 - المقدمة: عبد الله بن رواحة صحابي جليل وفارس متميز، وشاعر له أداء خاص لا يختلط مع الآخرين، ولا يتشابه معهم، إلا في الخطوط العريضة التي يلتقي فيها شعراء الدعوة الإسلامية، وهذا الشيء الذي نريد أن نؤكده، حيث أن جميع شعراء " الشمولية الإسلامية " لهم خطوط عريضة مشتركة يلتقون حولها، ومع ذلك فكل واحد منهم له تميز فردي في الموهبة والأداء.

ونحن لا ننكر هذه القاعدة،بل نؤكد أنها أمر طبيعي في شعراء المذهب الأدبي الواحد، ولكننا نوضح قصدنا في تميز عبد الله بن رواحة في إلى منها: سرعة تفاعله الفني والشعري مع الدين الجديد مع فروسية ذات مذاق خاص، تتفاعل مع فعل الجهاد تفاعل العاشق مع معشوقته، وتحن إلى الجنة بروح يدفعها التحدي والعنف وتمني الألم والطعن والقتال، تفوح من شعره رائحة العنف الصادق المتلهف إلى لقاء ربه:

إنني أزعم أن فن الشعر هو الفن الوحيد، الذي يكشف الصدق من الزيف؛ لأن ميزة فن الشعر على باقي الفنون الأدبية الأخرى، أنه يكشف مكنون القلب، وخبايا المقاصد والنوايا، ولا يستطيع الشاعر إلا أنْ يكشف رصيده الشعوري العاطفي، وبناء على تحليل هذا الرصيد، يمكننا، أن نتبين المشاعر الطبيعية من المشاعر المفتعلة.

ألم يكشف النقاد سوء نوايا الشاعر المتنبي، في مدائحه لكافور الإخشيدي من خلال الفلتات الشعورية التي ظهرت على سطح شعره ؟

وهذه ميزة فن الشعر - كما قلنا - على بقية الفنون النثرية، التي قد تتدخل فيها رقابة الفكر فلا تسمح لمكنون المشاعر أن يظهر، إلا في حدود ما يراه الفكر من حكمة الخطاب والمحاورة للآخرين، أما الشعر فلا مجال فيه لذلك، لأنه دفقة تفريغ شعوري كامل، ينصب مرة واحدة من خلال حالة التوتر التي يعايشها الشاعر، لحظات ميلاد القصيدة. وإذا حصل أن تدخل الفكر لمراقبة هذا التدفق، فلابد أن يتسرب إلى البناء الشعري ما يشير إلى (عقلنة) هذه المشاعر وعندها تنكشف عورة (العواطف المصطنعة) من (العواطف الصادقة): إن الشعر تاريخ حقيقي للمشاعر والسلوك عند الأمم، لأنه تسجيل للمواقف القلبية، التي تحكم على مواقف فكرية وأوضاع واقعية قيمتها هذه المواقف القلبية يوم عايشتها، فقد يعبث العابثون بحقائق التاريخ ومعلوماته بسهولة، ولكن ليس باستطاعتهم أن يعبثوا بالتراث الشعري لتلك الفترة بسهولة؛ لأنه يصعب أن يدخل على الفن الشعري ما ليس من نسيج صاحبه، ولو حصل ذلك الإدخال، فإنه يكون كالرقعة السوداء في الثوب الأبيض، وحتى لو كانت الرقعة بيضاء في ثوب أبيض، فإنها لا تخفى على الناقد البصير المتمرس.

 ليس هذا خروجاً عن الموضوع، بل مقدمة ومدخلاً للتعرف على شعر عبدالله بن رواحة من خلال مقطوعتين من شعره تمثلان النموذج الإسلامي.  

2- النموذج الأول (28)

إنه اعتراف بمنة الإيمان، وطاعة الشكر عليها، إلى الله سبحانه وتعالى، ودعاء يكشف صدق النوايا وصحة اتجاهها إلى المعطي الوهاب، وبطلب الثبات عند لقاء الأعداء، والثبات نعمة كبرى يمنحها الله للصادقين؛ لأن الصدق جهد العبد والثبات هو عطاء الرب، للمجاهدين السابقين. ودوافع الجهاد موجودة في بغي الظالمين على المؤمنين " إن الكفار بغوا علينا " ورفض المؤمنين لهذا الظلم " وإن أرادوا فتنة أبينا ". إن الظالمين لا يكتفون بأنهم على الضلال والكفر، ويتركون عباد الله على حريتهم التي منحهم الله إياها (فمن شاء فليؤمن ومن شاء فليكفر) بل يريدون إجبار غيرهم على السير معهم في منهاج ضلالهم. ومن هنا جاء حق المؤمن في الجهاد، ليدافع عن حقه في الاعتقاد وحريته في حماية شريعة الحق طاعة لأمر الله في ذلك.

لقد حزن عبد الله بن رواحة لنزول الآية الكريمة والشعراء يتبعون الغاوون وقال وهل إنا إلا منهم، ولكن الفرح عاد إلى قلبه حين نزل استثناء بالشعراء المؤمنين إلا الذين آمنوا وعملوا الصالحات وذكروا الله كثيراً.

