الطريق إلى تدمر، كهف في الصحراء، «الداخل مفقود، والخارج ولد مولود» (1)

م. سليمان أبو الخير

1986-1981

الإهداء

إلى روح والدتي التي رحلت في بواكير طفولتي إثر مخاض عسير... إلى روح والدي المسن الذي لم يألُ جهداً في البحث عني في كل مكان، جزاه الله خير ما جوزي والد عن ولده..

إلى التي أضاءت مقبلات أيامي، وأعطت للأيام بعضاً من المعاني الجميلة، وقبل هذا وذلك صارت أماً لأولادي...

إلى صاحب الأيادي البيضاء، رفيق صدر شبابي، لم تبدله الأيام ضياء فرّاج..

إلى كل الذين التقيتهم وراء القضبان... هناك... في كل أفرع التحقيق... أخص منها:

فرع التحقيق العسكري بدمشق... فرع الأركان... فرع العدوي بدمشق..

إلى البائسين... المعذبين... الفاغرين أفواههم إلى السماء متضرعين... يجأرون إلى من لا تغفل عينه ولا تنام... تلهب السياط أظهرهم... سياط البعث... سياط الحقد المرضوع مع لبن الولادة... سياط البغي والكأس المترعة بالعدوان...

إلى الذين كنت محشوراً معهم في علبة سردين بكهف تدمر العسكري... إلى الآلاف الخمسة أو يزيدون ـ حتى يوم خروجي ـ الذين وارتهم أتربة الصحراء، شباباً في ريعان العمر، ذهبوا إلى ربهم ذنبهم أن قالوا ربنا الله!! أذكر منهم:

«هيثم يبرودي وهو وحيد أبويه، ملهم أتاسي، جمال خراط، مروان باشات، قاسم ططري، وفا أزرق، حسان مرعي، عبد العزيز عطار، شقيقه أسامه عطار، محمد بلال الخطيب، صلاح ذياب، والقائمة تطول..»

إلى هؤلاء وأولئك الذين لم أذكرهم هم عند ربهم أحياء يرزقون.. وإلى الذين خلفتهم ورائي.. ليس لهم إلا الدموع والابتهالات في عتمة كهف تدمر العسكري.

وإلى كل من سعى في طلبي والسؤال عني.. أخص هنا الحكومة الأردنية، السفارة الألمانية بدمشق، دائرة الطلبة الأجانب في جامعة دارمشتات، اتحاد الطلبة العرب دارمشتات.. إلى كل هؤلاء وأولئك أبث حنيني وأشواقي.. وشكري وامتناني..

بسم الله الرحمن الرحيم

لماذا تأخر هذا الكتاب؟

لقد مضى على كتابة هذه الأسطر ما ينوف عن ربع قرن من الزمن، وفي هذه السنوات ظهرت إلى الدنيا دول واختفت أخرى، قامت حروب وانطفأت أخرى، مات فيها ظَلَمة وطواغيت، ونبت آخرون أشد ظلماً وبطشاً، وكنت أهادن الأيام، علّها تأتي بساعة هدنة وصفاء، أُلملم فيها بقايا ما ترهل من عمري الفاني، أضمه إلى أيام ما زال فيها بقية من همةِ من جاوز الخمسين، وأسأل عن أحدٍ ممن خلفتهم هناك وراء القضبان، علّهم يسعفونني في أي إذن بنشر هذه الحكاية! إن كان في نشرها ما ينفعهم! وأنا مشفق لا أريد أن أتسبب في زيادة آلامهم!! لذا كنت كلما عزمت أمري، أعود فأتريث، ولعل خشيتي في أن يكون لنفسي نصيباً من شهرة لا أستحقها - أو إن شئت القول- لا أريدها أن تُلبسني صيتاً، كان دافعاً آخر لعدم النشر، مع أنني صرت إلى شيء من الأمان الظاهر، الذي ما عدت معه أخشى الأيام على نفسي، سيما وقد دبت الحياة ثانية وأورقت، بعدما كادت أن تخبو وتنطفئ، وذلك في زوجة صالحة صابرة، وأولاد هم الآن في مثل عمري يوم اقتادوني إلى ظلمات تدمر، قد أورقت حياتي وأينعت بهم، وأسأل نفسي كلما عدت إلى هذه الأوراق أتصفحها مرة يحدوني الأمل، وأخرى فارداً فيها كفي على المنضدة، أعياني التفكير:

-        هل ينفع نشرها الآن أو يضر؟

ولم يكن الله ليخيب لي رجاءً، أو يطوي دوني آمالاً، وما عز عليه أن يمد متمنناً عليّ من العمر آجالاً، ويحقق بحوله سبحانه وقوته من المعجزات أشكالاً وألواناً، ليغيب بإرادته من الظلمة والظُلاّم أعتاهم جبروتاً، وأكثرهم نهباً لثروات العباد والبلاد، ولتنتهى حكاية أشدهم في زماننا على الرحمن عتياً، طاغية تونس، وطاغية مصر، وليبيا واليمن، وعما قريب سوريا و.. ولا يزال الحبل على الجرار.

لقد كانت بداية الإرهاصات في سوريا، وتحركات أهلها من المظلومين المقهورين البسطاء، وأخذهم زمام المبادرة وقد كوتهم العبودية والأغلال التي قيدهم بها نظام الطاغية الأسد، والذي ورثه صاغراً عن صاغر، قيدهم بها من الأيدي حتى ترقية الأعناق، لقد كانت تلك التظاهرات التي بدأت بأبطال حوران في درعا والصنمين يواجهون بصدورهم العارية رصاص الغدر وبطش آلة مَن لا يحتمل أن يرى في دنيا الوجود أحداً سواه، لا يريد هذا النظام الطائفي المقيت أن يصدق بأن الزمان قد دار دورته الاعتيادية، وأنه تبدل وتغير وتحول وتحور، وأنه على الباغي تدور الدوائر، وليسأل إن شاء التاريخ، وليسأل طاغية تونس، وليسأل طاغية مصر، وليسأل مهرج ليبيا، ودجال اليمن فلعل بينهم من يخبره بأنه:

لكل شيء إذا ما تم نقصان

 

فلا يغر بطيب العيش إنسان

هي الدنيا كما شاهدتها دول

 

من سره زمن ساءته أزمان

لقد صار زادي في إعادة هذه المخطوطة إلى الدنيا بعد موات ناف على ربع قرن، مشفوعاً بتلك الجموع التي انطلقت في تونس الزيتونة والقيروان، آخذة في طريقها إلى الذروة مصر الكنانة مروراً بكل العواصم، كي تأخذ دمشق مرتبتها الاعتيادية بين أمم الأرض وشعوبها في طلب الحرية والكرامة وكسر كل قيود الأسر والتبعية..

خرجت درعا بريفها، كما خرجت حمص وحماة واللاذقية وبانياس ودير الزور وحلب والقامشلي وإدلب والنبك حتى تدمر صاحبة السجن ذائع الصيت السيّئ الذي نحن بصدد الحديث عنه، حتى هذه المدينة انتفضت، فأيقظت فيّ همة من أوشك القنوط أن يقتله، خرجت هذه المدن والقرى بأطيانها وأريافها لتسأل عن الحق الذي أرادوا أن يغيبوه أجيالاً، خرجت لتعرف كيف أن دستوراً يتم تغييره في خمس دقائق ليكون على المقاس من التكييف والتوريث!! كيف أن تغييراً بهذه السرعة عجز عن تغيير قانون الطوارئ وتبييض السجون والمعتقلات من نزلائها والذي كبل الناس وأحصى عليهم أنفاسهم لزمن امتدت ظلمة ليله الكالح حتى جاوزت الخمسين سنة، قانون كهذا لا يحتاج إلى الإسراع، ما دام يوفر للظالم متعة تكحيل عينيه بالضحية المنصوبة على السفود، انتفض الناس فأضرموا في داخلي نار من ذاق الضيم ألواناً ثم واتته النخوة والشهامة أشكالاً، نخوة وشهامة كنت ولا زلت أراها نبتاً يستوي على سوقه في قول الحبيب عليه الصلاة والسلام: «إن الله قد تكفَّل لي بالشام وأهله»، وكان ابن حَوالة رجلاً من الأزد ومسكنه الأردن. وكان إذا حدث بهذا الحديث قال: وما تكفل الله به فلا ضَيعة عليه وفي رواية: «عليك بالشام فإنها صفوةُ الله من بلاده يسوق إليها صفوتَه من عباده».

ثم تكرّم علي أحد الأصدقاء مشكوراً، بإرسال بريد إلكتروني، يحتوي على أوراق سجلها أحد الذين كانوا معي، ما سمعت به قبلاً، ولا التقاني أو التقيته، فرأيته قد دوّن حكايته، والتي استمرت أحد عشر عاماً.. طابقت في معظم فصولها كل ما ذكرت، فكانت دافعاً آخر لي كي أقوم بدفعها هكذا دون رتوش إلى الطباعة... هكذا كما طلب إليّ أحد الأطباء الدعاة، حين استعار المخطوطة مني لعشرين سنة خلت، ليعكف عليها ليلتين مع شطر من نهار، يقرأ ويتأمل، ثم يطلب إليّ نشرها، كي يستفيد منها من شاء أن يستفيد، ولعلها تكشف جانباً من تعتيم متعمد عن حقبة من الزمن، أريدَ لها أن تبقى غائبة عن وجدان الأمة وحسها... يتطاول فيها ابناء الخنا والمتعة في عملية اعتقال وتعذيب وصل إلى حد بتر الايدي والارجل وفصل الراس عن العنق واغتصاب حرائر بناتنا وامهاتنا واخواتنا، تذكرت قوله هذا، وحكاية ذلك الشاب، وأفعال من وقفوا في كل تخوم الأرض يهتفون في صوت واحد:

«الشعب يريد إسقاط النظام»

فمنهم من لبّى الله هتافه، ومنهم من ينتظر صادقاً مبتهلاً، فكان ذلك دافعاً آخر لي، ثم جاء التشجيع من صديق صدر الشباب، ألقاه في خريف العمر، لا تراه إلا ربيعاً متجدداً ضياء فراج، يد تمتد إليك من خلال الموج امتدادها للغريق، كل ذلك يدفعني أن أخرجها إلى النور، كي تكون وثيقة أريدها لله أولاً ثم للتاريخ، شاهداً على ما جرى في تلك الحقبة المظلمة من أيام الله ناصعة البياض، قد سودتها أفعال الثوريين من أبناء الفئة الإثنية العنصرية الباغية في بلاد الشام، غير أن عزاءنا في كل ذلك قول الشاعر: "وعند الله تجتمع الخصوم!"

م. سليمان أبو الخير

دارمشتات 22/9/2011

الطريق إلى دمشق

كنت على وشك ترك مدينة دارمشتات الألمانية غارقة في هالة من الثلج، أواخر شتاء حل عام 1981 ثقيلاً قارصاً، لم يكن الفصل الدراسي الثاني قد أزف بالرحيل بعد، كنت يومها قد ولجت عالم الجامعة للتو بعدما انتهيت من أربعة فصول دراسية، واحد لتعلم اللغة الألمانية، واثنان للسنة التحضيرية، والرابع هو الفصل الأول في الجامعة، سأترك المدينة عما قليل، متدثراً بملابس الشتاء، مستقلاً عربة فولفو DL244، اشتريتها ببعض ما ادخرته من نقود، علني أبيعها بشيء من الربح، أرده على ما يلزمني من مصاريف للدراسة، إذ لم يكن لي يومها من معيل - بعد الله- إلا ما أكسبه من كد يدي، ككثيرين غيري ممن حلّوا تلك الديار.

لقد جاء شراء المركبة على عجل، وكان رفيق الدرب جاهزاً بمركبة أخرى، اشتراها لنفسه، لا أخفيكم القول بأنني كنت أتوجس خيفة أن يطالني سوء، فهذه هي المرة الأولى التي أسافر فيها مثل هذا السفر الطويل براً، ونحن نَجِدُّ السير عائدين بالمركبة، أوكلت لصاحبي شراء بعض المستلزمات للرحلة، جلست داخل المركبة أتقي البرد في انتظار عودته، عاد بالأشياء، وعاد معها بخبر ألقاه عليّ دون اكتراث:

- يبدو أن مجموعة إرهابية نجحت في الوصول إلى العطار، وقامت بتصفيته في مدينة آخن Aachen الألمانية؟!

مع أنني وجدت نفسي غير معني بالخبر، فأنا رجل على غضاضتي قد قطعت أشواطاً بعيدة في تجنب الجري وراء مثل تلك الأخبار، وها أنا ذا قد ركنتُ إلى شيء من دعةِ حياة، لا أطمع أن يعكر عليّ من صفوها أحد، فإن في الحياة أشياء جميلة - هكذا كان يخيل لي مع كل حذري - هي مطلب أساسي للروح والنفس، بعد أن أعيتني الأيام في الجري وراء المستحيل، فأنا فتىً نشأتُ نشأةً لم أكن لأحظى فيها حظوة غيري من الفتيان، ماتت أمي في صدر شبابها على أعتاب العقد الثاني من عمرها، كانت غارقة في مرض روماتزم المفاصل، بالكاد أن تقف على قدميها، لا يروق ذلك - كما علمت لاحقاً - لوالدي رحمه الله، فهو يريدها أبداً قائمة بأمور البيت، وكم كان ذلك سبباً لنزاعاتٍ لا حصر لها، تنتهي بأمي إلى بيت أهلها أشهراً كثيرة،، ويمضي بنا أبي - أنا وأخي الذي يصغرني بعام - إلى بيوت أعمامنا، حيث صورة وجهها تضيع مني ومن أخي، في زحمة صور وجوه عماتي ونساء أعمامي، لطول عهدنا بهنَّ في مدينة إربد!! لا أدل على ذلك من مناداتنا لها - في آخر مرة عادت فيها من بيت أهلها بعد اجتماع شملنا - عوضاً عن أمي تارة بالعمة وأخرى بالخالة!! فتتمتم بكلمات لم أكن لأفهمها وهي تضمنا ثم تجهش في البكاء.

لا أدري كيف جاءها المخاض الذي امتد لليلة ويوم بطولهما، وكنت يومها ابن سنوات خمس لم أجاوزهن، أفهم ما يفهمه ابن الخمس، أرقب جدتي - رحمها الله - من خلف الستار تلج الحجرة عند غروب اليوم التالي برفقة القابلة، بعد أن أعيتها ومن معها الحيلة في إنجاز المهمة - كما كانت تفعل معظم الأسر - دون الحاجة إلى قابلة، ولعل عجز القابلة في فعل أي شيء، وأمام أنين أمي - رحمها الله - الذي أخذ في الانحسار شيئاً فشيئاً، حتى لأخاله اختفى، جاء القرار المتأخر في ضرورة نقلها إلى المستشفى، لم يطل مكثها هناك، لقد جاء الغروب بعد يومين، غروب حزين لا أنساه ما حييت! على قارعة الشارع الرئيسي الوحيد آنذاك في مدينة "المفرق" توقفت مركبة، هبط منها والدي وبعض أخوالي، وفي حزن شديد قد لف المكان، ووجوه الرجال المتحجرة، تنبئ عما وراءها من سر، كان في البيت مجموعة من النسوة في انتظار ورود الخبر، من بينهن خالتي الوحيدة، وإحدى عماتي، جرت خالتي نحو الرجال، انهار خالي الأوسط حين رآها، وألقى بالفاجعة مجتمعة في كلمتين:

- ماتت زُهرة!

ثم اختفى صوته، وراح يجهش في بكاء شديد، في الوقت الذي رأيت فيه خالتي تترنح، قد عقدت الصدمة لسانها، ثم هوت على الأرض في غيبوبة لا تحير معها أي حراك، سرى في المكان هرج ومرج، وعلى صوت البكاء والعويل، ودق الصدور ولطم الخدود، جاء الجيران والأقرباء من كل حدب وصوب، وامتلأ صحن الدار بالنساء والرجال كلهم بين نائح ونادب!

في هذا الجو الكئيب زجي جثمان أمي داخل الحجرة، بانتظار مراسيم الصلاة والدفن! أما أنا ويا ويح أنا من أنا! فقد أدركت المأساة مبكراً، لا أصدق بأن أمي ماتت، ولا أصدق بأنني لن أراها ثانية بعد اليوم؟! وأني لأرثي لذلك الطفل الصغير، الذي هو صورة مصغرة يومها عني أنا، وقد لذت في حجر جدتي لأمي أبكي، وبكلماتي البريئة أهيج من حولي من البواكي:

- من يغسل ملابسنا بعد اليوم؟! من يطبخ لنا؟! من يقوم بتحميمنا؟! أسئلة كثيرة رحت أرددها حين راحت جدتي - رحمها الله - من خلال سحائب دموعها تردد، وهي تضمني إلى صدرها: أنا.. أنا.. أنا سأفعل لكم كل ذلك!

ذقت طعم اليتم باكراً، وألفيت الطريق مملوءاً بالأشواك على مد البصر، ولم تكن الرعاية التامة لترافقني على الرغم من أنه لم يمض وقت طويل حتى تزوج والدي، وتأرجحت في معترك الحياة، ما بين جدتي التي سعت جاهدة للإبقاء عليّ أنا وأخي في حضانتها، وإصرار أبي الذي مضى بنا دون أن يلتفت إلى بكائها متوسلة إليه أن يبقينا معها تشتَم من خلالنا رائحة ابنتها التي عاجلتها أقدارها إلى غير رجعة!

لا أذكر - أقولها منصفاً - أن أي من أفراد أسرتي كانت له عليّ يد، أو سبق معروف في توجيهي إلى أي فج من فجاج الدين، فلقد نشأت في بيئة محافظة، تلبس فيها المرأة الحجاب لا لأنه شعيرة دينية يجب مراعاتها والتمسك بها، والتفاني من أجل الإبقاء عليها، بل كان العيب كل العيب في خروج المرأة كاسية حاسرة، ومع أنني عشت طفح صباي ملازماً للفقر، فإن ذلك لم يمنعني عن مجموعة من الأصدقاء في مراحل الدراسة الأولى من الأثرياء، مما كان له أكبر الأثر في تكويني الذي جعلني لسنوات طويلة بعد اغترابي أعيش ديمومة من العناء، بَرَّحَ بي وَنَاهَا، أنشد من خلالها الارتقاء إلى مصاف لدائني وشباب جيلي، حيث النعمة التي كانوا يتمرغون فيها، أرقبها وأنا أمصمص شفتي في أسى، أدرك من خلاله عجزي التام في أي مجاراة لهذا الواقع الأليم، وهذا حديث قد يطول مقامه لست الآن بصدد الخوض فيه.

في المساء الذي سبق يوم السفر أخذت أتصفح صحيفة صدى دارمشتات “Darmstädter Echo“، عثرت في زاوية من زواياها على الخبر، وكان مقتضباً، مفاده أن مجموعة إرهابية كانت تنوى تصفية العطار، فلما لم تعثر عليه في البيت مسرح الجريمة، اكتفت بقتل زوجته ولاذت بالفرار حال أي نذل جبان! لقد كانت قراءتي للخبر تلك جريمة لم تغفرها لي العصابة الحاكمة في دمشق، على مدار خمس سنوات دفعتها من أشواط عمري الأولى وزهرة شبابي!!

وأنا موغل في تدوين هذه الحكاية بكل جوانبها الاجتماعية والإنسانية، وقبل أن أتجاوزها إلى ما بعدها، تلمست قلب أبي - رحمه الله - هائماً فيما بعد، قد قطعوا عنه كل الأخبار، لا أنا مع الأموات فيناله أجر العزاء فيّ، ولا مع الأحياء فيكون له الاستعانة بالله والصبر الجميل، وأقف لأوازن بين أبي الذي لم يسعفه القدر في أخذ قسطه من العلم وملكة الكتابة، والشيخ علي الطنطاوي، فأثبت هنا للشيخ رحمه الله حديثاً، لعله يكون لسان حال كل الآباء والأمهات، في حديث يذكر فيه ابنته المغدورة أعلاه، بعد أربع سنوات على رحيلها يقول:

(إن كل أب يحب أولاده، لكن ما رأيت، لا والله ما رأيت من يحب بناته مثل حبي بناتي، ما صدقت إلى الآن وقد مر على استشهادها أربع سنوات، وأنا لا أصدق بعقلي الباطن أنها ماتت، إنني أغفل أحياناً فأظن إن رن جرس الهاتف، أنها ستعلمني على عادتها بأنها بخير لأطمئن عليها، تكلمني مستعجلة، ترصّ ألفاظها رصفاً، مستعجلة دائماً كأنها تحس أن الردى لن يبطئ عنها، وأن هذا المجرم، هذا النذل.. هذا.. يا أسفي، فاللغة العربية على سعتها تضيق باللفظ الذي يطلق على مثله، ذلك لأنها لغة قوم لا يفقدون الشرف حتى عند الإجرام، إن في اللغة العربية كلمات النذالة والخسة والدناءة، وأمثالها ولكن هذه كلها لا تصل في الهبوط إلى حيث نزل هذا الذي هدّد الجارة بالمسدس حتى طرقت عليها الباب لتطمئن فتفتح لها، ثم اقتحم عليها، على امرأة وحيدة في دارها فضربها ضرب الجبان، والجبان إذا ضرب أوجع، أطلق عليها خمس رصاصات، تلقتها في صدرها وفي وجهها، ما هربت حتى تقع في ظهرها، كأن فيها بقية من أعراق أجدادها الذين كانوا يقولون:

ولسنا على الأعقاب تدمى كلومنا

 

ولكن على أقدامنا نقطر الدما

ثم داس الـ.. لا أدري والله بم أصفه، إن قلت المجرم، فمن المجرمين من فيه بقية من مروءة تمنعه من أن يدوس بقدميه النجستين على التي قتلها ظلماً ليتوثق من موتها، ولكنه فعل ذلك كما أوصاه من بعث به لاغتيالها؟؟

داس عليها برجليه ليتأكد من نجاح مهمته، قطع الله يديه ورجليه، لا، بل أدعه وأدع من بعث به لله.. لعذابه.. لانتقامه.. ولعذاب الآخرة أشد من كل عذاب يخطر على قلوب البشر.. لقد كلمتها قبل الحادث بساعة واحدة، قلت: أين عصام؟ يقصد عصام العطار زوجها.

قالت: خبَّروه بأن المجرمين يريدون اغتياله وأبعدوه عن البيت.

قلت: وكيف تبقين وحدكِ؟

قالت: بابا لا تشغل بالك بي أنا بخير، ثق والله يا بابا أنني بخير، إن الباب لا يفتح إلا إن فتحته أنا، ولا أفتح إلا إن عرفت من الطارق وسمعت صوته، إن هنا تجهيزات كهربائية تضمن لي السلامة، والمسلِّم هو الله.

ما خطر على بالها أن هذا الوحش، هذا الشيطان سيهدد جارتها بمسدسه حتى تكلمها هي، فتطمئن، فتفتح لها الباب.

ومرّت الساعة.. فقرع جرس الهاتف.. وسمِعْتُ من يقول: كَلِّمْ وزارة الخارجية.

قلت: نعم.

فكلمني رجل أحسست أنه يتلعثم ويتردد، كأنه كُلِّف بما تعجز عن الإدلاء به بلغاء الرجال، بأن يخبرني.. كيف يخبرني؟ ثم قال: ما عندك أحد أكلمه؟

وكان عندي أخي. فكلّمه، وسمع ما يقول ورأيته قد ارتاع مما سمع، وحار ماذا يقول لي، وأحسست أن المكالمة من ألمانيا، فسألته: هل أصاب عصام شيئاً؟

قال: لا، ولكن..

قلت: ولكن ماذا؟

قال: بنان.

قلت: مالها؟

قال: وبسط يديه بسط اليائس الذي لم يبق في يده شيء..

وفهمت وأحسستُ كأن سكيناً قد غرس في قلبي، ولكني تجلدتُ وقلت هادئاً هدوءاً ظاهرياً، والنار تضطرم في صدري: حدِّثْني بالتفصيل بكل ما سمعت، فحدثني..

وثِقوا أني مهما أوتيت من طلاقة اللسان، ومن نفاذ البيان، لن أصف لكم ماذا فعل بي هذا الذي سمعت.. كنت أحسبني جَلْداً صبوراً، أَثْبُت للأحداث أو أواجه المصائب، فرأيت أني لست في شيء من الجلادة ولا من الصبر ولا من الثبات) انتهى حديثه.

هذا غيض من فيض كثير كُتب عن تلك الحقبة المزرية التي ما زالت تبعاتها تتوالى دون انقطاع، حيث ارتهنت الأمة بمقدراتها مجتمعة للخبثاء من الغرباء دون ادخار أبيض لأسود، وليته كان أسوداً لكُنا اكتفينا واحتسبنا، لكنه جاء أسودَ سواد القير الموغل في الدكنة المطلية بالعتمة ملأت بطن الأودية والروابي وقمم الجبال، فأنّت رهن الاحتباس على أفضل الأحوال، لا تسمع ولا تبصر ولا يسمح لك بالنطق فتنطق.. أوضاع ليس لها من دون الله كاشف!

كنت أرقب مدينة "دارمشتات" من خلال مرآة المركبة - وهي تطوي بي الأرض - تبتعد من خلفي، وفي مسمعي صدى لحديث جرى بيني وبين أحد الأصدقاء:

- لا حاجة لك أن تسافر إلى سوريا، فهناك يعتقلون على الشبهة، لا تنسَ تردي العلاقات بينها وبين الأردن.. ابحث عن أي مورد رزق آخر..

ظلت هذه الكلمات تلاحقني كتوارد خواطر مخيفة مرعبة على امتداد الطريق المترامي على مد البصر، مع أنه لم تواجهنا أية مشكلة حقيقية تُذكر، ولم يطل مكثنا عند الحدود النمساوية، ولم نخضع لأي نوع من أنواع التفتيش، إلا أنني كنت خائفا لا أنكر ذلك!   

في "جراس" المدينة الجامعية النمساوية قضينا أولى ليالي السفر، وعند المساء طفنا أرجاء المدينة، شاهدت في طريق سيرنا أرتالاً من بائعات الهوى تملأ حياد المكان فسقاً وفحشاً، وصحت من أعماقي في قرف يبعث على التقزز:

- متي تطهر الأرض من خبث هذا الصنف من البشر، تجار هذا الصنف من الرقيق.. متى؟!

صبيحة اليوم التالي تركنا لعرباتنا العنان، وما هي إلا ساعات حتى استقبلتنا الحدود اليوغسلافية، بالكاد أن تنجو هناك من طمع رجال الجمارك وجشعهم، ففي المركبة التي كان يستقلها رفيق دربي عثروا على بعض قطع غيار السيارات، كادوا أن يعطلوا بسببها رحلتنا، تنازل عنها لهم غير نادم! المهم أن تنجو!

وأنت تجتاز في "يوغسلافيا" تلك الروابي والسهول الممتدة، تكاد تأخذك الحسرة ويعتصرك الألم.. هنا كانت للمسلمين يوماً مرابط خيول ومواطن أقدام!

ما زال الطريق يشق بتعرجاته تلك الروابي والسهول داخل جمهورية بلغاريا، وما زالت تلك السراويل السوداء والطرابيش الحمراء تشدك إلى ماض قريب، كان للمسلمين فيه رجال عشقوا الموت فوهبت لهم الحياة!

وهنا لا بد وأنا بصدد الحديث عن هذا الموضوع، أن أذكر للتاريخ في بضع كلمات فداحة المأساة التي كان مسلمو بلغاريا يتعرضون لها، فلقد كانوا يجبرون على التخلي عن امتداد ماضيهم، متمثلاً ذلك في استبدال أسمائهم وأزيائهم الموروثة بأخرى ثورية تقتلعهم من جذورهم الإسلامية، وإلا طالتهم أقسى العقوبات، كان من تبعات هذا القرار، نزوح مئات العوائل عن ديارهم وموارد أرزاقهم إلى تركيا المجاورة، فراراً بأنفسهم ودينهم تحت سمع وبصر كل دنيا لجان الحضارة وحقوق الإنسان، دون أي اعتراض أو احتجاج!!

استقبلتنا الحدود التركية بطوابير طويلة من صفوف السيارات الممتدة حتى الحدود البلغارية، مئات المركبات، وأكوام من البشر يقفون في العراء، بانتظار أن يتكرم عليهم أحد الموظفين في إنهاء أذونات دخولهم إلى البلاد، وما زادني عجباً وتهكماً فوق عجبي وتهكمي على ما أرى، يقيني بأن الانقلاب العسكري - الذي جاء قبل أيام قليلة- جاء بزعم القائمين عليه للقضاء على هذه المظاهر الفاسدة، وإعادة البلاد إلى نبع العلمانية الأتاتوركية التغريبية الأولى، وهذه هي الضمانة الوحيدة لدولة العسكر في جز الأمة من امتداداتها الإسلامية!

