والملائكة ترد التحية ـ عامان على رابعة ـ

د. يحيى مصطفى كامل

بدا مجحفاً لي ذلك الكم من السخرية القاسية من قبل معارضي الرئيس السيسي على تحيته للملائكة في كلمةٍ ألقاها إبان افتتاح دورة الألعاب الإقليمية لذوي الاحتياجات الخاصة، فالرجل لم يعن الملائكة بالمعنى الحرفي، وغاية ما هنالك أنه أراد أن يبدو لطيفاً متواضعاً، ذا مشاعر رقيقة فلجأ إلى تلك الصيغة البلاغية… لذا، فمن قبيل المبالغة المتصيدة للأخطاء محاولة تقديم ذلك دلالةً على الالتياث، وذلك على نقيض تصريحه بحكمته، وكونه طبيباً بشهادة كل الفلاسفة (الذين لم يسم أحداً منهم بالمناسبة) الذي يشير إلى تضخم ذاتٍ مبكرٍ ومقلق.

ليست المرة الأولى التي يدخل فيها الملائكة طرفاً في ساحة الحياة العامة في مصر، سواء بصفتهم الشخصية أم من قبيل الاستعارة، فقد نزلوا في اعتصام رابعة على ما قيل… لكن الحقيقة أن تلك الصيغ وأشباهها من عينة «انتوا مش عارفين إنكم نور عينينا». وتقريعٍ من المفترض أن يستنهض المروءة والحمية الوطنية كـ»انتوا عايزين تاكلوا مصر» تظل مزعجة للغاية لما تحمله من مدلولاتٍ تتخطى الركاكة اللفظية واللعب على المشاعر الوطنية وابتزازها، إلى آفاق أزمةٍ سياسية واقتصادية واجتماعية عالقة ومزمنة ما تني تتفاقم، ولعل ألطف تفسيرٍ سمعته هو ما ساقه صديقٌ لنا باحث سياسي، من كون السيسي يخاطب حالةً من الثقافة المتدنية، أو المنحطة إذا شئنا الصراحة. 

تظللنا هذه الأيام ذكرى أحداث رابعة المفجعة، وما سال فيها من دماء… نستعيد التفاصيل وتطور الأحداث الذي أفضى إلى ذلك اليوم الأسود والمشؤوم في تاريخ مصر الحديث… تتواتر الروايات والشهادات عن نيةٍ مبيتة وتصميم من قبل النظام للفض العنيف، وتخرج تقارير مؤسسات حقوق الإنسان عن مذابح ضد مئاتٍ عدة أغلقت دونهم منافذ الفرار والنجاة…مذبحة حقيقية…تعود الذكرى، ولكن هل برحتنا من الأصل؟

لا… أعدت قراءة ما كتبته وقتها، تساءلت إن كان ذلك اليوم سيشكل نهاية الدماء أم نهاية الثورة أم بداية المجهول… الآن، وبعد مضي عامين، ثبت أنها لم تكن نهاية الدماء، بل بداية نهرٍ لن ينتهي فيضه قريباً. الأهم من ذلك هو تحقق ما توجست وخشيت منه ساعتها: لقد كانت مجزرة رابعة عملاً مؤسساً بكل ما تحتمل الكلمة من معان، ركنا مؤسسا وسمة أساسية من التركيبة الجديدة الآخذة في التشكل وطبيعة ممارستها للسلطة.

لم يكن من الصعب الإحاطة بالإخوان ومن ثم الحشد لإسقاطهم، ولا يرجع ذلك فقط لأخطاءٍ ارتكبوها من عينة الإعلان الدستوري وأحداث الاتحادية، أو أخرى نسبت إليهم كالأزمات التي افتعلتها، من دون أدنى شك، أجهزة الدولة العميقة كالوقود والكهرباء، وإنما أيضاً لتفاهماتهم مع المجلس العسكري وأجهزة الدولة وتعويلهم ورجائهم الذي خاب في أي مهادنة مع تلك الأجهزة في العلن وتحت الطاولة ومن خلال القنوات الخلفية. 