إن الله الذي خلق النفس وفطرها، اعرف بحاجات فطرتها الضرورية، والشعر ضرورة من ضرورات الفطرة، في التعبير والبيان عن أشواقها، ومن هنا جاء استثناء الشعراء المؤمنين في الآية الكريمة، لأن الشعر نوع من أنواع البيان الذي مَنَّ الله به على الإنسان علمه البيان شريطة أَنْ يخضع هذا البيان لشروط الإسلام وتوجيهه، كما قال عليه السلام (الشعر كالكلام طيبه طيب وقبيحه قبيح) فماذا ترى في كلام عبد الله بن رواحة، لقد جاءت مقطوعته لتؤكد تفاعل مشاعره وقلبه وخضوع هواه لأمر الله، إنه يتمثل المعاني القرآنية ويعايشها بصدق لا مواربة فيه، لأن هذه المعاني خالطت قلبه، فكانت القصيدة عبارة عن مقطوعة تحمل مجموعة من الدفقات الشعرية من جهاز عصبي، لإنسان تربى على كتاب الله، وبأسلوب يتحول فيه كيانه، إلى ربه، بخطاب موجز، فيه سمو التعبير، وبراعة الإيجاز لأَنَّ الإسلام يتغلغل في كيانه، لكنه يصوغ الإسلام شعراً ممتزجاً بإنسانيته وعندها يكون البيان على لسانه حكمة، وهذا يبين صدق القول الذي يقول أَنَّ صحابة رسول الله صلى الله عليه وسلم " كانوا قرآئين تدب على الأرض "

3- النموذج الثاني:(29)

                 وإن تأخرت فقد شقيت

              جعفر ما أطيب ريح الجنة

وهذه المقطوعة قالها شاعرنا، في يوم مؤتة، يوم استشهد بين الصفين، يدفع عن دين الله بنفسه، حتى ارتفعت روحه إلى خالقها، تحمله الملائكة على سرير من ذهب يقول المؤرخون: إنه دخل المعركة وقد جرحت إصبعه في بدايتها " هل أنت إلا إصبع دميت " إنه خطاب شعراء الأفعال، الذين يقولون ما يفعلون، ومن خلال المعاناة وفي أوقات الشدة تظهر المعادن الأصيلة للرجال، وتختبر العقيدة في قلب صاحبها، وتأتي جوارحه تتصدى لأعداء الله، في مرحلة لا ينفصل فيها قول الشعر عن فعل البطولة، والنفس لا تقنع بالاقتراب من الموت، ولا تطمئن لذلك، إلا إذا كان الموت إغراء، وهنا يأتي دوره في إقناع هذه النفس " يا نفس إلا تقتلي تموتي " وطالما كنت تتمنين الشهادة، وها قد جاء المنى لك بالحظ وسنحت الفرصة (وما تمنيت فقد أُعطيت) فإن فعلت فعل جعفر وزيد فقد هديت، وربحت البيع مع الله، ويعالج الشاعر خاطر التردد، الذي مر سريعاً في نفسه ومخاطباً لها (مالي أراك تكرهين الجنة) و(أقسمت يا نفسي لتنزلنه)، هذا هو الانتصار، يبدأ من داخل النفس ثم يمتد إلى ساحة الواقع، حيث استطاع الشاعر أن يلوي عنق الخوف ويجبرها على دخول الجولة، طوعاً أو كرهاً، مستعملاً أسلوب القسم، والتذكير لنفسه بأنها عاشت ردحا من الزمن مطمئنة بالحياة، وأن تترك حياة زائلة إلى حياة باقية، وتتواجد في ذهنية الشاعر صورة لخروج الروح من الجسد، يحاول أن يقنع نفسه بها ويسهل عليها الأقدام، إنها صورة خروج قطرات الماء من قربة مثقوبة (ما أنت إلا نطفة في شنه). نعم لم يكن عبد الله جباناً ولا خوارا، وما كانت لحظات التردد التي مرت به إلا لحظات فطرية، تمر على كل نفس تعايش اختبار الموت، ألم يقل الله سبحانه وتعالى في كتابه الكريم كتب عليكم القتال وهو كره لكم البقرة : 216 ومن هذا الشعر ينبع الصدق الشعوري متألقاً مع الصدق الفني في مركب واحد اسمه الشعر الإسلامي.

4 - البناء الفني والمذهبية الأدبية

1 - المحافظة على المستوى الأدائي الفني والبلاغي دون اللجوء إلى الغموض والتقعير، مع سهولة الخطاب ووضوحه مع الترابط بين الفعل والقول من خلال المعاناة التي لا مجال فيها للتهويل والتخيل الكاذب.

2 - تناول الجزء في التجربة الشعورية من خلال علاقته ووشائجه مع الكل حيث جاء الجهاد، كجزء من العقيدة، مترابطاً معها دون انفصال في الفهم والتعبير.

3 - عرض المشاعر والمقاصد والنوايا دون ادعاء، أو إنكار للفطرة أو تزييف لها مع حذر من الوقوع في فاحش القول أو حوشى الكلام، الذي قد يسميه البعض واقعية.

4 - لم يكن الشعر الإسلامي منشوراً حزبياً يتملق الزعامة، وإنما تفاعلاً بين القلوب المؤمنة التي يدفعها الصدق والحب في بيان يجمع بين الفنية التي يفرضها الموقف، ليعكس ثمار القلوب التي تفاعلت مع القرآن في ساحات الأعمال والأفعال والأقوال.

وسوم: العدد 726