لقد بدا موظفو الحدود وكأنهم ممسكون بزمام الأمور، بدا ذلك من خلال أكواب الشاي ولفائف السندوتشات، يتناولونها أثناء الدوام الرسمي، أمام أعين الجموع الغفيرة من البشر المترجية المتمنية أن تنتهي من يوم الحشر هذا..

بعد ما زاد عن ست ساعات من الانتظار، ونحن في زحف بطيء وصلنا أخيراً إلى نقطة الحدود، وانتظرنا بفارغ الصبر قدوم رجل الجمارك، لكن انتظارنا كان ضرباً من العبث.. ثم خطرت لي فكرة أبرزت من خلال جواز سفري طرف قطعة نقد ورقية تركية من فئة المائة ليرة، ثم رحت ألوح بالجواز في الفضاء الممتد بيني وبين أقرب موظف جمارك، ما إن أبصر النقود حتى اختطف وثائقي وراح ينهي المعاملة، ولما تبين أنها مئة ليرة لا تزيد خاب ظنه، أعادها لي مشفوعة بسيل من الشتائم التي لم أفهمها في ثورة غضب عارمة، استعدتها أمام عشرات العيون التي كانت ترقبنا!

في "إدرنة" أولى كبريات المدن التركية على الطرف الأوروبى، وفي أحد فنادقها رديئة الخدمة، أغريت الحارس الليلي في البقاء بجانب السيارات حتى الصباح، في مقابل علبة من التبغ أخذها مقدماً، على أن يأخذ أخرى في الصباح قبل أن نغادر، إن كان كل شيء على ما يرام، فالفقر والجوع علامات مقروءة على كل الوجوه هنا، والمقاهي تضج بالناس على اختلاف مشاربهم، لا سيما العاطلين منهم عن العمل، وهم كثر، وحين سالت أحدهم عن سبب مكوثه الطويل في المقهى للمقامرة ولعب الورق؟! أجابني وهو يهز رأسه في أسىً وحسرة باديتين في لهجة تدل على أصول عراقية كردية:

- يا معود (عزيزي) أكو (هناك) جهال (أطفال) أريد أجيب إلهم لقمة العيش، هَمْ (ها نحن) نلعب نتسلى، وهَمْ نكسب!

لم يكن بالإمكان تضييع المزيد من الوقت في "إدرنة"، فقد غادرناها ضحى اليوم التالي بعد أن أعطيت الحارس الليلي علبة السجائر كما وعدته!

في "أنقرة" العاصمة التركية، بقيت أياماً في ضيافة بعض معارفي من الطلبة الذين يدرسون في جامعتها الأمريكية، وما شاهدته فيها من المفاسد غني عن الذكر، هذا لم يمنع في المقابل من مشاهداتي لكثير من الأصالات الخالدة الباقية، دلت بشكل أو آخر على أن هذا الشعب الأصيل المغلوب على أمره - كبقية شعوب هذا الشرق البائس- قادم إلى الدنيا ثانية مع غبش الفجر.

واصلنا السفر إلى أنطاكية، في إحدى محطات البنزين على يمين الطريق الرئيسي تناولنا كوبين من الشاي، وحين هممنا بالانصراف اقترب مني رجل ملتحٍ في الخمسين من عمره، تصطحبه زوجته الغارقة في جلبابها، وأطفالهم الثلاثة، وفي أدب جم، والابتسامة تعلو محياه سأل إن كان في الإمكان أن أحملهم معي إلى مدينة "قونيا"، لم أكن اعلم أين تقع! أفهمته أنني في الطريق إلى أنطاكية، ابتسم وسألني الصحبة حتى مفرق طريق يقربه من مقصدهّ؟ أومأت له بالموافقة.

أخذ مكانه بجانبي، فيما اندفع الصغار مع أمهم لاعتلاء المقعد الخلفي، لم يتوقف على امتداد الطريق من إبداء حماسه للإسلام، وأمنيته أن يختم الله له بالشهادة في القدس على ثرى فلسطين!

على مفرق "قونيا- إنطاكيا" هبط مع أفراد أسرته مصحوباً بالسلامة، فيما رحت اختلس إليهم النظرات من خلال مرآة السيارة حتى التهمهم الأفق البعيد فلم تعد عيني تقع لهم على أي أثر.

وصلنا في وقت متأخر من الليل إلى الحدود، وهناك في "باب الهوى" نقطة التقاء الحدود تعرضنا لعملية تفتيش دقيق، لم يكن بحوزتنا ما يبعث على القلق، فملابسي لم تتجاوز غياراً أو غيارين، ولمدة غياب لن تزيد عن أيام ثلاثة.

ابتلعت ريقي وأنا أقدم جواز سفري، في الوقت الذي راح ضابط الجمارك ينقل نظراته بيني وبين صفحات الجواز، لم يلبث أن مهر الجواز بختم تأشيرة الدخول، ومن خلال كوة في الواجهة الزجاجية دفعه لي، تنفست الصعداء وأنا أجتاز البوابة، وفي الجمارك حصلت على سمة دخول للسيارة لم تزد مدتها عن خمسة عشر يوماً.

حمدت الله في الظلام على حسن الختام، وأنا أطوي الأرض إلى حلب وجهتي الأولى، وعلى المدخل الشمالي للمدينة استوقفتنا دورية للمخابرات مدججة بالسلاح، أحاطوا بنا وراحوا يدققون أوراقنا الثبوتية، وأعادوا تفتيش المركبتين، بالكاد أذنوا لنا أن نواصل إلى حلب، كانوا يصرون أن نمضي إلى دمشق! الوقت ليل ونحن مجهدون، نحتاج لقسط من الراحة قبل أن نواصل، وهذا ما شفع لنا عندهم.

بدت حلب كالنائمة الخائفة، أو المهجورة، فالطرقات خالية إلا من بعض المارة الذين ألجأتهم الحاجة القصوى للخروج في هذا الوقت الموبوء بالخوف والحذر، والمحلات التجارية قد أغلقت أبوابها على غير عادة، فحلب كما أعرفها مدينة لا تعرف النوم.

رحنا نفتش عن مطعم، وبعد جهد جهيد عثرنا عليه، وكان أقرب منه إلى الحانة منه إلى المطعم، ما أن دلفنا حتى عبقت أنوفنا بروائح الخمر، تنبعث من أرتال السكارى الذين راحوا يترنحون! هؤلاء الوحيدون الذين بإمكانهم أن يواصلوا الليل في ظل دولة القهر والعهر! دولة الأفخاذ الجبلية المنصوبة‍! أما الشرفاء فقد التهمتهم السيارات السوداء.. القادمة مع غبش الظلام.. والسرايا المختلفة.. ومظاهر التسلح التي ما فتأت تزرع الرعب في كل مكان!

تناولنا العشاء على عجل، حاولنا الاتصال بأحد المعارف، رد والده على الطرف الآخر من الهاتف معلناً صعوبة حضور ابنه في هذا الوقت المتأخر من الليل، تركنا له اسم الفندق ورقم الهاتف على أن يلحق بنا ابنه في اليوم التالي باكراً قبل أن نتابع إلى دمشق، وفي الفندق تهالكنا على الأسرة في إعياء شديد ثم رحنا نغط في نوم عميق!

بكرنا في اليوم التالي إلى إحدى المقاهي، تناولنا بعض الحلوى واحتسينا كوبين من القهوة، وقرابة العاشرة حضر صاحبنا، اصطحبنا معه إلى بيته، وأقنعنا بالبقاء سحابة يوم الجمعة في ضيافته، فهو يوم عطلة رسمية ولن يكون بمقدورنا مزاولة أو إنجاز أي عمل، كانت زوجته تقوم بإعداد وجبة الغداء في الوقت الذي راح يطوف بنا على معالم المدينة، كان الخوف بادٍ على وجوه الناس في كل شارع وزقاق، وفجأة صاح صاحبنا في ذهول:

- يا الهي نسيت اصطحاب بطاقتي الشخصية!

حاولنا أن نهدئ من روعه، وأخبرناه بأننا نحمل جميع أوراقنا الثبوتية، وأنها تجزيء في التعريف بنا جميعاً، كاد أن يبكى وهو يردد:

- هل تعلمون ما يعني عدم عثوري على البطاقة؟!

وتابع في هلع يشبه الانهيار: هذا يعني أن زبانية النظام سيقودونني كالشاة عند أول حاجز عسكري، إلى المجزرة، البطاقة هنا هي طوق النجاة، هي عصب الحياة وإكسيرها!

لقد عشت ومررت بدول شرقية وغربية، لا أذكر يوماً أنني احتجت فيها لإبراز بطاقة، باستثناء معابر الحدود.. فأي دولة تلك التي لا يأمن مواطنوها بوائق عسكرها ومخابراتها، ويشاء الله أن يعثر المسكين على البطاقة، كي يعثر على ذاته التي بعثرها الخوف والهلع..

خلفنا حلب ترزح في أغلالها، تعج بالعسكر والدوريات المترصدة المتصيدة، غادرناها في صبيحة اليوم التالي على عجل، وبين حلب وحماة استوقفتنا حواجز كثيرة، كانت حماة تعج بالحركة، وبدا الناس كأنهم على برميل من بارود عما قليل سينفجر، تقرأ ذلك في الوجوه، وبدا العاصي ذلك النهر الخالد خلود المدينة، لسان حاله يحدثك عن تتار وبرابرة وطغاة كثر مروا به، انحسروا انحسار الملح في الماء وبقي جارياً يردد ترانيم الانطلاق والحرية.. وأنا أجتاز الطريق الذي يقسم المدينة إلى شطرين، بعد أن استوقفني أحد رجال الشرطة راجياً أن أحمله معي إلى دمشق، كنت حذراً في التحدث إليه أثناء الرحلة، مع أنه لم يتوقف عن الكلام، خاض في كل شيء، تكلم بمرارة عن سوء الأوضاع وعن الغلاء والراتب الذي لا يكفى لأسبوعين، وكيف أنه يتوق إلى ذلك اليوم الذي يصبح فيه خلف الحدود كي يتحسس آدميته المهدورة صبيحة كل رتل عسكري ينتظم فيه! و..

أمام كل حواجز ميليشيات الدولة العنصرية، كان عليه أن يبرز أوراقه الثبوتية، وكانوا يسألونني في كل مرة عن سبب اصطحابي له معي؟!

لم تكن دمشق أقل سوءاً من حلب، وصلتها بُعيد العصر، وفي بيت من بيوت الشيخ ركن الدين بمنطقة الأكراد نزلنا ضيوفاً، في المساء أردنا أن نمر بأسواق المدينة، فنصحتنا سيدة الدار ألا نفعل، وإن كان لا بدَ فعلى أن نبكر في العودة، وفي أسى قالت: - صدقني يا بنيّ، لقد ألقوا القبض على جارة لنا لأنها شتمت الغلاء علانيةً وشتمت من كان السبب في رفع قيمة السلع، والمواد الأساسية، في أحد المحلات التجارية! مضى على غيابها بسبب هذه الكلمات ما يزيد على ثلاثة أشهر!

بدا العجوز صاحب البيت الذي جاوز السبعين من عمره وهو يعتلي سريره، معتمراً غطاء رأس مستدير في وقار لا تعهده إلا نادراً في كثير من الناس، بدا حانقاً من هذه الأوضاع التي لا تبعث على الطمأنينة، أدار المذياع في حذر شديد، وراح يستمع إلى الأخبار من عمّان، فهي محطة الأشراف الوحيدة التي يثق بها من بين كل محطات العالم حسب زعمه! والمحطة الوحيدة التي تقوم بتعرية النظام الطائفي العنصري، وفضح جرائمه على رؤوس الأشهاد..!!

أمضيت أياماً ثلاثة في دمشق، وقفت فيها على أسواق بائرة كاسدة، وتراجع عجيب غريب في قيمة الليرة السورية أمام العملات المتداولة الأخرى، فالفقر يلف البلد، والاقتصاد في الحضيض، والفئة الحاكمة متخمة من كثرة النهب والسطو الذي يتم بلا رقيب أو حسيب، والعاصمة تخالها قد تحولت إلى ثكنة عسكرية، فأينما يممت وجهك لا ترى إلا العسكر، ومليشيات المخابرات والسرايا والقرايا كما يقولون!!

أمام أحد أكشاك بيع الصحف، شاهدت اثنين من المخبرين بلباسهما المدني، يقتادون شاباً في العقد الثاني من عمره، ووالده قد خرج من داخل الكشك يجرى في إثرهم وهو يصيح مشدوها من هول ما يرى:

-        إلى أين تمضون به؟!

وتأتى الإجابة دون أن يلتفتوا:

- خمس دقائق سؤال ويعود!!

بقيت فيما تلي من أيام أحابي الزمن كي أعثر على إجابة عن سر الدقائق الخمس تلك، حتى قيلت لي، فارتعدت لها فرائصي، انكويت جرّاءها حتى اكتفيت، وعانيت من الظلم إلى أن أتخمت.

 يصعب علىّ التكهن في الجهة التي أخذوا المسكين إليها، وإن كنت أتمنى له السلامة، إلا أن شعار هؤلاء الطغاة الذي خبرته في مقبلات أيامي، كان ولا يزال، أن الداخل عندهم مفقود، والخارج إن كُتب له الخروج، فهو ولد مولود!!

بعت السيارة في اليوم الثالث من قدومي، وقمت بإسقاط الملكية، والتنازل للمالك الجديد داخل السفارة الألمانية بدمشق، وقيل لي بأن الثمن الذي قبضته كان بخساً، ولم أندم، لأنني كنت على عجل، ولم أنس أن أصطحب معي في طريق العودة، مجموعة من الألبسة الشرقية، وطبل اشترط عليّ بعض الزملاء أن يكون من جلد السمك الخالص، بالإضافة إلى عباءة، وغادرت قافلاً إلى ألمانيا بسلام.

عود على بدء

ثانية إلى دمشق

مضت أيام قليلة على عودتي من سوريا، وفتحت الجامعة أبوابها، وجاءت الأيام رتيبة لا جديد فيها، وبدا الفصل الدراسي مثقلاً بالمواد، وكان علينا أن نقوم بثلاثة رحلات علمية لمادة "الجيولوجيا"، وقبل أن نقوم بالرحلة الثالثة بأيام، جاءني بعض الأصدقاء، أقنعوني بأن أعيد الكرَة ثانية، والسيارة مرسيدس SEL280 كاملة التوابع والتجهيزات، من صنع نفس العام الذي ما زلنا نمخر عبابه. وعدّتهم أن أدرس الموضوع، على أن أرد عليهم في اليوم التالي.

عكفت على ترتيب حجرتي التي انتقلت إليها للتو في المدينة الجامعية، وكنت من حين لآخر أتوقف لاستقبال بعض القاطنين في نفس الدور من الجيران الذين كانوا يفدون للتعرف.

في المساء خلوت بنفسي لبعض الوقت، ما لبثت بعدها أن أخذت قراري بالسفر، على أن يكون يوم 13/5/1981 هو يوم الانطلاق، وعلى ألا تتجاوز الرحلة أسبوعاً من الزمن، وبذلك أضمن العودة قبل موعد الرحلة العلمية الثالثة، قصارى القول انطلقت برفقة زميل رحلتي في المرة السابقة والذي وُفِّقَ في شراء سيارة مشابهة.

استهليت وصولي إلى مدينة "جراس" النمساوية بمهاتفة أحد الزملاء، كنت قد ائتمنته على حجرتي التي لم أكمل فيها تثبيت الأرفف، رجوته أن ينجز ذلك إن أمكن، وأن يقوم بفرش قطعة السجاد. وجاءني صوته وكأنه من أعماق التاريخ:

- صارت الحجرة جاهزة، لن تستطيع التعرف إليها متى رأيتها!!

هكذا جاءت العبارة.. لن تستطيع التعرف إليها.. ومن كان يدري، فلعلني فيما يلي من الأيام لن أعود إليها على الإطلاق! من كان يدري؟

بدأت الأجواء الشرقية في التلألؤ وأنا أجتاز الحدود اليوغسلافية، كنا بصدد البحث عن محطة بنزين، في المحطة التي عثرنا عليها استوقفتنا الشرطة، ومضوا بأوراقنا الثبوتية يطوون الطريق إلى خارج العمران، ونحن في أثرهم، حتى إذا ما خلا المكان ألا منا ومنهما، وكانا اثنين، توقفت سيارتهما، وهبط أحدهما وبقي الآخر منكباً على أوراق بين يديه، لكأنه يعكف على تحرير محضر ضبط باسمينا!!

حين أقبل الذي هبط باتجاهنا سأل عن حرف "D"، كان عادة ما يلصق على مؤخرة السيارات الألمانية، وأوهمنا بلغة ألمانية ركيكة كان يتحدث بها، أن موعدنا غداً في المحكمة بسبب هذه المخالفة!

لم نكن بحاجة إلى مزيد من النقاش، فقد اختصر المسافة بيننا وبينه حين سأل فجأة:

- كم ستدفعون؟! فكروا جيداً وإلا فالمحكمة غداً في "ماربورو"!

لم نكن ندرى أين هي "ماربورو" تلك التي يخيفنا بمحكمتها.. ونحن غرباء..

همست موجهاً القول لصاحبي:

- ندفع. ثم التفت إلى الشرطي متسائلاً:

- كم تريد؟

في لهجة من ظفر وقد لمعت عيناه:

- أنتم تحددون!

تقاسمنا ما نملك من مبلغ زهيد كان بحوزتنا من النقود اليوغسلافية معهم.

- المبلغ جدُّ قليل!

أخرجنا عشرة ماركات، وفي لمح البصر صارت بين يديه.

- هذه لي وماذا لزميلي؟

دون أن نتشاور:

- عشرة أخرى!

وهو يأخذها، سأل بلغة رديئة:

- هل تحملون ساعات؟

ظننته يسأل عن الوقت. فأجبته مستغرباً، فقد كان يحمل في معصمه ساعة!

أعاد السؤال ثانية وحين فهمنا ما يريد أجبناه بالنفي.

تركنا يوغسلافيا خلفنا، تغط في نيران تطهير عرقي، نبصره تحت الرماد عما قليل سيشتد أواره، كي يأكل الأخضر واليابس، ومضينا لا نلوي إلى بلغاريا.

في مدينة "بلفديف" البلغارية توقفنا أمام أحد المحلات التجارية، اشترينا منه بعض الأطعمة، ثم جلسنا داخل مركباتنا، ورحنا نجتهد عبثاً كى نركن إلى شيء من الراحة، غير أن شدة البرد ألجأتنا إلى أحد الفنادق الخاصة بالسياح!

كان المظهر الخارجي للفندق ينبئ عن رقي وفخامة، أما الداخل..

رحت طوال الليل أتقلب قد جفى النوم عيوني، ولم يسعفني ما بي من تعب وإجهاد على إغماض طرفي، فصرير السرير المتأرجح من تحتي استمر في إرسال أنغامه الناشزة دون توقف عند كل حركة حتى الصباح.

عند انبلاج الفجر رحنا نبحث عن الحمام والماء لساخن، وليتني استمريت في البحث، فأمامي رحلة بيات شتوي سوف يتعذر عليّ الوصول فيها إلى الماء أشهراً وأياماً كثيرة، كما سيلحق فيما يلي من هذه الفصول!!

كانت تباشير صيف عاصمة الخلافة العثمانية حارة، مع أننا كنا في شهر مايو أيار، وبدت مدينة الألف مئذنة ومنارة، لكأنها عروس تتزين لليلة زفافها، كانت ليلة جميلة تلك التي قضيناها هناك، حيث غادرناها مبكرين على عجل مصطحبين معنا شاباً أرمنيا كان يأمل اللحاق بأهله في الاتحاد السوفيتي عن طريق سوريا، لتعذر حصوله على تأشيرة سفر في تركيا.

ودخلت في خصومة مع رفيق رحلتي، هو يريد التأني وأنا كالبارود أريد أن ننطلق دون توقف، سيما وقد صادف وصولنا إلى اسطنبول انفجار أصاب ليلتها "مكتب الطيران الإسرائيلي" وسط المدينة، أمام إصراري غادرنا، كنت على عجل، هكذا نحن دوماً نجري إلى أقدارنا المكتوبة بأرجلنا!

جاوزت الساعة منتصف الليل ونحن الثلاثة منكبون عند آخر رجل شرطة تركي يجلس في آخر نقطة تركية عند الحدود السورية، وقد بدا عنيداً وحيداً، لديه من الوقت ما يكفى للمناورة في ابتزاز الشاب الأرمني مبلغاً من المال، في مقابل السماح له بالمغادرة، مصطحباً معه ما يملك من نقود! ومما أذكره من حديث رجل الشرطة، قوله:

- أن هذا المبلغ الذي هو في طريقه إلى خارج البلاد يشكل خطراً حقيقياً على اقتصاد الدولة، لذا يجب مصادرة المبلغ بالكامل!

أسقط في يد الشاب المسكين، وراح يتوسل، ورحنا نلح بدورنا على رجل الأمن هذا، أن يغض الطرف ويأذن له بالعبور، لكنه هدد بلغة عربية رديئة باتت أقرب منها إلى العبث:

- أنتو روحوا...وهذا بيظل ( يبقى ) هون؟!

تدخلنا ثانيةً وأبدينا شيئاً من اللين للتفاهم، ووعدناه على المكشوف بمبلغ من المال رآه زهيداً!

تركنا صاحب العلاقة يتولى المساومة معه بالتركية، فهي لغة يجيدها الطرفان لا نفهمها، وتم أخيراً الاتفاق، لكنه جاء مخيباً لكل أمل، فقد اتفقا على اقتسام المبلغ!

عقد الاتفاق لساني عندما فهمت، ثم رحت أضرب كفا بكف، وأنا أنظر إلى الشاب، وهو يعد الدراهم على ذلك الحريص جداً على اقتصاد الأمة، فهو معاذ الله بنواياه الحسنة لا ينوي نهب أي شيء، هو سيردها إلى خزينة الدولة، بدليل إيصال القبض الذي لم يقم بتسليمه لصاحب العلاقة البائس!

خمس دقائق

نقطة التفتيش عند الحدود السورية خاوية على عروشها، فكل شيء ساكن هنا سكون المقابر، باستثناء عواء بعض الكلاب الضالة بين الفينة والفينة، فالانقلاب العسكري الوليد، والذي قاده الجنرال التركي العلماني "كنعان افرين" قائد الجيش آنذاك على حكومة الائتلاف المنتخبة، والتي كان يقودها أجاويد زعيم حزب الشعب، ونائبه الإسلامي "نجم الدين أربكان" زعيم حزب الرفاه، أعلن الأحكام العرفية في تركيا، بالإضافة إلى منع التجوال بعد الثانية عشر ليلاً، بذلك الانقلاب أراحوا الطرف المقابل من استقبال وافدين جدد، حيث الحدود قد أغلقت أبوابها، وأوصدت نوافذ تخليص أوراق المسافرين.

ترجلنا في نقطة الحدود بـ"باب الهوى"، تابعنا السير على الأقدام لمسافات طويلة داخل الحدود علنا نعثر على موظف ينهي لنا معاملات الدخول، ولما لم نصادف أحداً قفلنا أدراجنا إلى مركباتنا، حيث قضينا بداخلها بقية ليلتنا، ولم نعدم شيئاً من برد الليل الذي كنت أحسه يخترق العظم مني، ومع ذلك لا أدري كيف سرقني النوم فنمت، ومع اشتداد حرارة الشمس التي راحت تخترق زجاج السيارة بأشعتها الذهبية أطل علينا يوم حزين!!

سرت في المنطقة حركة بطيئة خاملة، وتقدم مني أحد رجال الشرطة هو أول من تقابله هنا، قام بتفتيش السيارة على عجل، ثم استأذنني في استخدام المذياع لسماع نشرة الأخبار، وسألته عن دورة مياه؟! قادني إليها وعاد لمتابعة بقية الأخبار، انتهيت ورجعت كي أهيئ نفسي للحصول على إذن دخول البلاد المنكوبة، سوريا الصمود والممانعة والتصدي!!!!

تركت الرجل يتابع نشرة الأخبار، ويممت وجهي شطر الخدمات الخاصة بإنهاء المعاملات، وأمام شباك خاص بـ"الأشقاء العرب"! سلمت جواز سفري ووقفت أنتظر إنهاء المعاملة.

شعور غريب هذا الذي يصاحبك وأنت واقف أمام شباك من شبابيك تدقيق أوراقك الثبوتية في عالمنا العربي! يسري فيك تيار الخوف عند كل التفاتة شرطي، وتبتلع ريقك بصعوبة عند كل سؤال، فأنت أبداً في وضع المتهم حتى تثبت الإدانة عفواً البراءة! ولا أدري كيف قفز إلى خاطري أن ليتني ما حضرت، وتمنيت لو أنني على الأقل سلكت طريق الساحل حيث مدينة "كَسَب"، وجرى في ذهني شريط سريع وأنا على مفرق الطرق، أحدهما يمضى بنا إلى مدينة "كَسَب"، والآخر إلى "باب الهوى" حيث القدر المتربص هناك، وقفت، ووقف صحبي معي طويلاً، أي الطريقين نسلك؟ فقد انعدمت أي إشارة مرور تدلنا على الطريق الصحيح الموصل إلى "كَسَب"، ورحنا نتخبط خبط الأعشى فارقه دليله، هائمين على وجوهنا، وفي مسمعي حديث أدلى لي به أحد المسافرين:

- خذوا حذركم جيداً، ففي "باب الهوى" دورية لمخابرات محافظة إدلب العسكرية، تعتقل الناس دون تمييز، سيما الأردنيين منهم!

ولما استيأسنا من العثور على من يدلنا في هذا الوقت المتأخر على الطريق، وصار الوصول إلى نقطة الحدود هو الأجدر أن نفكر به، عندها جاء قرارنا أن نواصل إلى باب الهوى.

انتبهت من شرودي هذا على ضابط الجمارك يقترب مني في يده جواز سفري، تعلو شفتاه ابتسامة لا أنساها ما حييت، ولو كانت لي ريشة رسام ما أخطأت تصويرها ما امتد بي العمر وتراخى بي الزمن! وعلى غير العادة ناداني:

- سيد سليمان أبو الخير!

ولم ينتظر أن أجيب، تابع قائلاً:

- تفضل معي.

و كما لو أنه يبتلع ريقه، أردف قائلاً:

- (خمس دقائق)!

انتابني دوار، ولا أدري كيف قفزت صورة الشاب إلى مخيلتي، ذلك الشاب الذي اقتادوه من أمام كشك بيع الصحف في دمشق، وأبوه يجري في إثرهم، يسأل كالمشدوه:

- إلى أين تمضون به، إلى أين؟!

وتأتيه الإجابة في صفاقة:

- خمس دقائق فقط..

 لا أدرى كيف قفزت تلك الصورة إلى السطح، وجاءني صوت الضابط من خلال ذهولي وشرودي:

- تفضل معي، من المؤكد أنك لم تتناول طعام الإفطار بعد، وأنا أفهم ماذا يعني كوباً من الشاي في مثل هذا الوقت المبكر من النهار.. جميل أن يدعوك أحد في هذا الوقت..؟؟

كان يتحدث بهدوء ما يسبق العاصفة، وكانت لهجته تنبئ عن أصله، فقد كان علوياً صرفاً، وحين اقترب مني رفيق رحلتي يسأل عن سبب جلوسي هنا؟ أجبته باللغة الألمانية وقد بدأت أتلمس الكلمات في صعوبة متناهية، قد امتقع لوني وكساني شحوب البؤس الذي عما قليل سألجه:

- أعتقد إنهم يعتقلونني! إذا ما وصلت دمشق سالماً، أرجو أن تفعل شيئاً من أجلي، ولا تنسى أن تبلغ أهلي بذلك؟!

بفطرة شرقية، وبنظرة غير المصدق سأل:

- ولم كل ذلك؟!

لم أجب، لأنني حتى يومي هذا لا أعلم سبباً قاطعاً لكل ذلك الذي حصل، غير أنني أشرت له على عجل بضرورة الابتعاد!

كان ضابط الشرطة ذاك مربوع القامة، يتربع فوق شفته العليا شارب مسبسب، وفي جسمه سمنة زائدة لا تخطئها العين اكتسبها من رزق حلال! وقد سرت في وجنتيه حمرة واضحة دلت على أنه هجين من بقايا الأوروبيين!

كانت اللحظات عصيبة تلك التي لحقت، تذكرت فيها أحاديث صاحبي الذي خلفته هناك وراء الآلاف من الكيلومترات:

- إياك أن تسافر! فالبلد تحكمه عصابة، وهو غير آمن، أطعني لا تسافر.. إنهم يعتقلون الناس على الشبهات!!

فأكاد أرثي لحالي وقد فاتت الفرصة، ثم أجتهد في إقناع نفسي قائلاً:

- أنا أحمل التبعية الأردنية، ولا علاقة لهم بي، وأنا أعْرَفُ الناس بنفسي، فلا طيف لي أو أي لون سياسي!! فلمَ الخوف والوجل؟؟

ما كان كل ذلك ليبعث الطمأنينة في نفسي التالفة، وما كان ذلك ليشفع لي- في مقبلات أيامي التي ترادفت في ذلك البلد المخطوف- عند أي كان ممن ترادفوا على امتهان كرامتنا حتى النخاع، وذلك ما ستلمسه أو ستلمس بعضه عزيزي القارئ فيما سيلي من الصفحات!