لست هنا بصدد تحليل أخطاء الإخوان ومظالمهم وما حيك ضدهم من مؤامرات وخياراتهم اللاثورية التي أسهمت في سقوطهم، وإنما التأكيد على كون النظام لم يكن ليرضى سوى بما حدث. ليس لدي أدنى شك في أن الهدف كان ولا يزال رفع سقف العنف واعتماده وسيلةً وركيزةً أساسية للمرحلة التي بدأت مع الإطاحة بالإخوان وتكرس معلمها الأساسي برابعة، والأهم والأخطر أن ذلك تم باستدعاء وغطاءٍ سمي بالـ»شعبي».

عقب ذلك، وفي أجواءٍ انتقامية لا تخطئها عين المراقب وشحنٍ عصابي وتخويفٍ من مصائر التفتت الإقليمي، لا يمكن تجاهلهما، يتم بوتيرةٍ منتظمة وشرسة التضييق والتطويق المنهجيين للحريات العامة، بدايةً بقانون التظاهر، والآن بقانون الإرهاب؛ وفي مسيرة إثبات الشرعية وإبعاد شبح الدبابة والانقلاب، تم القفز إلى الأمام والترويج لحالة من الحركة والنشاط تقودها أجهزة القوات المسلحة بمنجزات ( أغلبها وهمي) بدايةً بجهاز الكفتة، وانتهاءً بمشروعٍ قومي هو التفريعة الجديدة لقناة السويس، الذي تضاربت الآراء حول جدواه الاقتصادية. الهدف المنشود هو استغلال مشروعية الإنجاز مبرراً للعودة إلى الوراء، إلى حالة اللامبالاة العامة والعزوف عن المشاركة السياسية والخوف، بما يؤدي إلى إغلاق المجال العام ومن ثم تجفيف وردم مجرى السياسة. 

في المحصلة، صرنا نعيش في كابوسٍ أو واقعٍ يكاد يكون مستمداً من مسرح اللامعقول، حيث في فوضى الكلام والتصريحات التي لا ضابط لها والتدليس، صار هناك عالمان متوازيان: أحدهما وهمي تظلله صورة السيسي بخطابٍ أبوي متعال وحان، ينعت البعض بالملائكة ويمسك بيد طفلٍ مريضٍ في مقدمة باخرة، ويتشدق بالإنجازات العظيمة… وعالمٌ آخر حقيقي، من لحمٍ ودمٍ، حيث الغلاء الكاوي وسطوة الأمن والقمع غير المسبوق وتضييق المجال العام وعودة الوجوه القبيحة والانحيازات الاجتماعية والاقتصادية الأقبح. اللافت والمحزن في آنٍ معاً، أن بعضاً ممن تحمسوا للرئيس السيسي وروجوا له من الكتاب، خاصةً المحسوبين على التيار الناصري، باتوا يلمحون بامتعاضهم ويحذرون من انحيازاته الاجتماعية التي تمثل امتداداً لعصر مبارك. 

كلنا ضحايا رابعة، منا من زهقت روحه ومن ساحت دماؤه ومن يقبع في سجنٍ ومن ضاعت أحلامه وآماله في التغيير… كلنا ضحايا عقودٍ سابقة من التجـــريف السياسي والإفقار والقمع… لذا، عوداً إلى عنوان المقال، لا أطيق في وضعٍ مأزوم تماماً كالذي نعيشه أن أعيش في الأوهام، وتنهال عليّ تصريحات تتصنع العاطفة والرقة ولا تليق سوى بالمرحوم عبد الحليم حافظ في أفلامه… في بلدٍ أمنه يفلت منه الإرهابيون الحقيقيون ولا يستأسد سوى على ناشطي العلن، في بلدٍ غُدرت ثورته، تغدو تلك التحيات وذلك اللعــــب على أوتار المشاعر الوطنية مغيظاً، بل مستفزاً للغايــــة، خاصةً وأنها تذكرني بالأفراح في المناطق الشعبية، حيث يقف أحد المدعويين ليحيي بقية الحضور وأهل العروسين، مع احترامي الكامل لثقافة الناس فإن ذلك لا يليق في المناسبات العامة والمجال السياسي. 

لكن طالما وصلنا إلى هذا الحد من العبثية العامة والتمادي، لا أجد رداً ملائماً غير: والملائكة ترد عليك التحية!