حضر سائق سيارة أجرة على عجل مشتملاً بلثام، دار بينه وبين الضابط حديث لا أذكر منه غير جملة "زبون جديد!!"، لعلني كنت أنا المقصود، غادر السائق لبعض الوقت، وبقيت مع رجل الشرطة يعللني بالصبر حيناً وبالسؤال عن دراستي وتجارة السيارات أحياناً، إلى أن عاد سائق سيارة الأجرة مصطحباً معه مجموعة من المسلحين، كانت ملابسه الرثة لا تنبئ عن كونه من رجال المخابرات، لكنه قد يكون نوع من أنواع التمويه التي يمارسها أراذل الناس من المخبرين، وقد سرت فيه همة رجال العصابات وهو يقوم بمساعدة المسلحين الذين انكبوا عليّ، فقيدوني، ثم اقتادوني بأعقاب البنادق إلى داخل سيارة الأجرة.

كنت مشحون الصدر، وفي رأسي همّ الذي تقطعت به كل أسباب النجاة، وما عاد لي من حيلة أدفع بها هذا الظلم الغاشم الذي هدّ أركاني من غير ما سبب، وفي المقعد الخلفي جلس عن يميني أحد المسلحين، وعن يساري آخر.. ومضت السيارة تطوي بنا الطريق في صمت شديد أسكنني مزيداً من الرهبة والخوف، ولم يمضِ وقت طويل حتى توقفت السيارة، والتهمنا مبنى منعزل على الحدود، لم يتجاوز اثاثه مقعدا و منضدة.. وهناك دفعوني إلى داخل حجرة خالية كانت ملحقة بالمبنى! ولم ينسوا أن يدنسوا مساحة المكان بتعليق صورة صاحب كل نياشين الانتصارات الكرتونية في التشرينين والجولانين، فرعون صغير من فراعنة هذا العصر المقصوص، صورة الوافد من قرية القرداحة!!

جردوني من كل أوراقي وممتلكاتي، سلبوا حتى النقود، وأي شيء يسلبون إن لم يسلبوا النقود، لقد سلبوا كل شيء.. وكيف لا يكون ذلك؟ فهم الأبطال الذين شهدت لهم ساحات الوغى في تحرير حلب وحماة وحمص ودمشق، ومدنٍ سورية كثيرة أخرى من أهلها العزل.. أما لبنان فالباع فيه طويل وكل شيء هناك مستباح..

بعد أن جردوني من كل شيء، أودعوني غرفة حقيرة قذرة، فيها نافذة صغيرة عالية يطل منها بصيص من نور ضئيل، كانت الحجرة جرداء لا أثاث فيها، سوى مغسلة تبعث على الاشمئزاز في النفس، شعرت بالغثيان وهم يدفعونني إلى داخلها، وكان عرقي يتصبب، وندبت نفسي في حبائل قدري العاثر، فتهالكت على الأرض افترشتها، ثم أجهشت في بكاء القانط اليائس، وأنا أدير نفس السؤال:

- لِمَ كل هذا..؟ دون أن أجد له إجابة، ويرتفع ضغطي، وما هي إلا لحظات حتى تأخذني غيبوبة، أفقت بعدها مسلوب الإرادة، فبالكاد أتحامل على نفسي حتى أصل إلى المغسلة، فأتجشأ ما بقي في معدتي من بقايا طعام، وبدا ريقي جافاً فيه طعم المرار، وقد مضى عليَّ الليل بطوله وصدر نهاري الجميل الواعد هذا، دون أن يدخل جوفي شيء من طعام سوى رشفات من كوب الشاي الذي قدمه لي سيادته آنف الذكر.

لا أدري كم مضى من الوقت وأنا على هذا الحال، فقد جردوني أيضاً من ساعة معصمي، ورجعت أسأل ثانية:

- إلى أين؟

وقمت أذرع الحجرة على ضيقها ذهاباً وإياباً، لا يفارقني التفكير في المصير المجهول الذي سآلو إليه، وعاودتني صورة سوداء داكنة، وشعرت بالدوار والخوار يجتاحني ثانية، فعدت أفترش الأرض سانداً ظهري إلى الحائط، ومضت بي الهواجس حتى طرق مسمعي صوت زميل الدراسة على الهاتف كفأل شؤم:

- صدقني لن تستطيع التعرف إلى حجرتك في ألمانيا عندما تعود، لن تعرفها.. لن تعرفها..

وراحت هذه العبارة تتكرر في مخيلتي، حتى تلاشت كل أسباب النجاة من أمامي، ولم يبق لي إلا صورة هذه العبارة الممسوخة تأتيني لكأنها من أعماق الزمن.. لن تعود.. لن تعرفها.. لن تعود.. لن تعود..

سرت جلبة في المكان، ودار المفتاح، وسُحب المزلاج، واندفعت البوابة الحديدية، ظهر من خلفها ثلاثة من المسلحين، وأنا واقف أرقب، أشار عليّ أحدهم بأن أتقدم، ثم راح يعيد لي بعض أوراقي وأشيائي دون أي تعليق، قادوني إلى خارج المكان، حيث السيارة التي قادتني بدورها إلى قدري واقفة، قد أحاط بها فريق كامل من المسلحين الذين ناف عددهم عن العشرة، كلهم متربص ينتظر!

فتشوا السيارة بدقة متناهية، وهذه هي المرة الثانية التي تُفتش فيها، طلبوا مني إفراغ الحقائب، كنت أحمل معي حقيبتين للشاب الأرمني قد مُلئتا بالهدايا، وحين سئلت عما بهما؟ لم يكن لديّ أي فكرة، كنت أتمنى لهما - الأرمني والعراقي- السلامة، غير أن الإصرار في العثور على إجابة، كل ذلك مجتمعاً كان سبباً في استدعائه للمثول بدوره أمام المخابرات ليُسأل عنها وعن علاقته بي!

استدار لي رئيس الدورية فجأة، وفي لهجة ساخرة سألني:

- مرة واحدة تتحول من تجارة الفلفو إلى المرسيدس، ومرسيدس 280SEL ماركة حديثة أيضاً؟!

واقفاً أرقب وأسمع ما يدور حولي في صمت، وعلى جهاز اللاسلكي ينادي رئيس الدورية على سيده في الطرف الآخر:

- حاضر سيدي، المدعو سليمان في قبضتنا الآن، يوجد برفقته شاب عراقي وآخر تركي!

وجاء الجواب من بعيد:

- ائتني بهم جميعاً!

دق قلبي، وأدركت بأن الحكاية ستأخذ أبعاداً جديدة، وأذهلتني نبرة القوم الصارمة في اقتيادي، وجاؤوا برفاق دربي وما هي إلا برهة من زمن حتى انتظمنا القيد الحديدي ثلاثتنا!

دارت في مكتب التخليص الجمركي خصومة بين سلطة الجمارك ورجال المخابرات العسكرية، وفي إصرار قال الموظف الجمركي:

- يجب إنجاز معاملات دخول السيارات أولاً!

وفي صرامة العسكر وبحرص المنتفعين المتسلقين قال رئيس الدورية:

- سوف تأذن لنا بالمرور الاستثنائي هذه المرة لأسباب أمنية، سنبقي عندك أوراق السيارات لتنهي المعاملات كيفما شئت..

قاطعه موظف الجمارك قائلاً:

- أمامكم المدير، يمكنكم أن تتفاهموا معه..

أخيراً، أقبل المدير هائجاً كثور انفلت من عقاله:

- لقد تسببتم لي في الكثير من المشاكل، يجب أن يأخذ القانون مجراه، ولا يمكن بحال من الأحوال أن نسمح بمرور السيارات قبل إنهاء المعاملات اللازمة لذلك!

وفي نبرة كساها التهديد قال رئيس الدورية:

- إن أمن البلاد فوق كل قوانين الدنيا!

سرعان ما سرت أصداء هذه العبارة في ما بقي من نفسي التالفة، وتساءلت عن مدى الخطر الذي يهدد به أمثالنا البلاد، واجتمع عليّ شعور الخوف واليأس والأسى، وبات الأمل في النجاة يتراجع لحسابات أخرى في طريقها للاجتماع على صدري المتهالك، فأنا لا زلت رهن عالم الغيب، وحين رحت أبحر في أمواج الغد، ألفيتني أستسلم لقضاء الله وإرادته، وما هي إلا لحظات حتى تنفستُ نفساً عميقاً ثم أتبعته بزفرة اختلطت بترديدي:

- إنا لله وإنا إليه راجعون!

كان الخوف بادٍ على زملائي، لا سيما الشاب الأرمني، والذي كان بدوره كأطرش يساق في زفة عرس، فهو لا يعرف اللغة العربية أولاً، ولا يدري ما الذي يدور من حوله، حظه العاثر ساقه كي يكون برفقتنا، وهذه التهمة تكفيه، بقي طوال الطريق صامتاً، فقد كانت الفاجعة أكبر من أن يتصورها أي أحد منا!

لم يأذن المدير أن نعبر قبل إنهاء المعاملة، وبعد أخذ ورد تم الاتفاق على حل وسط -هكذا قالوا- نقوم بتسديد بوليصة التأمين، ثم يُخوّل أحد المخلصين الجمركيين بإنهاء المعاملة في الوقت الذي نمضى فيه إلى فرع التحقيق العسكري بـ "إدلب"، وهناك سيتم الاتفاق على من سيعود لإنهاء المعاملات.

وأنا أهم بالتوقيع على الاستمارة، سألني المخلص الجمركي عن سبب اعتقالنا؟ زممت شفتاي وقلبت كفاي مبدياً له عدم معرفتي للسبب.

قال مُطَمئِناً:

- لا عليكم، ربما تشابه في الأسماء، ولعل الحل يكون في دمشق بمشيئة الله! لستم أول من يقع في مثل هذه الإشكالات، سيعتذرون منكم حين تنجلي لهم الحقيقة، وسيطلق سراحكم بعد ذلك، كي تعودوا مكرمين معززين!

مكرمين معززين.. كلمات جميلة، كم انتظرت الأيام طويلاً أن تفصح لي عن مكنون فحواها، كنت غريباً، لا أذكر صادقاً أنني ناصبت هذا البلد العداء يوماً من الأيام، وعلى أي حال فقد دفعت مبلغ بوليصة التامين وافياً، ووجدتني بعد بعض الوقت محشوراً مع زميلَيّ بين مجموعة من المسلحين داخل السيارة، تنطلق بنا باتجاه مدينة إدلب.

تركونا لهواجسنا داخل السيارة المنطلقة، لكأنها سيارة نقل الموتى، ولم تفلح بعض الأنغام الرديئة، التي راح رئيس الدورية يرددها طوال الطريق مزهواً كصياد عائد بالجائزة الكبرى، من شدِّ انتباهي إليه، أو انتشالي من عالم الغيبيات والأوهام التي رحت أغرق فيها، وفجأة انقطع عن الغناء ليلقي إلينا بالبشرى:

- سوف يتم تغيير هذا الطريق بآخر عريض، سيكون حسب المواصفات العالمية، لعلكم تستخدمونه في رحلاتكم القادمة!

هل ستجود الأقدار برحلة قادمة؟! متى ستكون؟! هل سيكتب لنا الخلاص كي ننجز عملاً كهذا في يوم من الأيام؟ وهل سيبقى لي في الحياة بقية من العمر كي أخرج أنا على وجه الخصوص إلى الدنيا؟ كي أبصر ثانية إن كان بقي فيها شيء من بصيص نور وضياء؟ هل سأعود لأرى أنه ما زال يدب على أديم الأرض أحياء طيبون لم يفقدوا آدميتهم وإنسانيتهم بعد..!

اعترض طريقنا جرار زراعي، كان الأمر سيبدو طبيعياً لو أنهم أرادوا ذلك، وكان بالإمكان أن تمضي الأمور بسلام، إلا أن رئيس الدورية اندفع بسيل جارف من السباب المقذع لصاحب الجرار، وكنا في سيارتين، سيارتي وسيارة صاحبي التي كانت تجد السير في إثرنا بداخلها بقية عناصر المخابرات.

تأخرت السيارة الثانية في اللحاق بنا، مما اضطر رئيس الدورية لإبطاء السرعة وهو يقول:

- لا أعتقد أن أحداً من عناصرنا سيبخل في عمل "اللازم" لسائق الجرار!

كان عمل "اللازم" كما أبلغنا فيما بعد، مجموعة من الصفعات والركلات لسائق الجرار جزاء جريمته تلك!

لا عجب في ذلك أو غرابة، فهم يعتقلون للشبهة، ويقتلون لمجرد الشبهة، وأن آلاف الحكايات التي حُكيت لي عن هؤلاء الأبطال، والتي شاهدتها لخير دليل قاطع على ذلك، وما سأرويه لك عزيزي القارئ في الصفحات التالية سوف يقطع لديك الشك باليقين على ما ذهبت إليه في هذه الفاجعة التي طالتني كما طالت الآلاف.. من الأبرياء غيري!

بين الحدود وإدلب

كان الانتظار في باحة "الفرع العسكري" بإدلب طويلاً مريراً، هكذا خُيّل لي، وكلما هجم الخوف زاد شعوري بطول الوقت، وسألت صاحبي العراقي الذي ترك معي على انفراد بمراقبة أحد أفراد المخابرات:

- في اعتقادك لماذا اعتقلونا؟

في حذر شديد:

- لعل صلاتك ذات يوم في مقر "جمعية الطلاب المسلمين" هي السبب، ولعل مشاركتك في فعاليات "اتحاد طلاب فلسطين" في ألمانيا هو السبب!

أدركت ثانية بأن رحلة العذاب قد تطول، لكن ما هدأ روعي هو كوني أحمل جنسية أخرى، وليكن ترددي على كل جمعيات الدنيا واتحاداتها، فما الذي يضير سوريا بأي حال من الأحوال؟ ولو كنت ممن يشكلون الخطر الداهم، فهل يتجاوز جزائي أكثر من الطرد خارج الحدود، ومنعي من دخول البلاد؟

رأيت "عاصي" ضابط التحقيق المحترف لكل أطياف الإجرام وألوانه، والذي عرفته فيما بعد، حدثني عنه طويلاً أبناء محافظة إدلب وأريافها، الذين ذاقوا على يديه من العذاب ألواناً ومن الإذلال أشكالاً، رأيت هذا الجلاد وقد بدا كحمل وادع حين أشار عليه صاحب رتبة عالية بأن يمضي بنا إلى "الندوة" مطعم الفرع العسكري هناك، كي يقدموا على حد زعمه واجب الضيافة.

كان كثيراً على الندوة أن تكون خاناً من الخانات تعلف فيها الحيوانات، فقد كان الذباب يملا أرجاء المكان، والقاذورات تسد عليك حاسة الشم والذوق معاً، وقد بدا السيد القائم على الإدارة قذراً يملأ النفس تقززاً وقرفاً، قدم لنا شيئاً من المرطبات، كنت في إعياء شديد، ومع أنني لم أتناول العشاء بالأمس، ولم أتناول الإفطار لهذا الصباح، فقد كانت نفسي طافحة آزفة، وكان القلب عامر بكل أسباب الفجيعة، لذا هجرتني الشهية فلم أشرب شيئاً.

في رحلة العودة إلى الحدود لجلب أوراق السيارات، وفي أثناء وقوفنا أمام أحد المطاعم، أدركت أن صاحبه يشتري شرور هؤلاء الأراذل بملأ بطونهم دون أن يأخذ منهم أي مقابل، سألت أحد رجال المخابرات وهو يقدم لي لفيفه من "السندوتش" إن كان يعلم سبباً لاعتقالنا؟

هز رأسه ولم يزد على أن قال:

- شبهة في الأسماء، لن تتعدى ذلك!

لقد بدا من خلال لهجته أنه من أبناء "الملة الحاكمة" فهذا الجهاز، جهاز المخابرات موقوف على هذه الطائفة، ولم يجد الرجل حرجاً في أن ينقل لنا سبب تأخره عنا في رحلة القدوم عند سائق الجرار، فقد أعلمنا بأنه هبط من السيارة "ليسلقه - على حد قوله- كم كف على صرماية وجهه"، ولم يخب ظن رئيس الدورية فقد تأكد لي بأنهم عملوا للسائق "اللازم"..!

يصعب عليّ وأنا أستمع إلى هذه التصرفات أن ألتمس عذراً بأي لون من الألوان، كان ذلك عذراً مباحاً أو دون ذلك لأحد ممن حكمنا طوال نصف القرن الأخير المنصرم فيما اقترفت أيديهم ضد البلاد واجتماع خلق الله من العباد.

إن الإذلال الذي مورس على الناس طوال تلك الحقبة من الزمن الغابر المقصوص لم يكن له من أي مبرر أو أي معنى إلا مبرراً واحدا ومعنا واحدا، هو شيء يشبه الانتقام لأحقاد دفينة رضعها القوم مع حليب أمهاتهم، حقداً يشبه حقد اللئام إذا لاحت لهم الفرصة من التمكين، وقد كان لهم ذلك، على أن سنة الله اقتضت غير ذلك، وإلا لما كان لقول الله تعالى: (وتلك الأيام نداولها بين الناس) أي معنى من المعاني التي تبعث على الأمل في التغيير أو التبديل.

أوشكت الشمس أن تتوسط كبد السماء، ونحن في انتظار المصير المجهول، وعلى الحدود جلست أرقب من خلال النافذة الحركة الدائبة المتلاطمة، وكأنني أرقب آخر خيوط الحرية قبل أن تجر ذيولها لتختفي وراء الأفق والقضبان، فيخطفها شيء يشبه الانتحار.

حين عدنا إلى الفرع العسكري بإدلب مصحوبين بأوراق السيارات كاملة، كانت الشمس لاهبة والقلب فيه اجتماع الحسرة لا بعضها، رحت أقلب البصر في الحديد الذي كان في الانتظار، وما كان لي من سبيل سوى التجلد رغم الأذى، وهم يسورون أيدينا بالقيود، ربطونا إلى بعضنا البعض، وهكذا صرنا ثلاثتنا في القيد، ولم يظهر "عاصي" ضابط مخابرات منطقة إدلب شيئاً من الامتعاض وهو يرسلنا إلى المجهول، وبدا ذلك الضابط السفاح موغلاً في الكيد والشماتة وهو يسير بمحاذاة السيارة التي تقلنا وفي نزاهة العاهر قال:

- إنها ضرورات أمنية، نرجو عدم المؤاخذة..! ففي دمشق سيكون لكم موعد مع العدالة! لن يظلم أحد هناك، سيطلق سراحكم، لا أشك في ذلك.

سارت بنا العربة، وكأنها في رحلة الموت، تشق بنا زحام المدينة اللاهية، ولم يكن لي من بد على الطريق الذي طال، أن أستأذن رئيس الدورية المرافق في قضاء حاجة، وتركني في القيد أعالج أمر نفسي، ولا أدري كيف انقضى الأمر!

لم يكن في الرحلة ما يبعث على الراحة أو الطمأنينة، وكانت السيارة العسكرية التي تنقلنا من نوع رديء، وشعرت برائحة "الكاوتشوك" التي بدأت تنبعث من أسفل مقعدنا الخلفي تملأ المكان، لم أتكلم، ورجوت في نفسي لو أن الله ينفذ قدره في هذه اللحظة، وتحترق المركبة بنا جميعاً، ولا أدري لماذا رافقني هذا الخاطر!

الحواجز المسلحة على امتداد الطريق من الصعب أن تُلمّ بتعدادها، فهي كثيرة يصعب حصرها، ونحن نجتاز الحواجز، حاجزاُ إثر حاجز، ومع أنه كانت تتقدمنا سيارة من الأمام قد ضاقت برجال المخابرات المدججين بكامل سلاحهم، وسيارة أخرى من الخلف، مع كل ذلك كنا نجبر عند كل واحد من هذه الحواجز على التوقف للتفتيش، ولم يتوقف تبادل الإرسال اللاسلكي على امتداد الطريق، وكان في جله مختصاً بنا، توقف الموكب الذي كان يضمنا بسيارات ثلاث، هي سيارتي وسيارة صاحبي، بالإضافة إلى نصف المصفحة العسكرية التي تقلنا.

مدخل حماة يضج بالحواجز، كل المدينة تحولت إلى ثكنة عسكرية، ما عادت تلك المدينة التي مررت بها قبل ما يقرب من شهر، وبدا يومها أنها كانت تضج بالحركة، رأيتها في هذه المرة وقد لفها صمت المقابر، لا حركة فيها، قد أغلقت متاجرها وحوانيتها وانقطعت من دروبها الأرجل، ونضبت الحركة إلا من العسكر، وخُيّل إلي وكأن المدينة مقبلة على فجيعة لا يعلم مداها إلا الله.

ما إن تجاوزنا حماة مستقبلين مدينة "حمص" الغارقة في أحزانها، حتى توقفنا على أحد الحواجز، أصبحت رائحة السيارة لا تطاق، ومع أن رجال المخابرات حاولوا إصلاحها، إلا أن ذلك لم يأتِ بكثير فائدة، ولم يفلحوا في وقف العطب، فقد استمر الاحتراق، لهذا نقلونا جميعاً إلى داخل سيارتي، وقبل أن ننتقل إليها أبقونا لبعض الوقت في إحدى الحجرات، وبداخلها تبادلت الحديث مع صاحبي العراقي، وأعدت عليه السؤال ثانية، وكم تمنيت لو أنني لم أفعل:

- لماذا الاعتقال؟!

فأجاب في براءة الجاهل:

- ربما لأنك كنت تتردد في المناسبات على "جمعية الطلبة المسلمين"

وأسأله في شيء من الغباء والذهول:

- وماذا أقول إن سألوني عن ذلك؟

- قل لهم بأن ذلك كان في سنوات خلت، والآن لا علاقة لك بهم.

ربما كنت يومها مقتنعاً بهذه الإجابة، ومع كل هذا فقد كنت أشعر بالخوف، وفي لغة من يريد أن يسري عن نفسه قلت:

- لا عليك سأتجلد للضرب حتى العظم، فإن الضرب للرجال!

وضحك صاحبي وضحكت، وكنت أظن ذلك شيء من المزاح، غير أنني أدركت مع الأيام وكأنها دعوة صادفت في السماء ساعة استجابة، فاستوجبت مني دفع الثمن بعد أيام، وكان الثمن غالياً، بل غالياً جداً.

خلفنا وراءنا السيارة المعطلة، ولما علم رئيس الحاجز بأنني المطلوب الأول، أجبرني على الهبوط لأجلس بين زميلي العراقي والتركي، ولا أنسى تلك النظرات القاسية الثاقبة الغريبة التي راح رئيس الحاجز يمطرني بها، وبدا حاقداً يتطاير الشرر من عينيه، ولعله غمغم في شتمي بكلمات لم أكن لأفهمها، فأغضيت طرفي، والتزمت الصمت، فأنا الآن أفهم الوضع تماماً في بلد العسكر والعجائب!

استأذنني أحد عناصر المخابرات في أن يستخدم مشطاً خاص بي كنت أضعه على "تابلو" السيارة أرجل به شعري، فلم أمانع، وما أن انتهى من ترجيل شعره حتى أودعه جيبه الخاص، ثم نظر فرأى "علب السجائر" وكنت يومها أدخن، فاستولى عليها دون أي استئذان، وكانت لي "نظارات طبية شمسية" لم يجدوا حرجاً في ابتزازها، لم أقل شيئاً، فقد كان ما بي أكبر من كل الأشياء.

حتى تلك اللحظة لم نسمع من عناصر المخابرات المرافقين ما يعكر علينا صفونا، حتى أن الكثير من بينهم كانوا يتمنون لنا فرجاً عاجلاً، في الوقت الذي كانوا يسرقون فيه كل شيء، ومن يدري كم هي الحفلات التي شاركوا فيها، في جلد الناس وتعذيبهم، فهم ولا شك جلادون محترفون، يعشقون الشر عشقهم الحياة، ولم يعد الآن غريباً بالنسبة لي بعد هذه السنوات العجاف ما رأيته من هؤلاء المجرمين، سيما وقد وصلنا دمشق، تحولت تلك الخراف الوديعة طوال الطريق إلى ذئاب كاسرة، كشفت عن الوجه الآخر من العدوانية والافتراس، ظهر ذلك واضحاً جلياً في تلك اللهجة التي تغيرت في عجلة لم تكن متوقعة!

كان يخيل إليّ أن الناس جميعاً يشاركوننا المأساة، قرأت ذلك في حماة، ولم تتبدل الصورة كثيراً في حمص التي عبرتها داخل سيارتي التي يقودها الآن غيري، عنصرين من عناصر المخابرات، في الوقت الذي بدت دمشق فيه غارقة في حلم الحياة وكأنها تنتظر معجزة من السماء!

تجمعت أفراد المخابرات في دمشق، تلك القادمة معنا من إدلب، وتلك التي في الأركان حول السيارتين، وأمرونا في غلظة بأن نهبط، وكانت اللهجة قاسية قذرة، تجمعت فيها كل معاني الوقاحة والسباب، وصاح العنصر المهذب الذي كان يستأذنني طوال الطريق في استخدام المشط تارة أو تجريب النظارة الخاصة بي تارة أخرى إلى أن استولوا على كل شيء، صاح هذا العنصر وآخرين:

- بسرعة اهبطوا.. يا عرصات.. يا أبناء..

قدمت لنا قبل أن نهبط عصبات صنعت خصيصاً من الجلد توضع على الأعين، عوضاً عن النظارات تحجب عنا رؤية الناس والنور، وأمرونا بالسير، ورحنا نتلمس دربنا بصعوبة، ونحن نهبط درج ينتهي بنا إلى قبو لا يعلم عمقه وبعده إلا الله.

صاح أحد عناصر المخابرات ثانية وهو يهوى على وجهي بلطمة فيها قوة الجسم مجتمعة:

- إن شاء الله تكون الليلة من نصيبي..!!

وشعرت بالخوف ثانية يهزني من رأسي حتى أخمس قدمي، ومتى فارقني الخوف حتى يعود إلي ثانية، وتفحصت هذه العبارة، وما تنطوي عليه من معانٍ، ورافقتني في تلك اللحظة صورة هزيلة وضيعة، فقد كنت أقرأ الكثير أيام العناء عن أساليب المخابرات، فرثيت ثانية لنفسي، ووجدت سؤلاً يجول في خاطري، فلا أجد له جواباً:

- إذا كان لهم عليّ دين ينوون استيفاءه في هذه الليلة، أو في ليال أخرى فما ذنب العراقي والتركي؟

وفي زاوية من زوايا البهو، أمرنا بالتوقف، وجوهنا نحو الحائط، وكلما مر بنا عنصر من تلك الذئاب، ما كان ليبخل علينا بلطمة من يده، أو ركلة من قدمه، ولا أدري كيف هوى علينا أحدهم بسوط كان في يده! وكتمت عندها صرخة كادت أن تفلت مني وتجلد بقية الشباب، وسألت الله أن تكون هذه هي أكبر مصائبي! وأن يكلأني بعينه التي لا تنام، وأن يحرسني بركنه الذي لا يرام! وتقدم مني أحد العناصر، أزاح عني "العصبة" سمح لي أن أضع نظارة أخرى كنت أحتفظ بها داخل السيارة للطوارئ فقد سرقوا كما أسلفت النظارة الأصلية، ثم عاد وانتزعها، وهو يقول خسارة تنكسر، وراح يجرب عضلاته المفتولة، وما هي إلا لحظات حتى كنت ملقى على الأرض، لم ينجُ منا - نحن الثلاثة- أحد، كانوا ينهالون علينا بالضرب كلما تذكرونا، أو صادف مرور عنصر من عناصرهم، وما هي إلى ساعات قليله وكأن الزمن قد اجتمع فيها، حتى اقتادونا إلى داخل حجرة بداخلها مكتب وسرير، أمرنا بالجلوس على السرير وكنت ارتدي "جاكيتاً" أعجب به أحد عناصرهم فاستولى عليه أيضاً، بعدها انهالت علينا الصفعات واللكمات، إضافة إلى أكوام من السباب البذيء المرتب، وبعد قرابة ساعة من الخوف والذعر الذي لفنا، شعرت بدوار وحاجة للقيء، ما لبثوا أن اقتادونا بعد مشادة دارت بينهم فمن قائل يقول: إننا مطلوبون لفرع التحقيق العسكري، إلى قائل يقول: بل لفرع أمن الدولة، وآخر إلى الأمن السياسي.. الفرع الخارجي، وأخيراً رسى المزاد علينا في سوق النخاسة، بأن ننتقل إلى فرع التحقيق العسكري كما علمت فيما بعد.

 معصوب العينين، قد شدوا وثاقي في القيد الحديدي بداخل سيارة مغلقة، دون أن ينقطع الضرب بكافة أشكاله، راحت السيارة تطوي بنا الطريق إلى جهة لا أعلمها.

 جلسوا عن يميني ويساري، من فوقي، ومن أمامي، ومن خلفي وعلى صوت الصفعات، شرعوا في الطلب، كانوا يطلبون مني أن اعترف بتهمة لم يوجهوها لي بعد، كانوا يطلبون لي أن أعترف فقط، وحين أسأل بماذا؟ كانوا يجيبونني:

- أنت تعرف..!!

فرع التحقيق العسكري

كان في أذني صفير إثر لطمة.. وعيني مطبقة.. وفي رأسي صداع.. وأنا أهبط الدرج في طرف لا أعلمه من أطراف دمشق، وبصعوبة كنت أتحسس دربي إلى داخل دهليز مظلم، وسمعت ديني، وخالقي يُشْتَمُ لمرات عديدة، فأستغفر في أعماقي، وأدعو.. وكان أنفي ينزف وفي حلقي جفاف.

لم يكن هذا المكان الذي يعبق برائحة الرطوبة أفضل من الأركان، فقد استقبلوني "بالكابلات" و"الكرابيج" وهددني أحدهم بقوله:

- إن "الخازوق" و"بساط الريح" بانتظارك!!

عبث الخيال عندي بهذه المسميات، وذهب بها شرقاً وغرباً، وتذكرت ما رووه لنا عن محاكم التفتيش، و"سجن الباستيل" في فرنسا، وأبو زعبل واللومان في مصر، وقلت في نفسي:

- تلك بداية محنة، إن صبرت عليها، فهذا معناه بلا شك بطولة!

وكما هو الحال في الأركان، فقد التهمني بهو طويل تملأ العفونة أرجاءه، ويملأ الرعب فيه أركان كياني، وعلى شبك حديدي أمرنا بالتوقف، ولم يفارقنا الضرب طوال فترة التوقف، وفي زحمة الزمان والمكان، نادوا علينا فرداً فرداً.

كان المكتب الذي أُمِرْنا بدخوله مكوناً من منضدة وسرير نوم، على السرير جلس بعض العناصر، يرتدون بدلات رياضية كتب عليها بأحرف لاتينية بارزة "Adidas" اسم شركة أجنبية، وجلهم يدخن "ماربورو" السجاير الأجنبية أيضاً، هؤلاء أدعياء الوطنية والتقدمية!

فتشني أحدهم بدقة، ثم أمرني بخلع نعلي، أجرى عليه فحوصات دقيقة، ثم أمرني بخلع أربطته، وأشار إلى سلة المهملات حيث ألقيتها هناك، ثم أمرني بخلع حزامي فكان، وأمرني بإنزال بنطالي ففعلت، ثم أمرني أن ألبس..، أمّا الحزام فأخذوه.

قال أحدهم بلؤم بارد وهو يمسك بقلم يدوّن على كومة من الورق جمعها على المنضدة أمامه:

- كم تملك من النقود؟

 أجبت في غير اكتراث:

- بقيت كلها على الحدود!

ثم نظر إلى معصمي فرأى الساعة:

- اخلع هذه الساعة!

خلعت الساعة، وهل يضيرني خلعها ما دمنا نخلع كرامتنا في كل يوم ألف مرة ومرة، فمثل هذه الأمكنة لا معنى للكرامة فيها، حتى السَجَان يقيني أنه خلع كرامته منذ صار مُلْكَاً لهذا النظام، زمن الكرامة ولّى، صار بعيد المنال، وصار بالنسبة لي ورائي هناك خلف الحدود!

استلم بطاقتي الجامعية، وبطاقة حساب جاري، وإجازة سياقة، ودفتر ملاحظات دوّنت فيه عناوين وأرقام هواتف، وبيان فيه بوصلة السيارة وكذلك دفترها والمفاتيح، بالإضافة إلى مجموعة من النقود المعدنية الألمانية، وحقيبة ملابس، أودعت جميعها داخل حقيبة الملابس، وسُجّل في دفتر الأمانات فقط حقيبة جلد، ولم أستوفِ منه إيصالاً بهذه الأشياء لأن ذلك كان ممنوعاً في دولة قامت أركانها على اللصوصية والنهب!!

كنت أبحث عن سبب وجيه لكل ما فعلوه ويفعلوه، وعن كَنَهْ هذه التصرفات وعلتها، وكان دأبي أن أعيد السؤال مراراً وتكراراً فلا أحير له جواباً!

تركوني أعود ثانية من حيث أتيت، وجهي إلى السياج الحديدي المصنوع على شاكلة الشبك، وراعني وأنا أعبر البهو إلى حيث كنت، أن أرى رجلين يقودهما أحد الجلادين، قد حلقت رأسيهما، وربطت أيديهما، وعصبت أعينهما، قد أمسك أحدهما بقفا الآخر، قد حنيا ظهريهما اتقاء السوط الذي بيد الجلاد، ما انفك يهوي به على كل مكان بلا هوادة أو رحمة، وهما يصرخان، لا أدرى سبباً لذلك وقد ظهر عليهما إعياء شديد، قد لبسهما البؤس والشقاء، بدا ذلك في تلك الثياب الرثة التي تعلوهما، ولا أدري كيف التهمت بوابات جانبية كلا الرجلين فلم أعد أراهما وإن كان صراخهما ما زال يتناهى إليّ!

أمام بوابة - لعلها من بوابات غرف التحقيق- جيء لي ولزميلي كلٌّ على انفراد بكومة من الأوراق، طلب إليَّ أن أسجل سيرتي الذاتية، وألفيتها تافهة، وتافهة جداً، ليس فيها شيء جدير بأن يدوّن، وقلت ما عساهم يستفيدون من كل هذا؟

عرّجت على بواكير صباي، وشطراً من صدر شبابي، وفي أسطر مقتضبة سجلت سبب قدومي إلى سوريا، وأعلنت بأن لي معارفاً من العرب الذين يدرسون معي، أو يعملون في تلك الأصقاع البعيدة في أواسط أوروبا، وسجلت بناءً على طلب من المحقق تلك الأسماء، والتي أعتقد استحالة مرور أصحابها من سورية تحت أي ظرف من الظروف، ساقوني قبيل المغرب إلى الدور الأول، مربوط العينين، مكبل اليدين، وشعرت بأني أمشي على واثر من سجاد، وطرق سائقي إحدى البوابات، ثم قال أحدهم من الداخل:

- نعم.. ادخل!

قال سائقي وكأنه يريد أن ينتهي من مهمته:

- سيدي المطلوب بالباب!

وفي لهجة المعتد بنفسه:

- دعه يدخل!

لعله كان رئيس الفرع ولعله كان ذا رتبه عالية، دَلَّني على ذلك ما شاهدته من تحت عصابتي من وثارة المكتب الذي هو فيه، بادرني وقد أصبحت الآن بين يديه:

- انزاح إلى اليمين خطوتين، وابق واقفاً باستعداد!

لم أناقش في ذلك، على جهلي بالأوامر العسكرية، ورحت ألبي ما طلبه مني، وبعد برهة من الصمت جاءني صوته، وقد بدا التصنّع واضح فيه:

- هل أنت بعثي؟

- لا

وفي لهجة الواثق:

- لدينا ما يؤكد أنك منتمٍ لحزب البعث؟!

وفي إصرار المتقزز:

- لم أكن، ولا أعتقد بأنني سأكون بعثياً يوماً من الأيام!

وفي اقتضاب:

- انزل الآن، واكتب لنا قصة حياتك ثانيةً، اكتب لنا الصدق، فنحن نعرف عنك كل شيء..

جاؤوني بالورق ثانية، وفي إحدى الزنازين التي لا تتجاوز المترين في نصف المتر قد تركوا لي فيها "بطانيتين" هما دثاري وغطائي أغلقوا عليّ الباب ومضوا، ومنذ تلك اللحظة لم يبقَ لي من أمل في رؤية رفيقا رحلتي، وثارت في نفسي وصدري زوبعة من الذكريات، اختلط فيها الحزن والجزع، وتذكرت أهلي وأصدقائي، فلذَّ لي أن أبكي، وأنا جالس على البطانيتين كل الذي تركوه لي، ممسك بالورق والقلم لا أدري ماذا سأكتب، زارتني رحمة ربانية، فإذا بالنوم يختطفني ورحت أغط في سبات عميق.

لا أدري كم من الزمن مضى وأنا نائم قبل أن استيقظ، فـ"الزنزانة" الرطبة تقع على عمق لا أدركه تحت سطح الأرض، والإضاءة فيها رديئة، وأنا وحيد بلا مؤنس، ولا من يعلمك بالوقت، فلقد جردوني من الساعة كما سبق وذكرت، لكنني استيقظت على أصوات أولئك البؤساء الذي عرفت بعضهم فيما بعد، يجأرون إلى رب السماء، يشكونه جور الإنسان والسلطان، وتمنيت لو أنني نمت نوم أهل الكهف، الذين لبثوا في كهفهم ثلاثمائة سنين وازدادوا تسعاً!!

حين فتحت عينيَ، أبصرت كومة الأوراق ما تزال أمامي، ولقد شعرت بالاستغراب لتركهم إياي نائماً كل تلك الفترة دون أن يوقظوني، وجاءني أحد السجانين يطلب إليَّ في غلظة إنجاز الأوراق، فشرعت أدوِّن لهم ما سبق لي وأَنْ دونته في المذكرة الأولى، ولما انتهيت دققت البوابة السوداء المطلية بالقار الداكن، حضر السجان، هددني وهو يتناولها قائلاً:

- يا ويلك إذا ما كنت كاتب كل شيء!

أطبق "الزنزانة" بمزلاج من الخارج ومضى.

كان يوم اعتقالي هو يوم الاثنين، ومن حديث يتداول بين السجانين تأكد لدي بأنني الآن أعيش يوم الأربعاء، وبذا يكون قد مضى على اعتقالي ثلاثة أيام، في منتصف ليلة هذا اليوم الأخير، وفي إحدى "الزنزانات" المجاورة ألهبوا ظهر أحدهم وربما كل جسده بالسياط والعصي والكابلات، وقد كان يأتيني صراخه عالياً مدوياً، فيراودني خاطر:

- سيأتيني الدور! فأشعر بالرعب يكتنفني ويهز كياني!

وأخيراً جاء دوري، وقفوا بباب "الزنزانة"، ثم اندفع الباب وإذا بي أمامهم وجهاً لوجه، قال أحدهم في ازدراء:

- سيارة المرسيدس ذات النمرة الألمانية هي لك!..أليس كذلك؟!

قلت والخوف يكتنفني:

- نعم

في ثورة غضب وصفع ولطم وركل، قد رافقته زوبعة من السباب، شتموا أهلي، ديني خالقي - سبحانه عما يقولون علواً كبيراً-..

- حاولت فتح المؤخرة يا ابن.. فلم تفتح، أين المفتاح؟

وأنا منكمش على نفسي أتقي بيداي هذا العدوان الغاشم أجبت:

- بمجرد فتح الباب الذي على طرف السائق تفتح كل أبواب السيارة!

تركوني أعالج أمر نفسي، وعدت ثانية إلى هواجسي وظنوني:

- أيطول بي المقام هنا؟!

وأعلل نفسي حين أهتف بالسؤال، فيأتني الجواب:

- بالتأكيد لن يتجاوز يوم الجمعة!

وقبل الجمعة، وفيما أنا غارق في صمتي، أحتسي شوربة من العدس، قد قدموها لي على أنها وجبة العشاء، وكانت خليطاً من عدس وحجارة، وقد فرغت منها لتوي، وفيما أنا شارد أتذكر الأحباب والأصحاب، أتتني أصوات خطوات تسير في البهو الطويل، بدت تقترب مني، فلذت أدعو وأتلو المعوذات، وفجأة فتحت البوابة السوداء وأطلّ وجه قبيح، غريب كل ما فيه حتى لهجته:

- "هنت"! أي أنت..

وأنا واقف باستعداد أجبت:

- نعم أنا..

- ألقى إليّ عصبة وقال ضعهما على عينيك واتبعني!

وضعتها كما طلب ورحت في أثره، يرشدني بسوط في يده إلى الطريق، وبعد أن هبطنا درجتين في نفس البهو سرنا قرابة دقيقتين ثم توقفنا، وسمعت صوتاً يقول:

- خذه إلى غرفة التحقيق المقابلة.

اجتهد المحقق كي يبدو خلوقاً مثقفاً! وهذا ما أكده لي بنفسه فقد أعلن لي بصراحة:

- يا سيد.. نحن معشر المحققين نفهم الأصول، فأنا حقوقي وأعلم بأنك لست سورياً، وبالتالي لا تخضع لقوانيننا، كل ما نريده منك أن تساعدنا في التعرف إلى الجهة التي أرسلتك إلى سوريا؟

وبدا السؤال سخيفاً، ولم أزد على أن أجبت:

- أنا يا حضرة المحقق، لا انتماءات سياسية لي.. ولم يقم أحد بإرسالي!

قاطعني قائلاً:

- بدايةٌ لا تبشر بخير، لا حاجة لكل هذا اللف والدوران، فنحن نعرف عنك كل شيء.

- ما دمتم يا حضرة المحقق تعرفون عني كل شيء، فلم تسألني إذاً؟

وفي تصنع مفضوح:

- لأننا لا نريد أن نظلم أحداً! نريد أن نتأكد فقط!

و كما لو أن الفرصة جاءت مواتية ملائمة:

- من أي شيء تريد أن تتأكد؟

- هذا ما ستقوله أنت لنا؟

كنت ما زلت أسمع صدى العويل والصراخ يتردد في جنبات سجن التحقيق العسكري من الغرف المجاورة، يخالطه صوت ما فتئ يكرر مع كل سوط يهوي:

- أقسم لك يا سيدي لا علاقة لي.. والله يا سيدي لا علاقة لي.. والله يا سيدي لا علاقة لي..

 وشعرت جفافاً في حلقي، وتحاملت فسألت عن ماء؟!

- أريد شربة ماء؟

- بعد أن تعترف لنا!

- بماذا؟

- أنت تعرف؟

- لو كنت أعرف لقلت!

- بعد قليل ستعرف، اخلع حذاءك، وادخل في الدولاب "العجلة"؟ ومن أسفل الغطاء الذي كان يلف عيني رأيت حذاءه الملمع، ولم يكن بوسعي أن أرى أكثر من ذلك، فهذا هو المستوى الذي يسمح لنا أن نرقى إليه هنا.

طرحوني أرضاً بعد أن خلعت نعلي، وفي لمح البصر كنت في الدولاب رأسي باتجاه فخذاي، وراحت مجموعة من الجلاّدين يتناوبون عليّ.

اختلط صراخي بصراخ غيري من البائسين المعذبين، بكيت ما شاء الله لي أن أبكي، وصرخت ما شاء الله لي أن أصرخ، ووجدتني بعد فترة من العذاب الذي لا يطاق أردد العبارة التي سمعتها من صاحبها الذي لا أعرفه ولم ألقاه.

- أقسم لكم أنه لا علاقة لي، أقسم لكم أنني لا أدري بماذا سأعترف!

وأنا غارق في الدولاب، غارق في الدماء من رأسي حتى قدمي، قد أطبقت عيني أو بالكاد، وأنا أصرخ من ألمي، ومن أعماق أعماقي، صاح بي المحقق:

- والآن، أما زلت مُصراً على الإنكار؟!

وسقط على رأسي سوط..

- سأعترف..!

توقف الضرب وانفض الجلادون من حولي، لكنني ما زلت في الدولاب، وجاءني صوت المحقق ثانية:

- هيه، ليتك رضيت قبل أن تتبهدل، الآن أفضل؟! هيا قل!

- ناشدتك الله يا حضرة المحقق، أناشدك بكل غاليٍ عليك ونفيس أن تخبرني بماذا أعترف؟!

انهال عليّ صفعاً، واندفع شاتماً:

- يا.. ما زلت تبغي المراوغة، وفي كلمة واحدة أشار:

- صفّوه!!

اجتمع الجلادون عليّ ثانية، وألحّوا في الجريمة، همد صراخي، ورحت في غيبوبة، ولمّا أفقت كنت ما زلت في "الدولاب" رأسي إلى فخذيّ قد غمرتني المياه، بللت كل جزء من جسمي، كنت أظنهم سيكفون عني، ولكن الذي راعني وبعث الرعب في فرائصي أن الجناة واصلوا التنكيل بي دون توقف وعلى كافة الأوجه، ورحت في غيبوبة ثانية، ولما أفقت منها، تركوني أعود إلى زنزانتي على هذا الحال.

وأنا جالس في تلك الزنزانة أراقب نفسي وأشرف عليها بنفسي، تذكرت أولئك الذين طواهم الموت، وندبت قدري لو أن لي نصيباً فأكون قد انطويت معهم، لقد خلفوا في نفسي حسرة، ليتني ألحق بهم من لحظتي هذه، فأجهشت في البكاء، وما زادني مرارة، أن هؤلاء الجلادين ماضون في برامجهم حتى الإتيان على حياتي، فأرعبتني فكرة الفناء هذه، ولأول مرة أشعر برهبة الموت وحاجتي للزاد، ورحت ثانية أفتش في نفسي عن هذه الغيبيات، ومن خلال دموعي وآلامي وإرهاقي بدأت أستسلم لقدر الله النافذ، وزارني النعاس فلا أدري كيف نمت.

رحت في الأيام التالية أفتش في أرجاء المنفردة عن شيء أشغل به نفسي، وقمت أذرعها بصعوبة ذهاباً وإياباً، ويذهب بي الخيال سبلاً شتى، فإذا بي خارج لتوي من هذا المكان الظالم أهله، وإذا الناس من حولي من أصدقاء وأقرباء ومعارف أقصّ عليهم ما أصابني، ثم لا ألبث أن أجتهد في ترجمة هذه الحكاية إلى الألمانية، فقد يطلب إليّ يوماً من الأيام أن أتحدث، وشعرت بحنين دافق إلى الدنيا فردتني وحشة العزلة ونفسي الضعيفة اليائسة التي لا حول لها ولا قوة إلى واقع لا دخل لي في تغييره، وراح الأمل يخبو في نفسي يوماً تلو يوم، حتى تلاشت كل الآمال.

لم يتأخروا عليَّ كثيراً فقد جاؤوني أخيراًً في ظهيرة يوم تالٍ، وبدا السجَان الذي قادني إلى حيث مكان قد علقت عليه الطماشات (عصبة العين)، كما يسميها أصحاب السجن والسجان، بدا السجان هادئاً، أمرني بأخذ واحدة لأربط عينيّ بها.

كان فيه - أي السجان - شيء من اللطف وكان اسمه خالد كما عرفت فيما بعد، مجند مكلّف تحت طائلة خدمة العلم، لم يضربني طوال الطريق إلى غرفة التحقيق كعادة غيره، ولما وصلنا، اكتفى بأن أشار إلى غرفة التحقيق ومضى.

كنت خائفاً، فلا شيء يملأ المكان هنا سوى الخوف، وكانت رجفة الخوف ما زالت تلفني، فقدماي منتفختان، وكل شيء في جسدي فيه تورم، وعين مطبقة، وقصارى القول أنّا مسخ من صورة البشر، ولم أكد أصدق نفسي بأنني مشيت من زنزانتي إلى حجرة التحقيق سيراً على قدمي، وأنا الذي كنت منتصف ليلٍ خلا قد عدت إليها زاحفاً تارة، ومتهادياً على الجدار تارةً أخرى.

جاء المحقق بعد طول انتظار وكأنه من خلق جهنم، وعلى غير عادته اكتفى بالصفعات والركل!!

- والآن.. أيها الحقير.. ألا تريد أن تصون نفسك، ستموت ببطء، فكّر جيداً..!

- حسناً يا سيدي، لقد فكّرت، وأريد أن أصون نفسي!!

وفي لهفة الكلاب الضالة راح يعوي:

- حقاً، بماذا فكرت؟!

أجبت في تهالك:

- أن أضع توقيعي على بياض، ثم تكتبوا ما تشاؤون..!!

جرت جلبة في المكان، وشعرت بدخول شخص ثالث علينا، وسمعت همساً وهمهمة، ثم قال أحدهما للآخر:

- هذا هو.. اسمع ماذا يقول! وتابع.. يدّعي هذا الحقير بأننا نلفق للناس التهم!

وسأل الآخر:

- حقاً ما يقول سيادة المحقق؟

وفي استنكار أجبت:

- لم أُوجَّه أي اتهام، غير أنكم تضطرونني لإعطاء مثل هذا الصك عنوةً، فأنا لم أعد أطيق!!

لا أدري أيهما الذي صفعني، حتى كدت أن أسقط لهول هذه الصفعة، وفي اعتقادي أنها جاءت من يد قد دربت على الصفع طويلاً، فقد هوى بها على وجهي بإتقان محكم، ثم تلتها مجموعة من الركلات صرت بعدها إلى كومة أتلوّى على الأرض!

أشار المحقق على أحد السجانين بأن يعود بي إلى الزنزانة، بعد أن أعطاني مهلة أخيرة للتفكير، ولم ينسََ أن يتوعدني:

- غداً نتفاهم، سننسيك الحليب الذي رضعته!!

الاتهام الباطل

كانت دورة المياه مطلباً لا يمكن الاستغناء عنه، ضرورة من ضرورات البشر الاعتيادية، باتت في هذا المكان شغلي الشاغل، فشعورك بالانقباض وامتلاء المثانة بالبول إلى الحد الذي لا يمكن معه الانتظار، يدفعك عنوة إلى دق البوابة السوداء مرات عديدة، وحين تلح عليك الأزمة إلى الحد الذي ما عاد يجدي معها اي صبر، في الوقت الذي اندفعت سيول من الشتائم تأتيني من بعيد:

- يا حمار يا ابن الحمار.. يا ريت أمك ولدتك خنزير، ألا تدري بأن وقت الدورة لم يحن بعد؟!

وأردد بيني وبين نفسي:

- غفرانك ربي، ما عدت أحتمل، وهل هذه العادة عند هؤلاء تُؤَدَّى على توقيت "بج بن" مع نشرات الأخبار!

وتزداد المثانة انتفاخاً بازدياد كمية البول، فأصرخ بسيدي السجان ثانيةً، ومن شق الباب يصفعني، ثم يُحكم الإغلاق وينصرف، وأخيراً ماذا أفعل؟!

هل أبول على نفسي؟! ولعلّ نقاطاً أو شيئاً من الرذاذ قد سرى عنوةً إلى الملابس، فالتفتُّ يميناً ويساراً، فلا أرى إلا القصعة التي يقدمون لي فيها الطعام، وأتردد في استخدامها، ثم أدقُّ الباب للمرة الثالثة، وتأتي الإجابة في عاصفة من السب والشتم:

- يا عرص.. يا حقير.. يا.. يا.. والله لأذبحك.

ويشرع في عملية الضرب العشوائي، حتى خُيِّل إليّ في إحدى المرات أن عملية التحقيق أخفُّ وطئاً.

ما أن يغلق الباب وينصرف الجاني، تكون الأحوال قد بلغت أقصى درجات التأزم، ولم يعد من مفر من اللجوء إلى قصعة الطعام، أتناولها فأبول فيها!! وحين يفتح الباب إيذاناً بالفرج، أتسلل ومعي الوعاء فأتخلص مما فيه في دورة المياه، فلا يتسنى لي غسله لضيق الوقت المتاح لنا، فأكتفي برشة بالماء!!

فترة الذهاب إلى دورة المياه، لا تتجاوز دقيقتين يقف أحد الجلادين في أول الدهليز المؤدي إليها في يده "كرباج" وعلى المدخل جلاد آخر، فتأتيك الضربات من كل مكان ذهاباً وإياباً.

في تلك المنفردة التي أصبحت كل دنياي، أثاثها لم يتجاوز بطانيتين، إحداهما تحتي والأخرى فوقي، وأنا أهتز فرقاً وبرداً، فالحجرة رطبة، على بعد أمتار تحت الأرض في دهليز يحرك الخوف والرعب فيه كل ركن من أركانه، فيها المنامة بلا "وسادة"، فأستعيض عنها بالحذاء أتوسده، وفيها الطعام الذي أكاد أقسم أن الكلاب تعافه، وهي بالتالي حجرة الراحة - إن شئت أن تسمي ذلك راحة -  كل ذلك صار يجتمع في قصعة الطعام، ففيها الأكل وفيها المبولة، وإن كنت لاحقاً صرت أتعمد تأخير الأكل والشرب إلى ما قبل فتح الأبواب بقليل اتقاء لتلك الظروف المعقدة الطارئة!

وأنا ضائع في ظلمة من نفسي، وظلمة من بصري، عارياً كما ولدتني أمي، واقفاً أمام جلادي، لا ينقطع يسألني بصرامة:

- لقد تركنا لك مجالاً واسعاً للتفكير، وأنت على علم تام بأننا نعرف ما نريد، فأرح نفسك وأرحنا؟

ومن خلال خوفي وفرقي:

- سأفعل ما تطلبون!

- حسناً.. إذاً هات ما عندك، وبما أنني أحب المكاشفة الصريحة أريدك أن تخبرني عن علاقتك بالمخابرات الأردنية؟!

كان السؤال أكبر مني فآثرت الصمت، ثم عاد فكرر السؤال:

- ما علاقتك بالمخابرات الأردنية؟!

قلت في ذهول:

- لم تكن لي علاقة بأحد ولن تكون!

- سوف تدفع ثمن هذا العناد باهظاً، ما زال دور الحسنى بيننا قائماً، فكر بدرس أول أمس!

- أقسم لك يا سيادة المحقق بأن لا علاقة لي.

وفجأة سقط عليّ الكرباج، وكأنه سقط من أحد الأطراف البعيدة، فشعرت باللهيب يكوي جلدي العاري، ولا أدري كيف ملت على الأرض فمالوا عليّ، صراخي يطاول عنان السماء:

- يا رب! يا من ترى؟!

أفقت من غيبوبتي عليهم وهم يحشرونني داخل الدولاب، وأيقنت أن اليوم هو يوم مصرعي، وتجلدت فسألت:

- لماذا كل هذا؟!

- ستعرف لماذا أيها العميل الحقير.

سقطت كلمة عميل في سمعي وكأنني أسمعها لأول مرة:

- عميل لمن؟!

وفي صرخة مدوية:

- عميل "لعصابة الإخوان"، ولم تأتني بقية العبارة، فقد اختلط عليّ تعاقب الجلادين بصوت المحقق.

كان الضرب هذه المرة أشد عنفاً وإيذاءً، دارت بي الحجرة، وضاق النَفَس الذي كان يتردد بصعوبة، وفي ثوان كنت أشرف على عالم آخر، فقد خطفتني الغيبوبة عنوة، يصعب تحديد كم بقيتُ على هذا الحال، وحين أفقت كانت المياه تغمرني من رأسي حتى أخمس قدمي، وشعرت بقشعريرة مريرة تهزني، وعاد الضرب يتجدد، صراخي يخرج من أسفل جوفي، وخطفتني الغيبوبة ثانية، وشعرت بالمياه تغمرني من جديد، وقلت أتجلد لتدفق الماء، على ألا أعود إلى الكرباج والضرب، ولما لم أفق، جاؤوني بمادة الأثير"السبيرتو"، ومع أنهم صبّوا (دلقوا) في أنفي ما سد عليّ نفسي، مع كل هذا لم أفق، وسمعت صوت المحقق يصيح بهم:

- دعوه.. وهيئوا سيارة!

ولما جاء سؤال أحد الجلادين:

- لماذا يا سيدي؟

أجاب الجلاد المحقق:

- لنأخذه إلى المستشفى!

ولما بدؤوا بسحبي توقفوا عند سلالم الممر قال أحد الجلادين موجهاً الكلام لي:

- يا عرص.. يا حقير.. هذا الوقت هو وقت راحة بالنسبة لنا، نريد أن ننام، أفق لقد تجاوزنا منتصف الليل بساعة ونصف.

ولما لم أفق، ولم أجب، قال سجَّان آخر:

- ما رأيك أن نعالجه، كما عالجنا بالأمس فلانة!! وذكر اسماً لفتاة لم أعد أذكره، كانت هذه الكلمات تقع عليّ وقع الصاعقة، و طفحت إلى واجهة الذكريات شقيقتي، فكتمت صرخة كادت تفلت مني غصباً!!

ورد الآخر بعد أن شتم الدين والرب قائلاً:

- وهل تجرؤ على مثل هذا الفعل أمام سيادة المحقق؟!

قال الآخر في اطمئنان:

- وما المانع.. ألم أفعله مع فلانة تلك؟!

- تلك كانت امرأة؟

وانقطع الحوار بينهما بعودة المحقق معلناً في صوت أجش:

- السيارة جاهزة!

جروني إلى داخلها جراً، ما لبثت تجتاح بنا الطريق إلى جهة سمعت أحدهم يهمس للآخر:

- مستشفى المزة.

 لم يتأخروا بي طويلاً في المستشفى، فبعد الرجاء الحار ألا يؤاخذهم سيادة الطبيب عن هذا الإزعاج في هذا الوقت المتأخر من الليل، أبدى الطبيب اهتماماً فأسرع بوضع غطاء "كمامة" الأكسجين على فتحتي أنفي وفمي، وألفيتني بعدها بدقائق أفتح عيناي وقد رفع عنهما الغطاء، فلا أرى فوق رأسي سوى الطبيب، قد كسا شفته العليا شارب ضخم بمريوله الأبيض الناصع هذا كل ما أذكره، ثم قام أحد الممرضين بإعطائي إبرة في صمت دون أن ينبس ببنت شفة، بعدها أودعت السيارة ثانية تأتيني الشتائم من حيث أدري ولا أدري!!

في فرع التحقيق تركوني وحيداً في الدهليز أعالج الوصول إلى غرفتي الانفرادية، دمائي تسيل، قدماي منتفختان، ولا زالت رطوبة المياه تكسوني، لم يبخلوا عليّ ببعض الركلات التي كانت تصادف أحياناً بعض المناطق الحساسة مني.

لم يزرني النوم في هذه الليلة، وكلما هممت بإغماض طَرْفي زارتني صورة تلك الأمسية التي استمرت قرابة ثماني ساعات دون توقف، ولم أجد في نفسي شهية لتناول طعام العشاء الذي تركوه لي عند البوابة السوداء، حساء عدس تعافه الكلاب - أي والله -  تعافه الكلاب كما أسلفت.

بقيت طوال الليل أحاول بإمكانياتي المحدودة والمحدودة جداً، وبما توفر لي من بعض ملابسي، إيقاف نزيف الدماء التي ما توقفت عن الجريان من قدميّ المتفسختين وبقية أطرافي ورأسي دون جدوى.

لم يتأخروا عليّ، فقد جاؤوني في اليوم التالي، أجبرني الجلاد عاقل - ولقد قالوا قديماً بأن لكل من اسمه نصيب، غير أن هذا النصيري المعتوه الذي لا يجيد حتى الحديث، لم يكن له من اسمه أي نصيب -، أجبرني بسلطان الدولة التي كان يمثلها على أن أقف بكامل قامتي تحت لهيب السوط، وأن أحث الخطو إلى حيث "الطماشات" فيسلمني واحدة أحزم بها عيناي لأقف بعد ذلك وجهي إلى الحائط بانتظار سيادة المحقق.

هل جربت الخوف يوماً؟ هل زارك القلق حيناً؟ إذا جربته وزارك فأنا غنيٌ عن الزيادة، إن جنة الدنيا التي يمكن أن تعد بها بائساً خائفاً محروماً، لن تساوي شيئاً في مقابل أمان واطمئنان تهديه إليه، فكم هي الحياة تعيسة إذا سُلب الأمان منها، وحكم الخوف فيها قلوب البشر.

لست من الذين درسوا علم النفس، وإن كنت لا أنكر فعل هذا العلم في مثل هذه الأماكن، وإلا ماذا كان يعني إجباري على خلع ملابسي وامتهان كرامتي؟ ماذا كان يعني أن تكشف عورتك كيوم ولدتك أمك؟ وأن تُضرب على كل مكان وبلا أن تُراعى أبسط حقوق الحيوان في اجتناب الضرب على المناطق الحساسة، ناهيك عن حقك أنت كبشر؟!

ماذا كان يعني أن يُؤتى بالزجاجات الفارغة، يهددونك بالجلوس عليها؟! وأنا الذي كنت أظن ذلك لا يتعدى نوعاً من أنواع الابتزاز والترهيب، من أجل انتزاع ما يريدون من اعترافات، وكنت لا أصدق كل ذلك، لولا أن تقابلت في مقبلات أيامي بمن فُعل بهم كل ذلك وأكثر، أذكر منهم الأخ محمود عاشور رحمه الله، ورفع درجاته في عليين، وأخ آخر من أبناء الشام كان ممتحناً صابراً محتسباً كل ما اجتمع عليه من أمراض كان من أشدها هبوط مزمن في الشرج إلى أن ذهب على أعواد المشانق إلى رحمة الله التي وسعت كل شيء.

جاء المحقق أخيراً، طلب مني أن أخلع كل ملابسي، ومع كل قطعة كنت أخلعها كنت أشعر بالحرج الشديد يكتنفني، وأجد السوط أهون عليّ من هذا الفعل الشائن بكل المعايير، ولم يترك لي سوى الشيء الذي بات يغطي عورتي، ولقد أشار عليّ مرة بخلعه، لكنه عاد وعدل، وتركني زمناً طويلاً على هذه الصورة، عيناي معصوبتان واقفاً أمام مكتبه، أشعثاً أغبراً، قدماي لا تقويان على حملي، وفي كل ناحية من نواحي جسدي تورم، وإحدى عيني لا تزال مطبقة.

جاء صوته كصفير القطار على غير ميعاد، فبعث الروع في نفسي الهالكة، وفي مثل فحيح الأفعى قال:

- مد يداك وتلمس ما بجانبك؟!

مددت يدي فتلمست العجلة، ثم حزمني سوط كأنه الصخرة هوت على ظهري، فصرخت بأعلى صوتي، صاح بي:

- أليس من العيب عليك كرجل أن تصرخ؟!

ولما لم أجب، أردف قائلاً:

- ما زلنا في أول الطريق، وما درس الأمس إلا مقدمة بسيطة، يبدو أنك لم ترعوي، فما زال أمامنا مشوار طويل.

ووقعت هذه العبارة في نفسي موقعاً كاد يذهب بما تبقى عندي من معنويات إن بقي عندي منها شيء!

ثم قال:

- في هذه المرة.. ستحدثنا وأنت راضٍ.. إن شئت عن علاقتك "بالإخوان المسلمين".. وإلا لنا حساب آخر!!

قفز قلبي إلى حنجرتي، ولم أجد ما أقول.

- ما زالت لديك فرصة للنجاة، أنت الجاني على نفسك إذا ما التزمت الصمت.

وفي كلمات مرتجفة خائفة:

- أقسم لكم.. أنه.. لا.. علاقة لي.. وأنتم على يقين من ذلك..

وفي عاصفة من الغضب اندفعت سمومه:

- هذا الأسلوب لا يجدي.

وعاد صوته ثانية ليضيع في زحمة الأسواط والعصي والدولاب.

كنت مجهداً لا أقوى على شيء، صحت من خلال الآلام التي ما عادت تطيقها الجبال: سأعترف لكم بكل شيء.

- دعوه.. وانفض الجمع من حولي.

- قل وانجُ؟!

وأنا مُزجى على الأرض قلت:

- سلني لأجيب؟

- ماذا تعرف عن الإخوان، وعن العطار؟

- كل ما أعرفه أنني قرأت في أحد الصحف الألمانية أن هناك شخصاً بألمانيا يُدعى العطار، ولا أذكر كيف ورد الخبر!

صفق بيديه وهو يصيح جذلاناً:

- مرحى.. مرحى.. تابع.. هذا جميل جداً.

قلت في تردد:

- هذا الخبر يقرأه كل عابر سبيل، هذا الخبر لم يكن مقصوراً عليّ.

- بدأنا من جديد.. ما زال الدولاب حاضراً، وأبو علي واقفاً فوق رأسك.

هكذا كان يسمي الجلاد كما يحلو له.

قلت:

- هذا كل ما كنت أعلم.

ولفني سوط.. فصرخت:

- كما تريدون.. اسألوني؟!

- متى رأيت العطار أول مرة؟

- لم أره قط.

ولفتني أسواط سريعة:

- أجب متى رأيته أول مرة؟

- لا أذكر ذلك.

حاول أن تتذكر على عجل!

- سأحاول.

- أجل متى؟

- كان ذلك في منتصف السبعينات.

- أين كان ذلك؟

- في فرانكفورت بألمانيا الغربية.

- جاء من مدينة "آخن" إلى مدينة "فرانكفورت"؟!

- لعله كذلك.

- لماذا جاء إلى "فرانكفورت"؟

- لا أدري.

- انتبه جيداً إلى ما سأقول، لا يأتي إلى "فرانكفورت" إلا لأمر مهم، وإذا أردت أن تخلص نفسك فاذكر هذا الأمر، وإلا الأدوات بحوزتنا، والتي نستطيع من خلالها نزع الاعتراف منك، صدقني لن نستورد شيئاً من الخارج!

- والله يا سيدي لا أدري.

ولا أذكر كيف مال الجلادون عليّ، فملت تحت سياطهم التي بدأت تلهب ظهري وكل جسدي، وصحت من أسفل نعالهم:

- اتركوني لقد تذكرت.

صاح:

- قل وانجُ؟!

- تذكرت، كان مريضاً وقد حضر للعلاج.

- أين التقيته؟؟

- في المستشفى.

- من رأيت في زيارته؟

- لم أرَ أحداً.

- أنت أردني الجنسية، لا يهمنا أمرك ولسنا مخولين في استبقائك في السجن، إذ ليس من حقنا أن نوقف رعايا دول أخرى، لذلك أريدك أن تختصر الطريق، فحدثني عن أولئك الذين جاء العطار لملاقاتهم في "فرانكفورت"، والسبب الحقيقي الذي جاء من أجله.

- والله لا أدري إذا كان هناك سبباً غير هذا، أو إذا كان هنالك أناس جاء لملاقاتهم.

كدت ألفظ أنفاسي حين أطبق عليّ أحد الجلادين، يريد إعدامي كما أمره سيادة المحقق، وكم هي الحياة تافهة تلك التي كنت أرجو الظفر بها:

- حسناً ما دام الأمر كذلك فسأذكر لك السبب.

اجتمع الخيال والخوف، وبدأت أكذب، وأقسم اليوم على ذلك، فلكل امرئ طاقة من تحمّل العذاب، وأعترف اليوم بعد أن مضى كل إلى سبيله أن لدى الإنسان طاقة من التحمل تفوق طاقة الحمار، غير أنه لكل شيء نهاية، وقصارى القول لم تعد لديّ أي طاقة لتحمل المزيد، ورحت أعلل نفسي بأن كثيراً من ملفات القضاء قامت على الأكاذيب بنية النجاة، وما الذي أنا فيه إلا واحدة من تلك المحن التي يصعب دفعها بغير الكذب، وقد كان مطلوباً مني أن أفعل ذلك بإلحاح، جاء الحال مترادفاً من الجلاد بالدولاب والسوط والعصا، يتبع بعضه بعضاً، ويا له من شعور غريب، فنسجت لهم تلك القصة:

- كانت هناك في المدينة - مدينة فرانكفورت - غيرةٌ بين امرأتين كما هي الغيرة بين كل نساء الأرض، وكانت هذه الغيرة بين زوجتين لرجلين من أتباع العطار، تحوّلت إلى شجار ووصلت العداوة إلى الرجال فجاء العطار للإصلاح..

قاطعني سائلاً:

- من هما؟ ما اسمهما؟

- لا أذكر.

وتحت صرامة الكرباج والعصا..

قلت بأنني غير متأكد واخترت اسمين من هذه الأسماء، وزعمت أنني كنت بين الحضور.

- جميل، ما هذه الكلمة التوجيهية التي ألقاها هناك؟

- لم يلق أي كلمة توجيهية!

- لماذا؟

- لأنه كان مريضاً، فلم يقوَ على الحديث!

- حسناً كل ما ذكرت حتى الآن، اذكر اسم الشخص الذي نظمك في هذه العصابة؟!!

واخترت اسماً زعمت أنه هو الذي نظمني.

- هل هو سوري؟

- لا، أردني.

- أين كنتم تلتقون؟

- في مبنى خاص بالكنيسة!

وكادت كلمة الكنيسة تأتي بالكارثة من جديد!

- كنيسة يا حقير.. أتريد أن تنطلي علي هذه الحيلة؟ هذا الكلام من بدايته حتى الآن جانب الصواب، ولم تذكر شيئاً يبدي حسن نيتك في التخلص، هذا الكلام لا يعدو أن يكون خليطاً من الأكاذيب، لم تذكر لي ما يبدد الشكوك من حولك..

أقسمت الأيمان الغلاظ على ما أقول، مع أنني كنت على يقين أن هذا الذي قلته لم يتجاوز ضروب الخيال، سوى ذكر الكنيسة التي لم يصدق بها الباحث عن الحقيقة!

- من هو أول شخص أخذك إلى ذلك المكان؟

- نفس الشخص الذي ذكرته آنفاً.

- من رأيت هناك؟

ذكرت من الأسماء شرقاً وغرباً، وتجاوزت أسماء كان يساورني اعتقاد مرور أصحابها بهذه البلاد المغتصبة يوماً من الأيام، ولم يكن ذلك من باب الخوف عليهم فحسب، بل من باب الخوف عليَّ أيضاً، فمن يدري إذا ما وقع أحدهم في أيديهم؟ أي باب هذا الذي سيولجني فيه؟!

- حسناً من الذي كان يترأس اجتماعاتكم؟

وذكرت له اسماً شاء الله أن ينفعني في مقبلات أيامي، يوم أن أذن الله أن أقف في المهزلة التي كانوا يطلقون عليها المحكمة!

وكاد اسم رئيس الجمعية أن يعيد فتح ملف التحقيق من جديد، إذ أنه على حد زعم المحقق اسمٌ لا يملكه إلا نصراني، ولا أذكر كيف تجاوزنا هذه العقبة، مع أنني ضربت حتى التهمتني الغيبوبة لأكثر من مرة.

- هل أنت على بيعة للعطار؟

- لا أدري ماذا تعني هذه الكلمة؟!

- لا تحاول التملص.

ثم أشار عليّ بأن أرتدي بنطالي فقط، وأن أجلس على الأرض.

- والآن أجب؟

- على أي شيء؟

- هل بايعت العطار؟

- لا أفهم ما تعني؟

 ما زال ظهري العاري يشهد على آثار جريمتهم، حين قذف بكلمة ثم دوّت فرقعة السياط من جديد: ستفهم ما أعني!!

- فهمت يا حضرة المحقق.

- ماذا فهمت؟

- أن أبصم بأصابعي الخمسة!!

قام من خلف مكتبه، وسار باتجاهي، لطمني بكفه نافرة العروق، ثم سأل:

- ماذا تعني بأن تبصم بالخمسة؟

- على بيعتي للعطار.

- على أي شيء بايعت، وكيف كان ذلك؟

- بايعت على أن أقبل بفتاة يزوجوها لي، وحمل البيعة رئيس الجلسة.

- لم تبايع مباشرة؟!

- لا.

- هل قرأت بياناً صدر باسم العطار؟

- لا.

وراح يكرر عبارته الممجوجة الرديئة:

- ما زال الكرباج سيداً مؤدباً، ألا تسمع صوته في حجرة التحقيق المجاورة، هذه المرة سنأتيك ببساط الريح!!

ومن خلال خوفي أجبت:

- أذكر أنني قرأت له بياناً وُزِّع في فرانكفورت!

- ماذا قرأت فيه؟

- كان يندد باتفاقيات "كامب ديفيد"!!

ضحك، وارتفعت قهقهته تملأ ضيق المكان:

- تريد إلباسه ثوب الشرف والوطنية، كان البيان يدعو الشعب السوري للثورة والتظاهرات ضد سيادة الرفيق المناضل قائد الثورة، أليس كذلك؟

- كما تريد!

- هل دعوت أحداً للتنظيم؟ أو بلفظ أدق، هل قمت بتنظيم أحد؟

- لم أفعل ذلك!

- فكر جيداً!

- أذكر أن هناك شاباً جاء من الأرض المحتلة، دعوته لزيارة مكان اللقاء..

قاطعني:

- هل لبّى الدعوة؟

- لم يفعل.

- لماذا؟

- لأنه سافر بعد ذلك إلى جهة مجهولة.

- هل كنت تقرأ مجلات دينية؟

- لا يوجد هناك مجلات يمكن قراءتها.

- غير أنك لا تستطيع أن تنكر مجلة الرائد، والتي تصدر عن العطار في "آخن"؟!

- كنت أراها أحياناً.

- ومجلة النذير؟

- معلقة على لوحات الجامعة، يقرأها كل من يمر بمكان الإعلانات في الجامعة.

- من كان يأتيك بها من أفراد التنظيم؟

- أحياناً كان يأتيني بها "ناصر س.".

- هل هو سوري؟

- لا، من الأردن.

- هل سبق لك أن نظمت في الأردن؟

- لم أفكر بذلك يوماً من الأيام.

- أين كنت تسكن قبل أن تذهب إلى الجامعة بـ"دارمشتات" والتي ذكرت اسمها في التقرير الذي سجلته بيدك؟

- كنت أسكن في مدينة تسمى"افنباخ".

- هل يوجد فيها جامعة؟!

- لا.

- هل يوجد فيها مسجد؟

- نعم، تابع للأتراك.

- هل زرته بدعوة من التنظيم؟

- لا، ولكنني زرته للاطلاع فقط، وكان ذلك لمرة واحدة.

- هل تعرف أحد من سكان أم الفحم في الأرض المحتلة، من القادمين مباشرة إلى ألمانيا؟

- لا أعرف أحداً.

- من كفر قاسم؟

- لا.

- ما هو البرنامج الذي كان يُدرّس في الكنيسة؟

- قراءه بعض الآيات من القرآن، تفسير، وشيء من الفقه.

- هل سبق لك وأن قمت بإعطاء بعض الدروس؟

- مرة واحدة عن الحركة الصهيونية.

- هل تعرف الدكتور الفاضل..؟

- لم يسبق لي أن سمعت بهذا الاسم.

- هل قرأت مجلة الدعوة؟

- أين تصدر المجلة، ومن الذي يشرف عليها؟

- هذا يعني أنك لم تقرأها؟

- لم أسمع بها إلا منك الآن.

- هل قرأت بياناً للعطار يدعو إلى حمل السلاح ضد الحكم القائم في هذا البلد؟

- على حد معرفتي أن العطار يتزعم جناحاً لا يؤمن بالعنف!

- أيها الغبي هذا نوع من التكتيك السياسي!

- أنا لا أستطيع أن أحكم على الظاهر، ولقد قرأت في النذير بياناً يندد بالعطار، ويسمه بالتخاذل!

- هذا كلام للاستهلاك المحلي!

ثم سادت فترة صمت قطعها بسؤاله:

- هل قمت بزيارة المركز الإسلامي بـ"آخن"؟

- ظروفي المادية، والوقت لم يسمحا لي بذلك، فـ"آخن، Aachen" تبعد عن المدينة التي أقطنها ما ينوف عن"200" مائتي كيلو متر.

- متى كان آخر لقاء لكم؟

- لقد كان آخر عهدي بهذه الجماعة عام 1979م حين انتقلت إلى "دارمشتات" حيث انقطعت عنهم، وتفرغت لدراستي، ولم يعد لي بهم أي صلة تُذكر.

- هل لديك ما تضيف؟

- نعم.

وبدأ عليه اهتمام زائد:

- أي شيء بقي عندك لتضيفه؟

- متى ستطلقون سراحي؟

- في غضون الأسبوع الجاري، ولكن بقي هناك أمر..

- وما هو؟

- أن تسجل لي هذه المعلومات التي أوردتها الآن بخط يدك!

- لا أذكر منها شيئاً، أرجو أن تساعدني في التذكر!

- لك ذلك.

وقبل أن أنصرف، سمح لي أن أرفع الغطاء عن عيني.

كان شاباً في العقد الثالث من عمره، مربوع القامة، لا هو بالطويل ولا بالقصير، لونه يضرب إلى البياض، وفي وجهه حمرة، حليق الذقن والشارب، قد بدا الاهتمام واضحاً في هندامه، أنيقاً في مظهره، على عكس ما يحمل في داخله من الحقد تماماً، في سذاجة متناهية قلت له وقد رأيته منفرج الأسارير يقطر سماً:

- إذا ما تم الإفراج عني، فلك عندي هدية!

- وما تكون هذه الهدية؟

- هدية طالب ما زال ينظر إلى المستقبل، ولي عندك رجاء آخر أن تتأكد من هذه المعلومات التي حملتني على الإدلاء بها غصباً.

- نحن لم نغصبك على شيء، كل ذلك تم بمحض إرادتك، ومع هذا سأتأكد من كل ذلك بنفسي، فهذا واجبي!! هذا واجبي لا أستطيع التخلي عنه!!

- أنا لا أناقشك في واجبك، ولكن الواجب يحتاج إلى شيء من الإنصاف، أملي أن تبحث وتتأكد!

- نحن لا نظلم أحداً، وبالمناسبة هل أنت متزوج؟

- لا.

- إذاً كيف تعيش هناك بلا امرأة؟

وكانت فرصة بالنسبة لي ظننت أن فيها حبل النجاة، أبعد من خلالها صفة التدين عني، والتي صارت في هذا الزمن الرديء المقصوص سبة تفضي إلى حبل المشنقة فقلت:

- عندي صديقة!!

- تعيشون معاً؟

- نسكن متجاوريْن في المدينة الجامعية.

يبدو أنه مضى عليك زمن طويل دون أن تلتقي بصديقتك تلك، لذلك أنصحك بالتعويض!!

- وكيف ذلك؟

- في الحجرة المجاورة لزنزانتك حجرة مليئة بالبغايا، إذا كانت لك فرصة لا تفوتها!

كنت أعلم يقيناً ما يعني، وكنت أسمع أصواتهنّ تتناهى إلى مسمعي طوال الفترة الماضية، وكنت أدرك أي الحرائر هنّ، ومن أي البيوت جلبن عنوة إلى المعتقل، ولقد عشت ليلة تالية، قد جفا الكرى فيها عيناي، أتقلب على القاع العاري، ينبعث إلي صوت إحداهنّ عالياً مدوياً، قد اقتحم المحقق الجزار عليها زنزانتها يطلب إليها أن تعترف، فإذا لصوتها المنتهي إليّ صدىً يبعث في نفسي الخربة نداء الثأر المتبدد في الصحراء بلا مجيب:

رب وامعتصماه انطلقت

 

مـلء أفـواه الصبايا اليـتـم

لامسـت أسماعهم لكنها

 

لم تلامس نخوة المعتصم

ورحت أُفتش في دفاتر ذاكرتي وأوراقها عن موقف واحد ألتمس لهؤلاء السادة الجاثمون على صدورنا من خلاله العذر الذي يتركني في مصف المنصفين، إذ لا ظلم من طبعي لأحد، وكم تمنيت لو أن سيادة المحقق أسعفني بموقف شريف واحد لهم، حتى يكون له على فضل الإسعاف زيادة، وليته فعل، ولكنه أبى إلا أن يكون لصاً في أثواب اللصوص، وردّني الأثر إلى حقيقة مفادها أنه إذا لم تستحِ فاصنع ما شئت!!

أدركت مع توارد الأيام أن هذه العصابة الإثنية الطائفية تمارس جرماً ثأرياً، تتجاوز من خلاله حق الجوار والمواطنة، وذلك في اعتداء سافر على أدق وأخص ثوابت الشعب السوري الأبي، بدءاً ببيع جزء من الوطن حقيقة لا مجازاً، ورهن البقية الباقية للغرباء، مروراً بكل أطياف الفساد والقهر والعبودية، انتهاءً في استباحة نسائنا وأخواتنا وأمهاتنا وبناتنا، يتجرأ هؤلاء العلوج في جرهنّ من خدورهن إلى ظلمات السجون والمعتقلات كي تبدأ هناك آلاف الحكايات، التي لم يتسنَّ إماطة اللثام عنها بعد، حكايات لئن لم يبقَ للنظام من الرذائل، فيكفيه هذه الرذيلة، كيلا تقوم له بعدها قائمة من قوائم الكذب المدجن.

انتهاء المرحلة الأولى

في فرع التحقيق العسكري

تدثرت بالصبر، إذ لا ثوب غيره هنا يمكن للمرء ارتداءه، وبقيت الغرفة الانفرادية الموحشة الصماء التي لا تزيد عن مترين طولاً، ونصف المتر عرضاً، هو كل ما أملكه في لحظتي تلك من الدنيا، وبقيتُ الساعات الطوال بانتظار أن يفتح الباب عليّ ولو لدقائق، وبقيت أستجدي النوم الذي ما كان يزورني إلا لمماً، أن يعاودني ولو ضيفاً على ندرته لمرة، كي يوقظني صوت التعذيب من الحجرات المجاورة، وكانت حجرات التحقيق المكتظة بالمتهمين تعج بالصراخ والعويل، وأفتش في خبايا نفسي عن الثوار وأصحاب الثورات، فتنمو في قرارة نفسي آيات من اليأس والقنوط القاتليْن!

ومن خلال نافذة صغيرة في البوابة السوداء للحجرة التي جعلوا منها مأوى لي، رأيت مالكاً الجلاد - والذي صار اسمه في فرع التحقيق العسكري بدمشق رديف الرعب والخوف والهلع- رأيته لأول مرة، وسمعته يحادث نزيل المنفردة المقابلة لي تماماً على الطرف الآخر من البهو، ويناديه برتبة عميد، وهي رتبة عسكرية، يسأله عن دواء سيجلبونه له على حد زعمهم، فالعميد مصاب بداء القرحة، غير أن وقتاً طويلاً لم يكد يمضي حتى كان العميد هذا كومة من مسخ البشر، خليط من لحم وعظم ودم، ممدداً على الأرض قد سكنت فيه كل حركة، فسألتُ نفسي في صمت المتحسر:

- هل هؤلاء القتلة من بني البشر؟ في اعتقادي أن في الغابة من هم أرحم من أولئك؟!

مع الأيام أصبح فتح البوابة من الأمور التي لا أتمناها، سيما فترة الظهيرة والمساء، حيث الذهاب إلى "دورة المياه" ويا لسوء طالعك إذا ما تأخرت عن الدقيقة المقررة، دخولك يبدأ بالعد التنازلي من الرقم "10" عشرة وحتى الرقم "1" واحد، وما بين الرقمين وجب عليك الانتهاء من زيارة دورة المياه، والعودة منها، مصحوباً بالسياط تلهبك ذهاباً وإياباً.

لم أستطع العثور على حل مريح للمثانة التي كانت تمتلئ بالبول، ولقد استمررت على التبول في "القصعة" التي كانوا يقدمون لي فيها الطعام، حتى أذن الله لي بالرحيل.

ولا زلت أذكر عملية إسهال صاحبتني ليلة بطولها، ولما لم أجد ملجأً دققت الباب، سألت الجلاد بالله الذي يستر عليه أهله، في أن يأذن لي بالذهاب إلى دورة المياه، ليلتها سهرت المنفردات المجاورة على فرقعة السياط التي استمرت في الانهمار زمناً وكأنها زخات المطر المنهمر، فانشغلت بعدها بجروحي على ما بي من علة، وطفقت طوال الليل أسأل عن الشهامة، عن الكرامة، عن الأخلاق مجتمعة؟ فأطرقت إلى سر هذه المعاني في تلك الحياة الزاخرة الهادرة بكل غريب وعجيب، وأدركت مع الأيام بأنها كلمات جوفاء لا معنى لها، ولا بدَّ لكل لغة من لغات الأرض من هذه الكلمات، لتدل على أن هنالك عالم آخر فيه من هذه الصفات التي ربما لم يخلقه الله بعد، ولم يكن لي من بدٍّ كذلك إلا أن أجلد نفسي التي قضت عمرها تجري وراء هذا السراب الخادع الكاذب!

مرت الأيام ثقيلة عليلة، ليس لي فيها من بصيص أمل أهوّن به عن نفسي، وزارني طيف في غفوة تمنيت ألا يتجاوز أضغاث الأحلام، قد جاءني فيه أحد الجلادين، ملوحاً لي بكرباج في يده، وبيده الأخرى منفردة الأصابع ملقياً بالبشرى، بأن مدة بقائي في السجن لن تنقص عن عدد أصابع يده، وطفقت طوال المنام أفاوضه، رضيت منه بخمسٍ من الأيام، هز رأسه بالنفي، ثم خمس من الأسابيع، من الأشهر، وهو يكرر النفي، مضى في سبيله ثم التفت ليلقي بالفاجعة في مدة حجز لن تقل عن "خمس سنوات"، بعدها انطلق دون أن يلتفت.

عندما استيقظت على جلبة الجلادين، وهم يقومون بتوزيع الطعام الذي كانوا يسرقونه على شحته وقلته، تذكرت المنام، فغرقت في الرثاء لحالي، وما زلت بها على هذا الصورة، حتى رَقَتْ فمالت نفسي الراثية إلى البكاء، فتركت لها العنان دون أن أقاوم، فبكيت حتى علا نشيجي، وضاقت يدي على قلة حيلتي، وما زلت أقلبها وأنا على هذا الحال، حتى أسلمتني إلى الخوف الذي أشغل فكري بما هو آت من قادم فظيع.

وأنا أهمُّ بتناول ما يسمى طعام الإفطار جاءني الجلاد على غير انتظار، وكان ذلك يوم اثنين ولعله يصادف يوم الرابع والعشرين من شهر "مايو" عام واحد وثمانين وتسعمائة وألف، قذف لي بغطاء العين، وطلب مني أن أتبعه، وكانت الصرامة بادية في لهجته، ولم يبخل كالعادة، من إتحافي بسيل من الشتم والركل حتى انتهى بي إلى غرفة التحقيق.

لا أدري كيف أصف شعوري في هذه اللحظة، لعلهم تكشفوا الحقيقة، فجاءوني مبكرين بالبشرى، لكنني كنت خائفاً ترتعد فرائصي فرقاً، وكما عودوني، وجهي على الحائط بانتظار مجيء المحقق.

تسللت الرؤيا التي رأيتها بالأمس القريب إلى ذاكرتي، فكدت أسقط على الأرض!!

ويطل المحقق أخيراً، وما أن أخذ مكانه خلف مكتبه حتى بادرني بالسؤال:

- من الذي أرسلك بالسيارة؟

- شاب إيراني من أصل كردي عراقي!

- ما هو الهدف الذي جئت من أجله؟

- جئت بها مقابل أجر آخذه، بعد أن أقوم ببيعها.

- ما هي انتماءاته السياسية؟

- لا أعلم بأن لديه انتماءات سياسية.

- ماذا تعرف عن الشاب العراقي الذي جاء بصحبتك؟

- لا أعرف عنه شيئاً، سوى أنه أيضاً من أصل كردي.

- كيف تعرفت إليه؟

- تعرفت إليه في الحرم الجامعي، فهو يدرس في نفس الجامعة التي أدرس بها.

- إن التفاصيل التي أدلى بها لنا، تدل على أنه يعرفك معرفة جيدة، وقد أفادنا عنك بالكثير، فلماذا لا تنوي التحدث عنه؟

- لو كنت أعرف عنه شيئاً لتحدثت!

- ما زال لديك الكثير الذي لم تقله!

- يا سيادة المحقق، يبدو لي أنني تحدثت بما فيه الكفاية وزيادة، صدقني بأنني أُجبرت على التحدث عن أشياء لا أتصور حصولها حتى في الخيال.

- لنعد إذاً ثانية، ما الهدف الذي جئت من أجله؟

- أنتم تعلمون يقيناً بأنني حضرت في المرة الأولى، التي بعت فيها سيارة الفلفو، وبقيت أياماً ثلاثة في ضيافة أقرباء هذا الشاب العراقي في دمشق، ولقد واصلنا ليلنا عندهم بنهارنا، يمكنكم أن تتصلوا بهم، وتسألوا إن سبق لنا أن توجهنا لهدف يمكن البوح به؟

- لا تكثر الكلام، من تعرف من الناس داخل سوريا؟

- لا أعرف أحداً، وأقسم لك أنني لا أعرف أين أتجه في هذا البلد لو أُطلق سراحي، أنا غريب، أبحث عن لقمة الخبز التي أُجبرت على أكلها مغموسة بالدم!

- يبدو أنك لم تتعظ بدروس الماضي، من تعرف داخل سوريا؟

حاولت دفع هذه التهمة بشتى الوسائل، لكن ذلك لم يكن ليمنعهم من إعادتي إلى جولة جديدة من العذاب، ولم أجد في نفسي الطائحة تحت وطأة الآلام رغبة في الحياة، وصحت تحت السوط وكابلات الكهرباء التي كانت تنحط على جسدي المتفتت بدمائه الجارية، صحت بالجلادين:

- أنتم تريدون قتلي، هذا الأمر لا يطاق، يا إلهي..

وجالت بخاطري صورة أحد الأصدقاء من أبناء مدينة حلب، وتخيلتهم قد جاؤوا به في اليوم التالي، ليضعوه في الصورة التي أنا عليها الآن، فأغمضتُ عيناي المقفلتان وأنا أردد بيني وبين نفسي، لو قطعوني إرباً لن أبوح بهذا الاسم، هم على كل حال مزقوني، فعلامَ الخوف؟!  تجلَّد، وكما لو أنني أخذت قراري الذي جاء متأخراً، تجلَّد، وهل بقي بعد الذي قلت يا صاح، ما تقول..

لا أدري كيف توقفوا، ولا أدري متى توقفوا، لكن الذي أدريه أنهم كفوا عني أخيراً..

صاح بي صوت لا أعرف مصدره:

- قم واقفاً، حاول أن تراوح في مكانك؟!

شرعت أراوح مجبراً في مكاني، وكانت الدماء تبدو من أسفل غطاء العين قد ملأت أرجاء الحجرة، وأبصرت ساقي من أسفل غطاء العين المطبقة، والتي بالكاد أن أبصر من خلالها، رأيتها عارية تماماً من الجلد!! ولم يصرفني عن هذا المنظر المريع إلا سؤال المحقق:

- لقد حضر العطار عام 1980 إلى "فرانكفورت"، حيث ألقى هناك محاضرة، ما الذي قاله في المحاضرة التي ألقيت في حرم الجامعة هناك؟

- لا أذكر بأن العطار حضر في هذا العام.

- للمرة الأخيرة، لا تناور!

لا أعلم ما يريدونه من وراء هكذا أسئلة، وما زادني تخبطاً في مجاراتهم عند كل سؤال يطلبون مني الإجابة عليه، هو جهلي بخبثهم، وانعدام تجربتي، بالإضافة إلى عدم التقائي بأي من الموقوفين ممن يسبقوني - كغيري ممن كانت له فرصة الاطلاع وأخذ الحيطة والحذر- وإلا لكانت النجاة بالنسبة لي صبر ساعة، لكنه قدر الله الذي ما كان له إلا النفاذ، وله الحمد على كل حال، لذا كنت أجد في اختصار الإجابة ما يفي بدفع الضرر الآني إلى المجهول الذي لا يعلمه إلا الله فأقول:

- تذكرت، حضر، ولم أستطع الاستماع لمحاضرته، فقد كنت منشغلاً بالامتحانات.

وأكتفي بهذه الإجابة، وإني لأقسم بعد انقضاء هذا العمر المرير البائس، بأنني لا أدري إذا حضر العطار يوماً من الأيام، أو ألقى محاضرة في جامعة من جامعات أو جامع من جوامع "فرانكفورت" بالذات، ولله المشتكى من كذب هؤلاء وفجورهم، لا سيما إذا كانت تدعم فجورهم وكذبهم قوة بغي وعدوان غاشمة.

تركوني أعود قبيل الظهيرة إلى حجرتي، بقي الباب الأسود المطلي بالقار مسدوداً عليّ فترة الأسبوعين التاليين، أما صاحبيْ قضيتي التركي والعراقي، فلم أعد أسمع عنهما شيئاً طول هذه الفترة.

كنت أدخن، قد مضى عليّ في هذه العادة حتى يوم اعتقالي قرابة الخمسة أعوام، ولقد جردوني من كل شيء، من السجائر والنقود- ويا لهف نفسي!!- لقد جردوني من الكرامة، فلا أسفاً على الرخيص ما داموا قد مضوا بالغالي النفيس، فما قيمة أي شيء، بل أي شيء كان إذا فقد الإنسان حريته وكرامته!!

كنت من وقت لآخر أستمع إلى رجاء النزلاء في الغرف المجاورة يتمنون على السجان أن يأتيهم ولو بأعقاب السجائر، وكان بعضهم يفعلها، ونادراً ما كان بعض السجانين يفعلون ذلك، والبعض الذي يمتلك السجائر كان يسأل عن النار التي جردوه منها أيضاً، لم أقدم على أي شئ من ذلك، مع أن نفسي كثيراً ما كانت تتوق إلى ذلك وتتمنى.

طال عذار وجهي ونبت، وتلبّد شعري وتشابك، وكانت رائحة العرق المنبعثة مني تبعث عليّ الاشمئزاز والتقزز، وصار في حكم المسلّمات هنا أن لا شيء يبعث على الراحة أو الاطمئنان، وجاءني أحد السجانين ذات مساء، ودون طلب مني فتح عليّ الباب، وقادني إلى دورة المياه، حيث أعطاني بعض الوقت لأغسل نفسي، كان الماء بارداً، برودته لم تقف حائلاً دون تناوله، لقد وجدته أفضل حمام أتناوله على مدار عمري، فجلست في هذه الليلة أشكر الله هذه المنة التي لم أنتظرها، وما كنت أتوقع حصولها، ثم جاشت نفسي بالبكاء فبكيت!

جاءني الحلاق ذات صباح، ومن خلال فتحة الباب، سألني:

- أتريد أن تحلق؟

أجبت بالإيجاب، ولما سألني إن كنت أملك نقوداً، أجبته بالنفي، سد الفتحة وانطلق إلى الغرف المجاورة.

عليك دفع خمس ليرات أجرة حلاقة!

كان الجلاد مالكاً يمر بنا كل مساء ليُدوّن الحضور، وكان يتم ذلك من خلال نقرة ينقرها بقلمه على الباب، فعليك أن تصيح من الداخل معلناً وجودك، والذي كان يهالني سؤاله كم العدد؟ أي عدد الموجودين داخل هذه الأمتار القليلة، فأهتف من أعماقي يا إلهي، وهل تتسع هذه الحجرات لأكثر من واحد!

 في أخريات أيامي في هذه الحجرة، زارني طيف منامٍ جديد، مفاده كما لو أنني كنت أهوي على حافة بيت عالٍ نحو الأسفل، وفي منتصف المسافة صار خلل في البناء، انحرفت بموجبه الحافة إلى شطرين متباعدين، وكان النتوء الذي صار في الوسط، ينبئ بأنني سأهوي بعد قليل في الهواء، وحين صرت أهوي، أبصرت في أسفل البناء رجلاً كان يعمل في مدينة "دارمشتات"، المدينة التي كنت أدرس فيها، فصحت به ليدركني، ففعل الرجل إلى أن وصلت إلى بر الأمان، وفي المنام أدركت بأنني سأعود بعد زمن لا يعلمه إلا الله إلى المدينة، لأرى أن كل معارفي قد رحلوا عنها باستثناء هذا الرجل الذي سيكون في استقبالي، في الصباح الباكر، جمعت هذا المنام إلى سابقه، وأسلمت أمري إلى قدري بانتظار ما سينفذ بي!

 في أحد الأيام من أخريات شهر أيار "مايو"، الشهر الذي اعتقلت فيه، قادني أحد الجلادين بسوط في يده، يلهب به ظهري إلى حجرة من حجر التحقيق، وهناك طلب مني أن أضع توقيعي على ما لم يصدر عني من الأعمال أو الأقوال! وقفت أمام المحقق دون عصبة العين هذه وكان برفقة المحقق رجل آخر، لعله متدرب جديد، بدا لي من الغباء بمكان، قد خرج لتوه من صالون الحلاقة، لشدة اهتمامه بترتيب شعره، وشاربه الأشقر المسبسب فوق شفته العليا، وحذاءه الملمع، حيث جلس واضعاً ساقاً على ساق، ولم يكلف نفسه كبقية المحققين خلع جاكيته الأسود "السموكن"، بدأ حديثه بمحاضرة طويلة عن الوطنيات والأخلاق، وسألني مستغرباً:

- كيف تقبل لنفسك كشاب مثقف ومتعلم الانخراط في صفوف هذه العصابة الإجرامية العميلة؟

ولم يكن ينتظر مني جواباً، لكنه توقف ليسألني عن أصلي: هل أنت أردني بالأصل أم فلسطيني؟

قلت بإيجاز:

- فلسطيني!

عندها نحا بالحديث منحاً جديداً:

- أنا أعرف الكثير من الفلسطينيين، ولي من بينهم أصدقاء كُثُر، كلهم منشغلون بقضيتهم المركزية، فما الذي دهاك لتنحو هذا المنحى؟ فأنت تعلم بأن سوريا هي البلد الوحيد، الذي يقف بحزم في وجه كل المخططات التصفوية التي تريد أن تطال هذه القضية!!

وقطع المحقق هذا الحديث بقوله:

- ابدأ بتبييض أقواله، فأنت ولا شك تملك خطاً جميلاً!!

شرع هذا بتدوين أقوالي، وبدا لي أنهم كانوا يدربونه على كيفية إجراء التحقيق كما أسلفت!

كنت طوال الوقت أصحح لهم صيغة الإجابة، فقواعد اللغة كانوا لا يجيدونها، فلم أجد في نفسي غضاضة من أن أرتب لهم حتى تلك الأكاذيب التي يدينونني من خلالها، وفي ختام التحقيق دوّنت اسمي وتوقيعي بعد أن سجلوا لي عبارة مفادها، أن هذه الأقوال أُخذت بمحض إرادتي وبأريحية تامة دون إخضاعي لأي ضغوط جسدية أو نفسية، فانظر - يا طويل العمر- إلى هذه الصفاقة الواضحة، وكدت أضحك ولعلني فعلت ذلك في أيام قادمة كلما تذكرت هذه الصفقة الرابحة الخاسرة!!

يوم السابع عشر من اعتقالي تماماً، ولعله يوم الخامس من "يناير" حزيران نفس اليوم الذي اجتاحتنا فيه إسرائيل حتى العظم، جمعونا نحن الثلاثة العراقي، التركي، وأنا، وبعد أن سلّمونا ودائعنا، شرع بعض الجلادين في توجيه التهاني لنا بالفرج الذي منّ الله به علينا، وشعرت بنشوة لم أعهدها في نفسي، حتى كدت أن أبوح بها لصديقي العراقي، لكنني كتمت ذلك إلى ما بعد، وبدأت أُمنّي نفسي بلقاء الأصدقاء والأهل، وما عساني سأتحدث لهم، أيام من العذاب حفروها على شغاف قلبي، لا أعتقد بأنني سأنساها ما حييت!

لكن الأمل بالفرج ولقاء الأهل والأحبة سرعان ما تلاشى، ولفنا وجوم قاتل، فلقد أصبحت أيدينا في القيد الحديدي من جديد، وعصبة العين عادت ثانية لتحجب عنا أنوار الدنيا، وكأنها القدر الذي لن يفارقني حتى آخر أيام معتقلي!!

حين ركبنا السيارة المغلقة، لم تفارقني طوال الطريق صورة هذا الشاب العراقي الذي جردوه حتى من شعر رأسه، وبدا لي نحيلاً هزيلاً وكأنه استعار ملابسه التي يرتديها من رجل بدين، واختلطت المشاعر عندي وتباينت، فلم أعد أدري أيّنا كان الأجدر بالرثاء؟!

فرع العدَوي بدمشق

هذه دمشق ثانية بشوارعها وأزقتها غارقة في اللهو والبيع والتجارة، كانت أصوات الباعة في الطرقات تصل إلينا، وكانت المدينة وكأنها في يوم البعث، جلبة وحركة، لا أعتقد جازماً بأن أحد من أهلها كان يدري بنا.

وكانت السيارة تطوى بنا الطرقات في سرعة غير معهودة في تلك المدينة المأهولة، وقد أجبرنا على إنزال رؤوسنا إلى ما دون حافة المقاعد، كي لا يرانا أحد من قطيع البشر اللامبالي، اللاهي العابث، وكدت أرثي من هذه اللفتة التي جاءت في غير مكانها.

- ماذا يجرى لو رآنا أحد على هيئتنا تلك؟ لا أعتقد بأن أحد سوف يعبأُ بنا، فضلاً عن التحدث بشأننا، ومن نحن حتى تتجافى الأمة عن جنباتها من أجلنا.

أخيراً وصلت السيارة، تهادت في طرق مجهولة، على الأقل بالنسبة لي، كل شيء من حولنا غارق في الظلام، سوى قعقعة السلاح الساهر في أرجاء المكان، قد ضاق على المسلحين لكثرتهم.

ساقونا بعنف إلى دهليز تحت الأرض، لعلني لا أبالغ إن كنت يومها أقول بأنني عددت ما يزيد عن العشرين من درج السلالم التي هبطتها، متلمساً طريقي بصعوبة رغماً عن العصبة التي ما زالت تغطي عيني.

في ممر صغير يطلّ على حجرة تسليم ما يسمى بالأمانات الذاتية، على يسارها تماماً تقع حجرة لبعض السجناء القضائيين، في الوقت الذي يطل فيه الممر على حجرة أخرى تسمى حجرة الصالون، على طرفها الأيمن دورة للمياه، وعلى الطرف الآخر حجرة "البوفيه" كما يسمونها، وهي عبارة عن حجرة يحضرون فيها وجبات الطعام الممسوخة، في هذا الممر الضيق استوقفونا لبعض الوقت، ريثما ينتهون من إجراء بعض الروتين لمن سبقونا هذا الصباح من المعتقلين، قبل إدخالنا إلى مكتب الأمانات، هناك تم استلامنا من الدورية التي جاءت بنا، وتم تبديل القيود وغطاء العيون، ثم نادوا علينا جميعاً، كي نخضع بعدها لتفتيش دقيق، حدجني المجند السجان بطرف عينه وهو منكب على دفتر سجلات كبير، وبين يديه قلم حبر جاف، وفي يده الأخرى سيجارة من النوع المستورد الفاخر، راح يشتمنا وهو يعكف على تقييد أسمائنا، واستلام ما نحمل من أوراق ثبوتية خاصة بنا، غابت عنها الأوراق الخاصة بالسيارة، وساعة اليد، راح ينشغل في تدوين بطاقة الزج، ثم أمرنا - هذا الطفل الذي لم يُفطم بعد، ولم ينبت شعر وجهه بعد - بأن نخلع ملابسنا للتفتيش، بعدها اقتادنا إلى حجرة الصالون التي اصطفت في صدرها وعلى جانبها الأيمن الحجرات الانفرادية ببواباتها السوداء، في الوقت الذي أودع صاحبي العراقي المنفردة رقم "1"، طلب إلينا أن نأخذ أماكننا مستلقين على ظهورنا وعلى فرشات ما رأت عيني ولا أظنها سترى أقذر منها، بين أكوام من البشر المكدسة في غير ما حراك وكأنها توابيت قدامى الفراعنة المسندة!!

كانت هذه هي المرة الأولى التي ألتقي فيها البشر منذ اعتقالي، حيث المحقق والسجان مستثنيان من الانتماء للبشر، وإني يشهد الله لأربأ بالحيوانات أن أنسب أحداً من اجتماع النظام البعثي الأثني الحاقد في دمشق إلى أدناها في سلم الترتيب، لا إلى أرقاها، فالحيوان مأمون الجانب إن أشبعته، أما هؤلاء المجرمون القتلة فلا حد لإجرامهم ولا حدود لجشعهم وتعطشهم لرؤية المزيد من الدماء والمجازر.

لم يؤذن لنا بإزالة القناع الذي يغطي أعيننا، أو فك القيود التي تسور أيدينا، وكان المجند الحارس يقوم على الباب بمراقبتنا خشية أن يحدث أحدنا الآخر، ويا له من يوم أسود إن ضُبط أحد يفعل ذلك، فالحديث ممنوع بالمطلق، والحركة كذلك، ولم يعد لي في هذا المكان اسماً ينادونني به، فقد صاروا ينادونني بلغة الأرقام وصار رقم "11" أحد عشر، هو اسمي الجديد في فرع العدوي العسكري!!

استطعت مع الأيام وارتحال الوقت خطف الكلام في غياب الحارس لقضاء بعض حاجياته، وكنت أجدها فرصة مواتية للتعرف إلى بعض النزلاء، وكان من بينهم مجموعة من ريف دمشق من منطقة تدعى كناكر وبدا لي أن صلة قربى تجمع بينهم، ثلاثة مدرسين لمادة اللغة العربية، وأما الرابع فخريج كلية شريعة، وهو ملازم مجند في أحد المطارات، ذكر لي بأنه يُعتقل الآن للمرة الثانية، فقد أوقفوه في المرة الأولى لما يزيد عن الشهر، ثبتت بعدها براءته وأُطلق سراحه، التهمة الموجهة إليهم جميعاً في هذه المرة، هي تهمة الانتماء لحركة الإخوان المسلمين، وكان أحدهم لا يفتأ في كل مرة يذكرني بأنه ترك أباً مسناً وأطفالاً وزوجة، وزروعاً استوت على سوقها قد حان أوان حصادها، فمن سيقوم بهذه المهمة الجليلة؟!

فألفت انتباهه دوماً إلى ضرورة الانشغال بنفسه، فأهله لن يعدموا فاعل خير -على شحته - يقوم بتدبير شؤونهم ريثما يمنّ الله عليه بالفرج!!

كان يقبع في زاوية من زوايا الصالون شاباً نحيل الجسم، أبيض البشرة، فارع الطول، بدت على محياه ابتسامة وهو يقدم لي نفسه قائلاً في همس شديد كي لا يسمعه الحارس:

- اسمي غسان، طبيب مجند برتبة ملازم، دمشقي المولد والسكن، أنتظر ترحيلي إلى سجن تدمر العسكري!

بهذه الكلمات المقتضبة عرّف عن نفسه، ولم أكن في وضع نفسي أستطيع من خلاله الاستزادة، لكنني اكتفيت بإخباره عن اسمي والبلد الذي أنتمي إليه، سألني ثانية:

- هل تصلي؟

كان كل شيء في هذا المكان يبعث على الريبة والشك، وقولك أمام أحد المخبرين الذين كثيراً ما كانوا يبثونهم بيننا بأنك تصلي كفيلة بأن تحملك في أيام مقبلة على دفع الثمن غالياً! ولم أجد من بدٍّ بأن أجيب بالنفي!

زادت ابتسامته انفراجاً وهو يخبرني:

- في هذه الأمكنة قد يخسر المرء دنياه شاء أم أبى، فلا أقل من أن يكسب آخرته، فابدأ من الآن، أجل من الآن قبل فوات الأوان!

في الطرف المقابل لي تماماً وبين "التوابيت" الممددة من البشر، رأيت رجلاً مسناً، أخبرني بأنهم جاؤوا به مع زوجته، مخلفاً الأخرى مع كومة من الأطفال في البيت لا حول لهم ولا قوة، والمشكلة التي لن يغفروها لصاحبنا ذاك، هي في شقيق الغالية هذه التي جاءت بصحبته، فقد أمضى في ضيافتهم ليالٍ ثلاث، دون أن يعلمهم بأنه من بين المطلوبين للمثول أمام قضاة الدولة العدول، الذين لا يظلمون أي عميل تثبت عمالته لـ"إسرائيل"، ولما تبين أن عمالة هذا المسكين هي لله ولرسوله وللمؤمنين، وأن لا شيء يربطه بالأحباب في إسرائيل آثر التواري عن الأنظار مثله مثل الآلاف من البشر الأبرياء الذين لا علاقة لهم من قريب أو بعيد.

نادوا علي في اليوم التالي، وكان الرقم الذي ينادون به عليّ هو رقم "11" كما حدثتكم سابقاً، لم يتغير عليّ شيء، فيداي مقيدتان، وعيناي محكمتان تحت الغطاء، مضوا بي إلى الطابق الأول، أدخلوني إلى حجرة رئيس الفرع، حيث كان في انتظاري.

 اكتفى في هذه الجلسة بالسؤال عن أقربائي، بدءاً بي وانتهاءً بكل أعمامي وأخوالي مع كل أبنائهم، ثم أذِن لي بأن أعود إلى الصالون دون أي أذى، فقد كان منظري الذي قدمت فيه من فرع التحقيق العسكري يغني عن أي مزيد، كما خُيّل لي، أو لعلني أردت أن اقنع نفسي بذلك ولو إلى حين.

طمأنت نفسي الغارقة بالتفكير إلى ما سيأتي في غدٍ قريب، وبدأت أوطنها على تحمّل العواقب وإن كانت مُرّة، وفوّضت إسلام الأمور إلى من لا تغفل عينه ولا تنام، وأبرمت أمراً قال به القدماء مفاده أن دوام الحال من المحال.

رأيت صديقي العراقي ذات يوم من شق المنفردة التي نسي الحارس أن يوصدها، فطمأنته إلى مجريات التحقيق، وأعلمته بأنه في عافية من كل تهمة، ولعلني فهمت منه هذا الأمر بالنسبة لي كذلك.

جاء اليوم الثالث على وجودنا في هذا المكان المكفهر الثقيل، فنادوا علينا جميعاً، وفي بهو صغير وقفنا بانتظار أن ينادوا على أسمائنا ولم يطل المكوث، فقد نادوا عليّ بدءاً، كنت أشعر بجفاف في حلقي، وصداع في رأسي، وبالكاد أن تحملني قدماي، صاح بي المحقق الذي جاءني صوته جديداً غير مألوف، صاح بي أن آخذ مكاني على مقعد ذكر لي بأنه موجود خلفي تماماً، وما أن التهمني المكان حتى بدأ أسألته:

- هل تريد أن تضيع "فرق عملة" بين النظامين الأردني والسوري؟

 وسألت في استغراب:

- لم أفهم ما تعني!

وكرر:

- هل تريد أن تكون "فرق عملة" بين النظامين؟

 ومع أنني لم أفهم العبارة أجبت:

- طبعاً لا أريد أن أكون "فرق العملة" هذه!

- إذاً، تخرج الآن لتناول كوب من الشاي، وتفكر جيداً!

في حجرة "البوفيه" الصغيرة، حيث مجموعة من الجلادين جلسوا هناك بعيونهم الجاحظة، وملامحهم القاسية، كأنهم القردة الممسوخة في أشكال البشر، جلسوا يتجاذبون أطراف الحديث ويثرثرون فخورين عن أساليب التعذيب الوحشية التي مارسوها مع بعض البؤساء من أمثالي، وأذنوا لي في إزاحة غطاء العين قليلاً كي أتمكن من تناول كوب الشاي، ولم يكن لديّ ما أمعن التفكير فيه في هذه اللحظة، ولا زلت أردد في نفسي سر المقولة الخالدة بأن دوام الحال أبداً هو شيء من المحال!!

أدخلت بعد ما يزيد عن نصف ساعة من الزمن تقريباً، وتناوب التحقيق معي رجلان من أشباه الرجال ولا رجال، أحدهما كان يتخذ أسلوب الترهيب والعنف، وأما الآخر فقد كان مرغباً لطيفاً ليناً، وفي كليهما باتت رائحة الابتزاز عفنة تزكم كل أنف سويّ، سأل الأول وقد بدا أدنى رتبة، لأنه كان يخاطب الآخر بلقب "سيدي":

- ما هو الهدف الذي كُلِّفت به في سوريا؟

- لم يكن هناك أي هدف.

- سيارة مرسيدس "sel 280" تأتي بها كل هذه المسافة بدون أي هدف، هذا مستحيل؟!

- السيارة التي جئت بها، ليست ملكي أولاً، ثم أن الهدف ذكرته سابقاً في مكان آخر - ولم أكن حتى ذلك الحين أعلم اسم المكان ولا الجهة التي يقع فيها فرع التحقيق العسكري هذا-..

- ماذا فعلت بثمن سيارة "الفلفو" التي سبق وبعتها في المرة الأولى؟

- استخدمته في إيفاء مصاريفي الخاصة بالإضافة إلى مصاريف دراستي الجامعية.

- مَن هو صاحب السيارة الأصلي؟

- الفلفو؟

- لا، المرسيدس؟

- شاب كردي يحمل التبعية الإيرانية.

- ماذا يعمل؟

- يدرس في كلية الآداب في جامعة فرانكفورت بألمانيا الغربية.

- مرة ثانية، بمن كنت ستلتقي في دمشق؟

- لا يوجد أحد أعرفه في دمشق يمكن أن ألتقي به.

وجاء صوت هادئ لطيف:

- يا سيد "أبو الخير" نحن نعلم بأنك قادم من طبقه كادحة، ولديك أهل وأخوة، وأقسم لك بأولادي، والذين هم أغلى شيء أملكه في الدنيا، بأننا لا نريد لك إلا الخير، وصدقني إن صدقتنا، صدقناك وعملنا على مساعدتك، نحن نسعى للتعامل معك بالإسلام النظيف، إسلام المحبة، إسلام الإخاء والوفاء، لا إسلام الإجرام والقتل والتنكيل..

وقطعت عليه حبل الاسترسال:

- يا سيدي، ليتني أكون على مستوى الإسلام هذا الذي تتحدثون عنه، صدقوني بأنه لا تجمعني أي علاقة بكل ذلك منذ ما يزيد على ثلاثة أعوام، ولا يوجد لي علاقة بأي أحد.

علا صوت من خلف المكتب:

- لا تفيد الحسنى معك!

وراح يوجه الحديث بعد ذلك لصاحب الصوت الهادئ:

- يا سيدي لا يجدي مع أمثال هؤلاء إلا العنف، هذا ما عرفناه عنه في فرع التحقيق العسكري، يكفينا ما قاله، إذا كان لا يريد أن يتعامل معنا "بالتي هي أحسن" حولناه بتهمة "الإخوان" إلى محكمة ميدانية بموجب المرسوم "49" لتحكمه بالإعدام!

لم يفاجئني هذا الخبر فأنا أعلم بأن كل شيء وارد في دولة العسكر.

وعاد يكرر من جديد:

- ما هو الهدف الذي جئت من أجله؟

- لو كان هنالك هدف كما تقولون، يمكن أن أكون قد أتيت من أجله، لوجب أن يكون له من الأسباب المادية، ولو دليلاً واحداً ينبئ بذلك، لقد فتشتم السيارة بدقة، وخضعت وزملاء رحلتي إلى نفس التحقيق والتفتيش، وأعتقد بأن زملاء رحلتي- لا سيما العراقي حيث الآخر لا يتكلم العربية - أفادوا بما يبرأني من هذه الفرية، فلم كل هذا الإلحاح..

- أيها الحقير..

وترادفت على مسمعي سيمفونية الشرف والعهر الوطني المقيت:

- أنت تعلم بأن سوريا هي الوجه الوطني والوحيد، الذي يقف في وجه كل هذه الردة الرجعية، ونحن نعلم بأن "ملككم" قد لحق أو على وشك أن يلحق باتفاقيات "كامب ديفيد" كما فعل العميل أنور السادات، وهذه العصابة عصابة الإخوان المسلمين تعمل لإجبار سوريا على اللحاق بهذا المخطط، وهذا حلم سوف يموتون جميعاً قبل أن يدركوه!.. وأردف في تهكم:

- ملككم مطلوب لنا لنحاكمه على ما اقترفت يداه، ولما كان ذلك متعذراً علينا، فأنت الآن في مكانه!

تبسمت في مرارة وأنا أستمع إلى كل هذا الهراء الوطني الأجوف:

- لو كنت أدري يا سيدي بأنني على هذا الجانب من الخطورة، صدقني لو كنت أدري لكنت احتطت لنفسي.

- ماذا تعني بهذه الحيطة؟

- كنت أسافر بالطائرة إلى الأردن دون المرور بسوريا مثلاً، كنت أسافر بالبحر، كنت آتي عن طريق العراق، هناك طرق كثيرة يمكن الحضور بها إلى الأردن، ولقد حضرت في المرة الأولى وسافرت، فماذا سجلتم عليّ من الأعمال المخلة بأمن البلاد، والتي يمكن أن أواجه بها في هذا المكان؟ اسمحوا لي أن أسال بدوري، ماذا تريدون من وراء كل هذا الإلحاح؟ والله هذا حرام فأنا طالب لا شأن لي بكل هذا الذي قيل ويقال.

دخل الصوت الهادئ من جديد، ليبدد بسمومه الناعمة أمل إنهاء هذه الجولة من التحقيق:

- أنت لا تنتمي إلى العطار فقط، بل لك صله جيدة "بعمر التلمساني"!

 وسألت في صيغة المستنكر:

- من يكون هذا الأخير؟

- أنت كاللاعب على الحبلين!

واكتفيت بالصمت دون أن أجيب، وجاء صوت الجالس وراء المكتب وكأنه القنبلة:

- لأي التنظيمات الفلسطينية كنت تعمل؟

- كنت أعمل في اتحاد طلبة فلسطين.

- جميل هذا الحديث، ماذا كنتم تتبادلون في جلساتكم من الأحاديث حول سوريا؟

- لم نتبادل ما يضر بسوريا، ولقد أيدنا سوريا في الأحداث الأخيرة التي جرت في لبنان!

- هذا يعني أنكم لم تؤيدوا ما مضى من الأحداث؟!

- لم أقل ذلك!

- ما هي البيانات، أو المحاضرات التي أدليت بها عن أوضاع سوريا في اتحادكم هذا؟

- لم يسبق أن حاضرت في الاتحاد عن أي موضوع..

- لدينا إثبات يؤكد بأنك هاجمت سوريا في إحدى الجلسات؟!

- غير صحيح، وإذا كان ذلك كما تقول سيادتك، فلا داعي لمحكمة ميدانية، يكفي أن ينتهي الأمر هنا بمسدسك الخاص.

وصاح بأحد الجلادين:

- خذه إلى الدولاب!

لم يمهلوني لأسير على قدمي إلى هناك، فقد سحبوني إلى حيث الدولاب، وهناك حشروني بداخله حشراً، وفي دقائق كنت أدور مع الدولاب حيث دار، قدماي مرفوعتان في الهواء قد اجتمعت عليّ زبانية البغي، كبرهان جديد، يؤكد لي بأن في الدنيا جحيماً نصطلي به، يشبه في اعتقادهم كما كانوا يصرحون جحيم الآخرة الذي سيدخلونه بمشيئة الله لا محالة، يصطلون به جزاءً وفاقاً جراء ما اقترفت أيديهم من طغيان فاق كل تصور وتجاوز كل طاقات البشر، سيحرمهم الله بدعاء المظلومين جنة تسكن قلوبنا في الدنيا، سوف نراها رأي العين في الآخرة بإذن الله، وتجلدت تحت سياطهم، ولم أجد ملجأً إلا الله، أناجيه في ساعة العسرة هذه، ولم يكن ليصرفني عن هذا النداء شتمهم لإلهي الذي قالوا لي بأنهم لا يخافونه، وإذا كان بإمكانه فليأتي لنجدتي، وإذا جاء فسوف يضعونه مكاني!! وقلت في نفسي: يا رب، إنك تسمع وترى، فاضت روحي من الألم.. ولم يكن للزمن حساب، فرحت أغط في غيبوبة لم أفق منها إلا على صوت الطبيب، والمياه تغمرني، أمرٌ تعودته في مرات سابقة.

وأجرى الطبيب الفحوصات كاملة، فأكد بأنني في وضع جيد، وبإمكاني أن أقف على قدمي، لكنني لم أقم ولم أقف، ولم أشعرهم بصحوتي، عندها صاح بهم الطبيب:

- أعيدوه إلى الدولاب، فهو ممثل - على ما يبدو- لن تنطلي ألاعيبه علينا!!

يا سبحان الله، حتى الطبيب، صاحب الرسالة الإنسانية، صاحب القسم القانوني، أين القانون؟ وأين القسم؟ بل أين الرسالة الإنسانية التي يحملها أمثال هؤلاء؟ أجلاد هذا أم طبيب؟!

عبارة استمررت في ترديدها عشرات المرات، ولن يفتأ لساني يرددها ما ضمني هذا المكان، وطفقت أبحث عمن أشكو إليه حالي، فردتني خبايا نفسي إلى سر ما قاله يعقوب الرسول عليه السلام:

- "إنما أشكو بثي وحزني إلى الله".

راح الجلادون يسندون ظهري الممدد على الأرض ليعيدوه إلى الدولاب ثانية كما طلب الطبيب، صاحب الرسالة الإنسانية، ثم راحوا يتركونه في الهواء معلقاً، يختبرون من خلال ذلك غيبوبتي التي قال الطبيب أنها من ضروب التمثيل، وكلما تركوني معلقاً، تركت جسدي الواهن يهوي إلى الأرض دون أن أقاوم، ودخل المحقق على حين غرة، فأعلموه بأنني أتصنع الغيبوبة، عندها صاح:

- إليّ بجهاز الكهرباء؟!

جاؤوا به على عجل، ولم ترافقني في مرات سابقة هذه الطمأنينة التي رافقتني في هذه اللحظات، فبدأت أستسلم لقضاء الله النافذ، وما الأعمار والأرزاق إلا بيد الله، ولن يزور الموت نفساً إلا بعد استيفاء أجلها ورزقها، فعلام الخوف إذاً؟ وغبطت نفسي على هذه النعمة التي ركنت إليها في هذه الدقيقة.

وجيء بجهاز الكهرباء، طرفه الأول مربوطاً على سبابة يدي، وطرفة الآخر في فمي، وجاءت الصدمة الأولى، وكأنها المخدر يسري في الجسد عنيفا سريعاً، قلت نتجلد ونحتسب، ولما لم أفق أعادوها مرات ومرات، ثم كانت صعقة، جاءت كسيل شلال عارم شقت طريقها بعنف في أنحاء جسدي المختلفة، انتصبت على إثرها جالساً!!

قال الطبيب الذي ما زال واقفاً يتلذذ بما يرى:

- لن يفيدك التمثيل، قم وارتدِ ملابسك - فقد كانوا عروني منها - وحاول لبس حذائك، أو احمله في يدك إذا كنت لا تستطيع لبسه، بإمكانك أن تعود إلى الصالون، لا تنسَ أن تبدّل ملابسك المبللة، فقد أصبح الوقت متأخراً، ولا مجال الآن لمتابعة التحقيق.

عوضاً عن تركي أمضي إلى الصالون، وجدتهم يدلفون بي الباب إلى حجرة التحقيق ثانية، ولم يأذن سيادة المحقق لي بالجلوس خشية أن أبلل المقعد كما زعم، وفي لهجة من يتشفى:

- والآن ألا تريد أن تخبرنا عن تلك المحاضرة؟

- أقسمت لك بكل عزيز، بأن شيئاً من هذا لم يحصل في أي يوم من الأيام.

- لدينا شريط مسجل بذلك؟

- هذا دليل قاطع، إن جئتني به فلا داعي لكل هذا النقاش.

كنت على يقين دامغ بأنه يكذب، مع أنه قام من مكانه متجهاً نحوي، وباجتماع قوة الجسد لطمني بيده، فسقطت على المقعد الذي كان يخشى سيادته أن يبتل بالماء، وفي حقد الذي لم يظفر بما يريد:

- لا تريد أن تعترف بذلك؟!

- لا أدري ما ذلك الذي يجب أن أعترف به، لقد صنعت لكم فرية الانتماء لـ"العطار" في فرع التحقيق العسكري، ولتكن هذه إن شئتم كذلك، رتبوا وأنا جاهز للتوقيع!

- هذا كلام لا يجدي عندنا، قلت لك بأن الدليل حاضر.

وصاح بأحد الجلادين:

- خذه لمدة عشرة دقائق إلى الخارج وائتني بمندوب السفارة.

وقفت في الخارج متحاملاً على نفسي بانتظار ما سيرتبونه لي، وتذكرت سنوات القحط في تيه هذا العمر المرتحل، وأبديت مرونة العازفين عن الدنيا، المقبلين على الله اللائذين بحماه، ومرت الدقائق وكأنها الدهر يتتابع مترادفاً، وأقنعت نفسي من جديد بأنني لن أكون من أول أصحاب البلاء ولن أكون آخرهم، وإذا كان الموت هو سبيل كل حي، فلِمَ لا نختارها نهاية مشرّفة، نقبلها لأنفسنا، ويرضاها الله لنا؟!

وجاءني صاحب الصوت الهادئ، ليطلب مني بلهجة مدّعي الأبوة والحنان:

- بمقدورك الآن أن تهبط إلى الصالون لمدة عشر دقائق، فكر جيداً في الذي طلبناه منك.

ولم أكن أدري بأن هذه الدقائق العشر ستمتد في عمر الزمن إلى قرابة شهرين بلا انقطاع، أُترَك فيها بين المنسيين بلا سؤال أو جواب، أنشغل فيها بالناس - ممن يأتون أو يرتحلون في كل يوم- عن نفسي!

في اليوم التالي نادوا على اسم صاحبي العراقي، والشاب التركي، سألوهما عن أماناتهما، وعن شكل السيارة التي يملكونها، وهمس لي أحد الحرس بأنه الإيذان بالفرج لهما، ففاضت دموعي من الفرح، وإن كنت أدرك بأنني لن أكون رفيقهما في رحلة الفرج والعودة إلى المنافي في الغربة، ففي السجن طعم آخر لمعاني المنافي داخل الوطن هذا!

صار عدد النزلاء إلى التناقص، وصار في الإمكان إفراغ ممر في وسط الصالون يمكن عبوره بسهولة إلى دورة المياه، أو التحقيق بعد فترة من الازدحام والاكتظاظ، وخفَّت حدّة المراقبة، باتفاق صامت بين مكتب الأمانات الذاتية وبعض معارفهم من النزلاء، صار يُسمح لنا برفع غطاء العين فترات طويلة ما بين ارتحال دورية التفتيش القادمة من الطوابق العليا والتي تليها، ويتم هذا الأمر عن طريق إشارة خاصة "كلمة سر" نحتاط من خلالها لأنفسنا، بمجرد سماعنا لخطوات تهبط الدرج مقتربة، نسرع إلى تغطية أعيننا.

أطل علينا أحد السجانين بنفس جديد بعثه في أرواحنا التَلِفَة، فقد مر علينا بالتناوب بكوب من الشاي، فالشاي كما هو التدخين ممنوع، الشيء الذي يأذنون به فقط ثلاث لفائف من "السندوتش" الرديء، الذي بالكاد أن يقيم الأود، تُعطى لنا كجرعات من الأدوية، واحدة في الصباح، والثانية عند الظهيرة، وأما الثالثة فكانت تأتينا عند العشاء.

الفرق شاسع بين الحارس والسجان هنا في فرع العدوي - ذلك الفرع الذي تعرفت إلى اسمه بعد إطلاق سراح صاحبي رحلتي- فالحارس عليه مهمة الحراسة، وتنظيم إدخالنا إلى دورة المياه، وأما السجان فمناط به كل شيء، فهو الجلاد المحترف أولاً، والمحقق إذا ما دعت الضرورة لذلك أيضاً.

نادى فينا الحارس الدمشقي ذا الخلق الدمث:

- من يستطيع أن يروي نكتة؟

وبدأ بعض الشباب الدمشقيين في رواية سيل من النكات عن أبناء حمص وحماة، وكنا نضحك، وما كان يزيدني استغراباً أننا كنا نضحك من أعماقنا، وكانت هذه هي المرة الأولى التي أعثر فيها وسط هذا الحقد المتراكم، على شاب ما زالت فيه للإنسانية بقية، بعد أن عز عليّ أن أعثر عليها عند الطبيب، عندها رحت أواصل إرضاء نفسي المترعة بالهموم بالمثل السائر "إن خليت بليت".

كان أكثر الشباب بيننا حيوية شاب اسمه أحمد، طالب جامعي من أبناء دمشق، ما إن تعرف إليّ حتى استأذن الحارس في الانتقال إلى جواري، فأذن له.

مربوع القامة، أبيض البشرة، ذا سحنة عريضة، وجنتاه فيهما امتلاء وحمرة، وحيداً لأهله، والده سمان أي صاحب بقالة، قال لي بأنهم جاؤوا به من منطقة التدريب الجامعي، ولا يدري المسكين لماذا جاؤوا به، أخبرني بأنهم أخذوه إلى فرع التحقيق العسكري بحمص حيث ذاق من العذاب ألواناً، عاش أياماً طوالاً في ظلام دامس في زنزانته التي كانت تقبع تحت الأرض، وكان يشرف على التحقيق معه رئيس الفرع هناك، ممن عاث في الأرض فساداً وعدواناً، غازي كنعان وما أدراك ما غازي كنعان، وبعد أيام علِم المسكين بأنهم عثروا على صورته في البيت عند أحد المطلوبين، وكانت هذه الصورة كفيلة بأن تورده موارد الهلاك.

حدثني عن الخطيبة التي ما زالت تنتظره في البيت، ولم ينسَ أن يذكر لي الطريقة التي تعرف من خلالها عليها، وكيف أن شقيقتها كانت تعتقد بأنها صاحبة الحضوة، وكيف أنه عانى كثيراً من جراء هذا الاعتقاد ولأيام طويلة.

حين أوشك الليل ذات يوم أن يخيم، وقبل أن يأخذوه إلى جهة لا يعلمها أو أعلمها أنا، رمى لي بخمسين ليرة سورية راجياً لي فرجاً عاجلاً متمنياً عليّ ألا أنساه، وكنت أعلم بأنه لا يملك سواها، ولما ترددت في أخذها، قال لي بأنهم قد يأخذوه إلى جهة لا حاجة له فيها إلى النقود!

تلك كانت حسرة أخرى أتجرعها تضاف إلى مجموعة حسرات كثيرة مريرة بعضها مرّ والبعض عما قليل سيلي، وما عاد لأي شيء في نفسي طعماً مستساغاً أو لذة مستطابة، فهل أحسست يوماً بأنك خاوي بلا حياة؟ إن حياتنا خلفنا نبقيها لمن يأتي من بعدنا، ثم خيَّم الظلام، وانتظرت عودته زمناً، انتظار المحب للحبيب، ولا زلت أنتظر حتى خبت صورته في زحام الصور التي تلاحقت، وخبا الأمل من كل ما يفرح أو يبعث على الفرح، وعدت مع الأيام لا أرغب حتى في الأمل أن يأتي لأي شيء ومن أي شيء.

أبداً هو نفس الفرع والمكان، لم يغيره الزمان لِمَا ينوف عن الشهرين الذين قضيتهما هناك، تحفه المخاطر من كل مكان، كرابيج وسياط، كابلات وماء وكهرباء، والملل لا حدود له، وحين كان يقبل الوافدون الجدد، كان يلفنا الخوف الشديد، فكل شيء من حولنا غارق في الدماء والعذاب، ولم ينقطع فرع العدوي العسكري أيضاً عن استقبال الفارين من المجندين يومياً، وكانت الأعداد الضخمة التي يأتون بها في كل يوم، تدل على تردّي واضح في صفوف الجيش، ولقد قال لي أحدهم وقد تعرّض للضرب والإهانة لما يزيد عن ساعتين دون انقطاع، قال وهو يتجرع ذل الإهانة:

- يهينونا بهذه الطريقة الغاشمة، ويعرضوننا لخسف العذاب بالدولاب إلى ما يسمى ببساط الريح، نحن بحاجة إلى تحرير أنفسنا قبل أن نساق كذباً واستعراضاً من أجل تحرير الأرض، لقد قتلوا فينا مروءة الرجال ونخوة الشرف.

ولم يكن له عندي يومها من إجابة سوى قولي:

- كما تكونوا يولى عليكم.

لا أعلم سوى أنه من الأردن هكذا قالوا لي، جاؤوا به محمولاً على إحدى البطانيات، دماؤه تجري دون توقف، وقد بدا عليه آثار الإعياء والضرب المبرح، كان يغط في غيبوبة لم يصحو منها، وحين كان الليل يمتد وكأنه جاء بلا بداية، كان لديه في هزيع الليل الأخير ما يكفي من الزمن لإسلام روحه في هدوء إلى بارئها، وبلا ضجيج أو بكاء حملوه إلى حيث هم يعلمون ولا نعلم، أغمضت عيناي لرهبة الموت، واسترجعت في داخلي بصمت شديد، ثم قلت في زفرة حارقة:

- إنا لله وإِنا إليه راجعون.

حين أخذت الأعداد البشرية المتواجدة في الصالون تتناقص، برحيل أبناء كناكر وبعض أبناء حمص، بالإضافة إلى الطبيب غسان، جاءتنا وفود جديدة، ولعل أكثرهم رسوخاً في الذاكرة، تلك المجموعة التي جاؤوا بها من فرع التحقيق العسكري، كانوا ثلاثة تجمعهم صلة قرابة، أما الرابع فكان أحد معارفهم، وكان سبب الاعتقال كما جاء على لسان أحدهم:

- أن أحد الملاحقين من قبل أجهزة المخابرات، اقتحم عليهم محلهم التجاري أثناء فراره، وهناك قام بتفجير نفسه.

اثنان منهما إخوة، وأما الثالث فهو ابن عم لهما مصاب بشلل الأطفال من ذوي الاحتياجات الخاصة، مصاب بقرحة في المعدة، شاهدته في طريقه إلى دورة المياه، يترنح كالمخمور، من شدة ما تعرض له من عذاب، تسيل دموعه على وجهه الصابر المحتسب، وبذا ازددت يقيناً بأن في هذا المكان من هو أشد مني بؤساً ومرارة.

فرغت المنفردات على أبواب قدوم شهر رمضان من ساكنيها، والناس يرحلون مع هبوط كل ظلام إلى غير رجعة، يمضون بهم إلى المجهول، فيمر بنا السجان عند المساء، ويشرع في ملء ما فرغ من المنفردات، وكانت المنفردة رقم "3" من نصيبي، على فرشة قذرة ذكرتني بتلك التي كانت في فرع التحقيق العسكري، تكورت بعضي على بعض، قد أسندت رأسي على يدي، أرنو من خلال نافذتها المطلة - من خلال البوابة السوداء- على الصالون، إلى ما سيأتي من قابل أيامي الكئيبة، ثم قمت أستعرض جدرانها الصماء وأرضها المقرورة القيعان، فأقرأ على جدرانها أسماءً كثيرة حُفرت بعناية لجمع من الأفراد مروا من هنا، البعض كان يحفر خطاً عن كل يوم كان يمر به في هذا المكان، بالإضافة إلى عبارات لضابط كبير لم يعد لاسمه مكان في الذاكرة، سجل عدد الأيام التي نافت عن مائتين وخمسين يوماً، ولم ينسَ قبل رحيله أن يدوّن رتبته العسكرية التي كان يحملها، فقد كان يحمل رتبة لواء ركن، كذلك آيات من القرآن، وعبارات عن الصبر والمجالدة، وأشياء كثيرة أخرى ما عدت أذكرها.

ما أن انتهيت من استعراض هذه القائمة من الأسماء التي احتواها المكان ردحاً من الزمان، حتى أطل أحد السجانين القساة العتاة من خلال النافذة، صاح من غير ما سبب:

- ليش عم تطلع فهني؟!

وحين لم أجبه فتح البوابة، جاءت ردة فعله قاسية عنيفة، لطمني على أنفي حتى سالت الدماء، مؤكداً لي بلغة الجبناء:

- قتلك لن يكلفني أكثر من هاتف، أخبرهم فيه بموتك، كي يحضروا لإخراجك من هنا..

لم يكن ذلك الذي ذكره لي محض ادعاء، فلقد عايشت أحداثاً كثيرة مماثلة في مقبلات أيامي، لم يزد رأس مال الضحايا فيها عن طرقة باب، يمضون بأصحابها إلى حيث ما لا يعلمه إلا الله، الذي لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه.

لم تكن ليلتي لتنقضي بعد، حتى عاد الباب ليفتح من جديد، وأطل أحد الحراس ملاطفاً:

- أنت أيها الأردني البائس، سوف أقوم بنقلك إلى المنفردة رقم "4" لها نافذة تطل على الفضاء الخارجي يمكنك من خلالها أن تأخذ هواء نقياً، ولعلك تحظى بشيء من ضوء النهار.

ثم سمح لي بحمل صرتي والانتقال، لساني يلهج له بالشكر والعرفان حتى فاضت مدامعي!

عصر يوم من أيام هذا العناء المترادف، راح صوت بكاء نسوي يملأ بؤس المكان، من منفردة لم يكن بإمكاني تحديدها، وهي تبكي أمام جلادها تارة تقسم أنها لا تعرف شيئاً، وتارة تنكر أن لها علاقة بأحد، وتأخذني المفاجأة حين أغلق المحقق عليها الباب ومضى إلى حين، تأخذني المفاجأة وهي ما تزال تبكي، سمعت أحد السجناء يهتف بصوت عرفت فيه لهجة أهل العراق، وكان يقبع في زنزانة بالقرب من زنزانتها يربت على جراحها بقوله:

- اصبري يا أختاه واحتسبي، فالسجون والشدة هذه الأيام للنساء!

كان المتحدث ضابطاً من ضباط الجيش العراقي، قد سئم الحرب، فجاء ملتجئاً إلى سوريا التقدم والحرية، فكان كالمستجير من الرمضاء بالنار!

وثانية أشرع في استعراض الجدران، اقرأ عليها عبارات قيلت في الصبر، وآيات من كتاب الله تخبرك عن البلاء، وما أعد الله لأهله الصابرين المحتسبين، وعبر نافذة في أعلى المنفردة، تطل على حديقة صغيرة، كنت أربط بطانيتي على قضبان النافذة، أعلقها كالأرجوحة، حيث أشرف من هناك على بيت كبير يقع على الطرف المقابل، قد اصطفت فيه الشقق، وأطلت من نوافذها رؤوس بعض النسوة اللاتي رحن يتجاذبن أطراف الأحاديث، وعلى الأسطح والبلاكين رأيت بعضهن يقمن بنشر الغسيل، أما أنا الوحيد هنا الذي كان يرى من غير أن يسمع، أو يحس به أحد، يلعق مأساته في صمت، أشعثاً أغبراً، قد انبعثت مني رائحة العفونة، كما لو أنني مطرود من كل أسباب النظافة والطهر، مهملٌ تماماً كمن ولج ماخوراً من مواخير البغاء، ضحية مجتمع من البشر، ناموا على الضيم واستمرؤوه لسنوات طويلة، ثم جاؤوا يمتشقون سلاحاً برته الفرقة وشتات الشمل، بأسهم بينهم شديد، بل هو فوق الشديد، قد ذهبت ريحهم، فكانوا كالأيتام على موائد اللئام، والأيام حبلى ديدنها أن تلد كل جديد!

ما أن تدب الحركة والأرجل في الصالون، حتى أنسل من على الأرجوحة التي حملتني شطراً من النهار، قبل أن يفاجئني سجان سافل، فأطوي البطانية، وأستلقي على الفرشة آملاً أن يتحنن النوم فيخطفني، غير أنه المرتجى الذي صار عزيزاً في زمن عز فيه كل شيء.

حفرت على الحائط اسمي، ودوّنت اسم المدينة التي وُلدت فيها، وما أكثر الأسماء المحفورة هنا، وكان الأذان الذي يأتيني على مدار الأوقات الخمس هو أنيسي في غربتي هذه، ومع كل أذان كنت أغرق في الدموع والابتهالات.

لم يمضِ مزيدٌ من الوقت، حتى عاد الصالون فامتلأ من جديد، ومن أسفل البوابة، أصيخ السمع باهتمام شديد للنزيل الذي رأسه بالقرب من المنفردة التي أنا نزيلها، فأسأله:

- من أين جاؤوا بك؟

- من حمص.

- هل جاؤوا بك من حمص؟

- لا، أنا من أبناء حمص، هم جاؤوا بي من مطار بيروت.

- ما الذي ذهب بك إلى بيروت؟

- كنا ننوي الهرب بجوازات مزورة إلى الأردن!

- بهذه الثقة تحدثني، دون أن تتعرف إليّ؟

- لم يعد هنالك ما أخاف عليه!

راح عند الغروب في انشغال السجان عنا، يشرح لي ما جرى:

- لم تكن غلطتي، لقد تمكّن أحد الإخوة من السفر دون خوف، لقد وهبت حياتي ودراستي الجامعية طواعية لله، أنا طالب في السنة الثالثة، يعز عليّ أنهم ألقوا القبض عليّ بهذه السهولة، كان من الواجب عليّ أن أموت قبل أن يقبضوا عليّ حياً، في الحجرة المجاورة لك تماماً يوجد أحد أفراد القيادة، ألقوا القبض عليه معي.

وراح يشق صمت الليل ترديد (ترجيع) أحدهم لأغنية حزينة، وزاد الترديد (الترجيع) أسى، ذلك اللحن الجنائزي الذي لم يبقِ على أحدٍ منا إلا وبكى، في الوقت الذي كنت أغوص فيه في مرارتي وأشجاني.

لم يكن أحد ليأبه لذلك الشاب النحيل، الغارق بصمت في لجة من أفكاره، لولا لحيته المدببة التي كانت تتسلق فكه السفلي، رأيته من خلال البوابة التي نسيها السجان مشرعة بعد زيارة لدورة المياه، وحين أحس بوجودي سألته:

- من أي بلاد الله أنت؟

- من الأردن.

- من أين جاؤوا بك؟

- من الحدود.

- لماذا؟

- لا أدري، فأنا نصراني!!

وحين عرف السبب بطل العجب، طمأنته قائلاً:

- أن سبب اعتقالك هو اللحية، لا عليك، سيطلقون سراحك، احفظ عني رقم هاتف البيت عندنا، فأنا أيضاً من الأردن، وأمليت عليه رقم الهاتف، وكررته مراراً كي يحفظه، ثم أردفت قائلاً:

- إذا ما أطلقوا سراحك، أبلغ أهلي تحياتي، وأعلمهم بأنني بخير، وأنا لك من الشاكرين.

برحيله رحت استعرض شيئا من ايام خلت، طفل قد ركبت زورقا عبثت به رياح عاتية، فعلوته مقلوبا، ماتت امي فعرفت اليتم باكرا، و قست الايام وشطت في الكيد لي، فالفيتني متارجحا بين يتمي و قسوة واقعي، قد عشت القلق بكل أشكاله، عرفته حين هربت - وأنا طفل يافع لم يتجاوز عمري الخامسة عشر عاماً- حين هربت من البيت أجري وراء الحنان الذي رحل يوماً برحيل أمي، والذي فقدته مع نعومة أظفاري، ولا زلت أذكر كيف استقبلني حضن جدتي الدافئ، والدموع تترقرق في عينيها، قد تذكرت ابنتها التي هي أمي:

- لو كانت لك على الدنيا أماً، لملأت عليك الدنيا صراخاً وعويلاً!

كنت يومها كارهاً للبكاء والباكين، وما عدت أجد أن في الحياة ما يستحق أن نضحي أو نبكي من أجله، وكم هي المرات التي غرقت في صفحاتها أبحث عن الموت، وكانت تأملاتي على بساطتها تبعث في نفسي رغبة جامحة للانعتاق من كل القيود التي كانت تأسرني، وبالقدر الذي كنت أشعر فيه بالغربة بين أهلي، بنفس القدر كنت أتوق إلى الارتحال والابتعاد، و مع انني ركبت الزورق وسط الامواج مقلوبا، فقد شاء الله لي أن انجو، و ها هو الان منكفئا وسط لجة من امواج عاتية، امتطيه ثانية فهل ستكتب لي النجاة!؟

- ما من كاتب سجل شيئاً عن حياته، إلا ألفيته يحنّ إلى طفولته والاعتزاز بها، أما أنا فلا أعتقد أن لي في طفولتي ما يبعث على الحنين إليها أو ذكرها بأي شكل من أشكال الخير والاعتزاز!

هكذا أدرت الحديث مواسياً لأحد أبناء مضايا إحدى ضواحي دمشق، حين ألفيته يجول باحثاً في هذا المكان عن المهتمين اهتمام الأهل والأحباب، وألفيتني أندفع بكل خوفي فأعلن له بأننا نحيا في دنيا نصفها خراب نتجرعه في بواكير الصبا وصدر الشباب، ونصفها الثاني نحياه بين الأمل والرجاء، حتى إذا أوشكت أيامنا على الاعتدال، أجبرتنا ظروف طارئة لا دخل لنا في ترتيبها أن نحيا هذا الشطر المتبقي من أعمارنا كأنصاف مشلولين أو مشلولين بالكامل، تماماً كسائق مركبة يعبر بها طريقاً عاماً، متلمساً القيادة بتؤدة المتأهب المترصد على أقصى اليمين، غير متجاوز السرعة المطلوبة، مستجلباً كامل حضوره البدني والذهني أثناء القيادة، وفي لحظة الانتباه هذه تأتيه مركبة أخرى مندفعة في الاتجاه المقابل كالقضاء المتعجل، ولا راد لقضاء الله، هكذا كنت أتصور دنيا العذاب الذي نحياه، وهكذا كنت أنفضُ عني بعضاً من منغصات الحياة.

ويُقبل رمضان ضيفاً، مع أن المكان أضيق من احتمال أي يوم جديد، ويمر مسؤول "البوفيه" يسأل عن عدد الذين ينوون الصيام، ولم يكن العدد ليتجاوز المتوقع، فقد جاء متواضعاً، وحاورت نفسي، هل أصوم جهاراً؟ هل أُعلم السجان بنيتي في الصيام؟ فهذا بلا شك - إن تحقق - سيؤكد الاتجاه الديني الذي يريدون إدانتي به، وبين التردد والإقدام، أعلنت الوفود على مائدة الله، وليفعلوا بعدها ما بدا لهم، لم يعد هناك ما يمكن الخوف منه أو عليه، ثم لا ألبث أن أجيز لنفسي طرح السؤال التالي:

- هل نحن معتقلون في بلد إسلامي؟ وحين لا أحير إجابة شافية أهز كتفي، ثم أعلق في مرارة: رسمياً لسنا كذلك، فكل قوانين طوب الأرض الوضعية تنتظمنا، ولا أعتقد جازماً متيقناً أن أحداً من ساستنا لديه غيرة على الإسلام، ناهيك أن يسوسنا بشيء من الإسلام، نحن في بلد مسلم يغط فيه أبناؤه في سبات عميق، عميق بالكاد أن نلمح له أي نهاية، وألفيتني أسبح في أفكاري الوافدة، فأنا تائه على بوابة الخوف، كما تتيه العدوى بساكنيها على أبواب مدينة ما، في غمار تمدنها المزعوم، فلقد صار من المسلمات هنا أن الإنسان هو آخر مخلوقات الله في قائمة أدنى الاهتمامات بالمطلق، وقوافل الأموات التي ترتحل من الطوابق العليا إلى مثواها الأخير بالكاد أن يُصدّق بأن لها عدد معلوم.

عادوا إلينا للتو بمجموعات جديدة تتنقل المـأساة في وجوههم، ما فتأت الأيدي الغليظة تنهال عليهم ضرباً وركلاً مشفوعة بزوابع من الشتائم واللعنات، وكان بين الوافدين الجدد رجلان من الأردن، جاءت بهم قوات الردع السورية من مطار بيروت بلبنان، ظهرت عليهما آثار العافية، أحدهما ملتحٍ، يقف السجان ببابه منتظراً أن ينتهي من تراتيل يتلوها في صلاته، بينما الآخر غارقاً في الأغلال، يستجدي السجان عطفاً في أن يوسّع عليه القيد الذي حز معصمه، وترك عليها الأثر، وحين يولّى السجّان بالأول إلى الطوابق العليا، أسأل ابن مضايا عن زوار المساء الجدد، فيخبرني بأنهما أردنيان قادمان من دول الخليج، يعملان هناك، جاءا لزيارة والدهما الذي كان يتلقى العلاج في مستشفى الجامعة الأميركية ببيروت، ويطفح إلى الذاكرة صورة لفلم شاهدته يوماً من أيامي الخوالي، لروما وهي تحترق، ونيرونها قد مُلئ حقداً وغيضاً، فأدركت بالواقع المحسوس أن روما لا زالت تحترق ولا زال نيرونها يتلذذ بفعلته الشنعاء، وهو يعاقر الخمرة في خبث نصيري وضيع! ولم يطل مكوثهما في هذا المكان، نادوا عليهما تحت جنح الظلام، ذهبوا بهما إلى جهة مجهولة لا نعلمها.

هلّ شهر رمضان، وفي تلك الأيام الفاضلة، تعرفت إلى بعض الشباب الوافدين حديثاً، بعضهم من حمص كانوا قد جاؤوا بهم من بيروت وآخرون من دمشق ومن مدن كثيرة ليس بإمكاني حصرها الآن.

وسألني أحد الجلادين يوماً عن الحذاء الذي ألبسه وقد أُعجب به:

- من أين سرقته؟

كانت الفرصة مواتية لأن أتفحصه، فبماذا أجيبه، وهبني أجبت، وعلى ضجيج الواجب الذي كانوا يؤدونه في الممر الضيق على بعض ضحاياهم الغارقة في الدولاب والماء، خلعت الحذاء، وأنا أنتقي كلماتي:

- إنه لك، إن أتيتني بما يفي بالغرض!

وكانت اللهجة التي أجبت بها لهجة غريبة عن أهل المنطقة، وفي شيء من التراجع:

- أنا لم أطلب الحذاء. ثم أردف سائلاً:

- من أي البلاد أنت؟

- من الأردن.

تهللت أسارير وجهه وهو يطري الأردن:

- حيا الله الأردن وأهلها، ثم أخبرني بأنه عمل بالأردن سنوات لا يمكنه نسيانها، أنبتت في حياته ثمار الخضرة والحياة، أياماً كانت العلاقات بين البلدين في مقياس درجات المودة فوق الجيدة، كان ذلك قبل أن يأتي لتأدية الخدمة الإلزامية، ولم ينسَ أن يقدم لي اعتذاره عن ذلك السؤال الذي حمل صيغة الاتهام لي..

لم يكن الاعتذار دائماً في هذه الأمكنة هدفاً مبذولاً ينظر إليه بعين الرضى، ولقد أمعنت الاستماع بعناية، عندما رحت أتأمل إنصافاً لبعض الظلم الذي حاق بي، غير أن هذه المعاني لم تعد بذات قيمة، ما دامت المسائل هنا نادرة التآلف في ذروة العقد وحلولها.

فماذا كانت تجدي في عرفي وعرف غيري كل كلمات التسامح هذه، ما دام العويل المنبعث من الأرجاء الأربعة يصم الآذان على مدار الليل والنهار، وما دامت رؤيا الدماء على كثرتها لا تبعث في النفس شيئاً من الرحمة أو الشفقة، وما دام الظلام الكالح رديفاً لتلك الأقبية الرطبة العفنة.

لقد كادت مجموعة من السجائر عثر عليها أحد الجلادين بين أمتعتي، كنت قد حصلت عليها من أحد النزلاء، تركت معه سهواً، وعند غارة تفتيش مفاجأة، كادت هذه السجائر تكون موضع بحث وإدانة، لا موضع اعتذار وتسامح، لكنهم اكتفوا بمجموعة من السياط ألهبوا بها ظهري العاري، فشتمت السجائر وكل من دخن السجائر!! فلا موطن هنا للتسامح، ذلك أن كل جلاد يكشف في مثل هذه المواقف عن الوجه الحقيقي الصفيق لا الوجه المزيف الملون.

وإني لأزدري بدقة تلك الأنفة الزائفة التي يدعيها ذوي الجاه في مثل تلك الأفرع التي تغص بالبائسين، وما تلك الحركة الغريبة التي سرت في الصالون ظهيرة أحد أيام رمضان، وصوت ضابط التحقيق المناوب الذي هبط من عليائه على غير عادة، يلقي بأوامره إلى السجان الجلاد بألا يدع لنزيل المنفردة رقم "5" أي متنفس لا الى دورة المياه أو ما سواها إلا بعد أن يتصل به شخصياٌ في المكتب، وهذه إضافة أخرى يتعذر على الإنسان من خلالها أن يلتمس لمثل هؤلاء أكثر من الازدراء والتحقير!!

لم يهادني الفضول طوال الفترة التي أمضيتها في فرع العدوي، ولا في غيره من أفرع الاعتقال، ومن أسفل البوابة الداكنة رحت أسأل النزيل الجديد المتمدد على الفرشة الجاثمة أمام بوابة منفردتي، ورأسه تماماً أيضاً عند الوجه الآخر منها، بعد أن تعرفت إلى لغز اعتقاله الدفين، الذي لم يكن ليتجاوز ذل التشرد والهزيمة والضياع، فهو مجند في جيش التحرير الفلسطيني، المدخر لتحرير فلسطين كما هو بائن من اسمه، والذي يعمل بإمرة سوريا، قذفته أقدار حبه للدين إلى فرع العدوي هذا، مع أن الأوْلَى بهم أن يذهبوا به إلى فرع فلسطين، ولقد فاتني يومها أن أسأل نفسي:

- لماذا لم يذهبوا بي إلى فرع الأردن مثلاً؟

ولو فعلت وسألت لكان السؤل منطقياً وجيهاً، ما دام لفلسطين - قميص عثمان هذا- فرعاً، فما وجه الغرابة في أن يكون لكل دولة عربية أو إسلامية فرعاً للتحقيق خاصاً بها، نستثني طبعا دول الغرب وإسرائيل فهذه في كل الأحوال شعوبها مجبولة من طينة أخرى مكتوباً عليها: أن لا مساس!!

الصالون قد عاد ليضيق بنازليه، وعند عتبة المنفردة التي أنا نزيلاً فيها، رحت أدير مع صاحبي هذا حديثاً أسأله من خلاله عن نزيل المنفردة المجاورة لي رقم "5":

- ما سر هذه الحركة الغريبة؟ وما سر نزيل المنفردة المجاورة؟ وسر الاهتمام الزائد من ضابط لا يهبط إلينا من عليائه إلا لمماً؟

ورحت ألح في استشفاف مصير هؤلاء المظلومين من أمثالي، لأنني إذا ما عرفت بعض الحقيقة أغنتني عن الجري وراء كل ما هو غائب عني، ولعل من الإنصاف ما يدفعني لأن أبدأ بمقولة غيري، وهنا تبدأ المأساة.. فيعلمني صاحبي بأنهم تمكنوا من اعتقال أحد قادة الإخوان في حمص، وقد تم ذلك في مطار بيروت مع اثنين من زملائه، وكان هذا المعتقل الجديد هو الأخ دريد الطش رحمه الله.

لم تكن المنفردة رقم "5" من المنفردات الاعتيادية التي يمر عليها الناس دون أن يتركوا على جدرانها أو في أرجائها بعض بصماتهم، فقد تواردت على المنفردة وجوه كثيرة، وفي عودتي من دورة المياه في إحدى المرات، وفي غياب عين الحارس السجان، أبصرت كتاباً لكاتب افتتن الناس بكتاباته، قد سجل عليه بخط عريض "الأعمال الكاملة لجبران خليل جبران"، كان نزيل المنفردة الجديدة قد ذهبوا به إلى التحقيق، وبقيت بوابة المنفردة مشرعة بلا إحكام، في اندفاعة جرأة جاءت كلمح البصر اقتحمت المنفردة، وقمت باقتطاع نصف الكتاب، ثم تواريت به تحت بطانيتي أقرأه مرات ومرات، أقتل من خلال مطالعته بعض الوقت الذي طال ظلامه، واكتنفه الملل القاتل، ولم أكن يومها لأعثر فيما اقتطعته من الكتاب على ضالتي، فبعض الرمد في العيون خير من اجتماع العمى، وكنت كلما فتحوا عليّ منفردتي، أقوم بإخفاء هذا المحذور داخل الفرشة التي يبدو أن عمرها قد جاوز ربع قرن من الزمان دون أن يعملوا على غسلها أو تبديلها ولو لمرة، وبقي الخوف رفيقي طوال الأيام التالية خشية أن تأتي كبسة تفتيش، تعيد إلى الأذهان ثانية قصة من السوابق التي لا أعتقد أن بوسعي غفرانها أو نسيانها، ولعل عثورهم على السجائر بين أمتعتي في وقت رحل، كان كافياً لأن يدل على دناءة مسلكيتي في مقياس السجن والسجان، ومهما قيل، فأنا الضحية التي يجب أن تفكر بالعواقب، وما الذي أبقوا عليه لي كي أمعن في أخذ الحيطة له، أو الخوف عليه، ومع كل هذا بقيت أنتفض عند كل حركة لمزلاج البوابة، لا زلت اعتقد بانني سأنجو، فعناية الله ارجو أن تصحبني إلى أن يأذن لي بالرحيل عن هذا المكان.

لا زلت ممسكاً بتلابيب قلبي أتحسس الوافدين والراحلين، ويصدق حدسي في نيتهم إطلاق سراح أحدهم، وهو في طريقه إلى بيروت، فأعلمه برقم الهاتف لبعض الأصدقاء في ألمانيا، راجياً إليه إن أمكن أن يفعل المعروف أو بعضه، وكان صادقاً، ظل صامتاً، ساكناً محتسباً حتى ارتحل، ثم أذن الرحيل من جديد، كان ذلك يوم 14 حزيران "يوليو" 1981م، ساروا بنا ميممين وجوههم شطر فرع التحقيق العسكري ثانية، يرافقني في هذه المرة كل من سعيد والمجند الملازم المهندس زياد عجاج رحمه الله.

العودة إلى فرع التحقيق العسكري

كانت حفلة الوداع في فرع العدوي العسكري محتملةً إلى حد ما بالقياس إلى مرات سابقة، لكن العودة بنا إلى أي فرع من فروع التحقيق بحد ذاتها كانت تعني التعاسة بكل معانيها، وما كان عنفوان الشباب عندي ليعطيني العنفوان والتحدي الذي يرافق الناس في مثل هذه السن الفائرة المبكرة، وما كنت أجهله عن نفسي، وما أنا مقبل عليه من مصير مجهول، كل هذه الأشياء كانت تدعو إلى الرثاء.

ما زلنا في شهر الصيام حين رحّلونا، وقبل أن يقدموا لنا وجبة طعام الإفطار مساء ذلك النهار من عام 1981م، راح السجان يلقي عليّ سؤالاً:

- من أين جاؤوا بكم؟

وكما لو أنه لا ينتظر الإجابة، أو لا يريد سماعها تابع موجهاً حديثه إلي:

- لقد نجوت، وكُتب لك البقاء!!

ما عادت هذه السخافات لتحرك فيّ ينابيع الأمل في البقاء، ولو لم تكن ثقتي التامة بحرمة الفعلة، لآثرت الموت على سماع مثل هذا الهراء، غير أنني لم أجد أبداً من ضرورة لمثل هذا التفكير، أمام قتلة وهبوا أنفسهم للإجرام، ومع تقلب الأيام كنت كلما التقيت بهذه الوجوه - وقد علتها قتامة المظالم- كنت أردد سؤالاً لغيري:

- هل الانتحار من أعمال الشجاعة؟

وسؤال كهذا لا يطرح بطبيعة الحال إلا على الذين لم يقدموا على قتل أنفسهم، وإلا هاتوا لي منتحراً أعهد إليه بالإجابة!

أعادوا إلينا عند المساء أماناتنا، إذ لم يبقَ فيها أو بينها ذا قيمة يمكن الاحتفاظ به، ولم يتوقف المجند الملازم زياد عجاج رحمه الله عن التحدث في صوت حزين:

- نحن أغنام تساق بالمجّان بين ذئاب للافتراس، ومن ينجو، يمضون به إلى الجزار، تجلّدوا يا شباب، أيام وتنقضي، لا تيأسوا، اجعلوها رحلة إلى الله!

همس سعيد الخياط في سخط وقد وجدنا أنفسنا نحن الثلاثة في إحدى ممرات فرع العدوي في انتظار تحويلنا إلى عالم آخر لم يبوحوا لنا باسمه، همس في سخط:

- ليس من المعقول أن يذهبوا بي إلى تدمر، لقد مزقوني إرباً، لم يعثروا لديّ على ما يخوّلهم حق إدانتي.

راح السجان يحرر لنا هذا المساء محضر الترحيل، وحين حضر أحد أصحاب الرتب العليا سأل:

- هل ينقص أحدكم شيء من الأمانات التي كانت مودعة عندنا؟

كنت على استعداد لأسأل عن السيارة، فبعض الغباء قد يحضرني حتى في أحلك اللحظات، ولم يزد في إجابته أن قال:

- ستجدها أمامك في فرع التحقيق العسكري، هذه الأمكنة لا اتساع فيها للسؤال عن الأشياء الكبيرة.

بعد أقل من ساعة كنا داخل عربة الموت، أنظر بازدراء من أسفل غطاء العين، من خلوة شاخصة بالبؤس في طرف من أطراف المركبة، إلى طرقات دمشق المزدانة بالأضواء الصفراء الباهتة، ما لبث الموكب بعد بعض الوقت أن توقف، كان البناء الذي توقفنا بإزائه محكم الصنعة، قد لفته أشجار الصنوبر الشامخة، وكأنها - وهي تلقي بظلالها علينا تحت جنح الظلام الذي كانت إضاءة المصابيح المعلقة الحزينة تبدده - على وشك أن تبكي بدموع الراحلين، وهي تعطينا بصيصاً من أمل الخائفين الباحثين عن الأمان. يغريك المنظر الخارجي، فإذا ما ولجته، التهمتك كل الفواجع حتى النخاع، فتجربتي فيه ما تزال ماثلة، ولأسياد المكان عليّ أيادٍ سوداء قاتمة، وما كانت الآية، التي علقت في أعلى المكتب الذي ساقوني إليه، من غير أن ادرك سر اختيارهم لها، والتي كتبت بخط رائع جميل، دوّن فيها "وما ظلمناهم ولكن كانوا أنفسهم يظلمون"، إلا الحجة الدامغة التي زادتني يقيناً واقتناعاً بجرأة هؤلاء الظلمة على الله وخلقه، وما كنت لأبرئ نفسي، إن النفس لأمارة بكل سوء، ورأيتني وأنا أستعرض معاني هذه الآية كواقف في حلبة ترويض، أسأل نفسي وقد اختلطت الأدوار عن الظالم والمظلوم؟ وحين يعجزني الجواب، لا أجد لي مانعاً من البكاء، من فرط مصيبتي وفجيعتي وعجزي.

أيدينا نحن الثلاثة مشدودة إلى الخلف مكبلة في القيد الحديدي، وغطاء العين لم يفارقها طوال الفترة التي تركونا فيها جالسين نفترش الأرض، غارقين في ظلمة البصر وظلمة المصير، حيث وجوهنا إلى الشبك الحديدي وكان أشدنا بلاءً في هذا الاستقبال هو الأخ زياد عجاج رحمه الله، حيث انهالوا عليه لكماً وركلاً بتهمة أنه كان يصلي، وجاء تفسير الجلاد محمد سالم كما لو أنه كان تأويلاً سماوياً لا لبس فيه، يؤكد فيه على أن الهيئة التي ضبط فيها زياد متلبساً في الجرم، كانت هيئة صلاة، ولقد تحول طوفان الاتهام فجأة إلى طوفان كراهية وحقد، ثم أصبح ناراً تحرق البريء زياد ولا تحرق الجلاد، لأن الجلاد كان شعلة من نار تحرق الأخضر واليابس، وحين راح يهجم على زياد هجوم العاصفة، كنت أستمع إلى سيل جارف من الشتم والسباب وخلط في غير اختيار، وكان يردد أثناء ضربه:

- كنا نظن بأننا تخلصنا من هذه الوجوه الزفرة، فما الذي عاد بك؟ أما زلت تدّعي الجنون؟ سوف نجعل منك نموذجاً لكل المجانين!!

أشياء كثيرة تبدلت هنا على مدار ما يقارب الشهرين من غيابي عن هذا المكان، رحلت وجوه وحلت أخرى، فلقد انتهوا منذ أيام كما علمت من بناء الملحق الغربي، وهو عبارة عن مجموعات جديدة من الزنازين، الشيء الوحيد هنا الذي لم يطرأ عليه أي تغيير أو تبديل هو البركان الذي ينشر الرعب في أرجاء المكان.

لن يكون بمقدوري في كل أحوالي، ما سبق منها وما سوف يتلو، وسوف يأخذني التعب إلى حد اليأس، وأنا أحاول وصف هذا المكان، فالظلام الذي يلف العين والكرباج والجلاد مع الدولاب، أدوات في معتقدي إنها كفيلة بالإجابة عن كل ما طرأ وما سيطرأ من استفسارات.

بعد أن عادوا فجردونا من ممتلكاتنا، نادوا علينا، ثم أمرنا بأن نهرول منفردين في أثر أحد الجلادين، لعله كان يومها مالك، وفي منعطف على اليمين من الدهليز الطويل، التهمنا عنبر المنفردات الجديد، أودعت المنفردة رقم "23"، وعلى جدارها حديث الطلاء سجلت بأعقاب السجائر التي عثرت عليها من نزيل سبقني إلى هنا، كان يبدو أنه يعدّ أيامه باستخدام هذه الأعقاب، فطريقة ترتيبها كانت تشي بذلك، وبرمادها سجلت بخط بارز عبارة تنبئ عن الضيق الذي يكتنفني: "دوام الحال من المحال"!! فهل كان بوسع هذه العبارة أن تلجم ظنوني وبواعث شكوكي؟! لا أعتقد بأن الوضع الذي كنت أحياه، والظروف التي تحيط بي كانت لتدفعني إلى الإيمان بهذه العبارة على إطلاقها، فلقد كان الخوف المقرون بالجزع يقتلني على مدار اللحظات والدقائق، لا على مدار الليالي والأيام فحسب.

ودخل عليّ السجان خالد ظهر يوم من الأيام كي يأذن لي بالذهاب إلى دورة المياه، فرأى العبارة، مع أنني حاولت إخفاءها وراء ردهة المنفردة الوحيدة، فنصحني بإزالتها، خشية أن يراها سجان حاقد فيوردني دفين حقده دار الهلاك، وتمنى لو أنني فكرت قليلاً قبل أن أشرع في كتابتها.

في حجرة الذاتية "الإدارة" القريبة من الزنزانة التي أنا فيها سمعت المذياع عند الغروب يتلو ذات يوم - وكان الوقت ما زال وقت صيام - يتلو الآية الكريمة من سورة الشورى: "وما أصابكم من مصيبة فبما كسبت أيديكم ويعفو عن كثير".

صدمني الفشل، وأجهدني التفكير في العثور على كسب صالح ليدايَ، وغارت رغائبي في الدعاء بعمل صالح، وفي البعيد القريب كانت تغشاني أطباق من الضباب الداكن، تلقي على نفسي الخربة أسباباً مضنية لمزيد من الكآبة، هنا أدركت بأنني إلى عفو الله ورحمته راغب، وألفيتني أجثو في انكسار المقر قد ركبته الذنوب، واختلجت في نفسي أحاسيس البوار والخذلان، ولم تفارقني هذه الخلائط حتى فاضت مدامعي.

ومرّ بي الحلاق الجلاد يوماً، فقادني إلى صالونه، حيث هناك جزّ شعر رأسي، وأزال بشفرته عذار وجهي الذي نبت غزيراً، مقابل خمس ليرات، قبضها مقدماً، وما كانت هذه الحلاقة إلا تتويجاً للمأساة، وذلك بعد أن التقطوا لي صورتان على هيئة الأشعث الأغبر، تذكرك بعتاة المجرمين، اختاروا معها الزمان والمكان، فعلقوا لي لوحة على صدري كتبوا عليها بخط عريض اسمي ورقم التسلسل الذي يعطونه لكل نزيل في دفاترهم، ثم أخذت الصور.

على الرغم من رغبتي الجامحة في التحرر من كل هذه المآزق، إلا أنني كنت ألوذ بالصمت، وأراه كان يلفني حين كانوا يعودون بي ثانية إلى المنفردة، وكنت كلما سَرت في العنبر حركة، أهب واقفاً بانتظار ما هو آت، وباختفاء الجلبة كنت أستشعر عودة شيء من الحياة، فأنا سأحيا ولو لبضع ثوان من غير عذاب ماديّ، ولو على أسوء تقدير، فمتى يتوقف العمر، علّ في توقفه راحة من بعض هذا العناء، إن لم تكن راحة من كل عناء!!

بينما أحاول من شق البوابة أن أستعرض مصغياً لهذا الطارئ الجديد في العنبر، اندفعت البوابة، ليقف أمامي بائع السجن الجوال كي يسألني:

- هل ترغب في شراء شيء؟

لقد ترك الخوف رأسي ساكناً لهول المباغتة، قد فرت الكلمات مني، بالكاد أعثر على أي إجابة!

صاح في وجهي ثانية:

- هل أنت أصم؟

ما لبثت أن عادت لي حالتي الطبيعية:

- أرغب في شراء غيار داخلي.

 لم أكد استلمه، حتى عادت الأقدام تخطو باتجاهي، ورحت أرقب المكان بعين الحذر، رافقني شعور طفل صغير يرتعش عما قليل سيضرب على قفاه، ثم دوّى صرير المزلاج، واندفعت البوابة، واندفع من خلفها السجّان، وراح يسوقني حاملاً ذلي وشعثي بكرباج غليظ في يده، يهوي على ظهري من غير ما سبب فأهوي، ثم أعود فاعتدل مترنحاً تحت لهيب السوط، وأنا أجدّ السير صراخي وعويلي يطاول عنان السماء، وأصل إلى العنبر المقابل وقد صار لي من دمائي النازفة كسوة حمراء داكنة، ثم راح الجلاد كمن مسّه الجنون، يفتح أبواباً ويغلقها دون توقف، إلى أن وصل إلى بوابة لمنفردة مزدوجة، تعلوها كوّة قد غطاها شبك حديدي بإحكام، ومن أحد جدرانها ينبعث ضوء باهت بالكاد يجاهد عتمة المكان، وضع قدمه في ظهري وراح يدفعني إلى داخل المنفردة بقوة.

تنفست الصعداء، بعد أن أحكم الجلاد البوابة، وراح يبتعد بخطواته، تقهقرت إلى داخل المنفردة، ومضيت أتلمس ما بها من خلال الضباب الهلامي الذي كان يحيط بعيني إثر ضربة كرباج سقطت على أم رأسي، فلا شيء فيها يمكن رؤيته بسهولة، سوى كومة من بقايا آدميّ من أبناء حماة، شاب ممزق الأطراف، أشلاء قد أحاط بها الظلام، وحين بدأ الضباب في التلاشي عن عيني، كنا نحن الاثنين، شبحان من البشر في قعر هذه البئر المنقطعة عن الدنيا.

كان قد غاص برأسه بين كتفيه، وبين خاصرته والفخذ رأيت جرحه الهائج فاغراً فاه من غيظ الصديد الذي فاض في تدفق محموم، ما أن رآني وأحس بي حتى نفر بصوت الحمل الوادع يساق إلى الجزار:

- لماذا..؟ لماذا..؟ لماذا؟

لم أدرِ ماذا أقول، في الوقت الذي كان يزحف باتجاهي على يده وركبته، رحت أنظر إليه بعين ملؤها الأسى، كان يجاهد في رسم ابتسامة، لم يبقَ لها في عرفي أي معنى، قال لي رغم الألم:

- لقد جاؤوا بي من لبنان، هنا سقوني العذاب ألواناً، جرحي خير شاهد على مأساتي!!

انحنيت قليلاً على الجرح أتفحصه، لقد اتسع حتى ليخيل إليّ أن أي رباط أو لفافة تضميد لن يكون بمقدارها أن تحتويه، كان التهاباً فظيعاً، قد اجتمع فيه الصديد اجتماع الطين في ثقب الطوب المعطوب، غير أن ما كان يبعث على الاشمئزاز والتقزز، تعمّده الدائم إلى مسح الجرح وتنظيفه في البطانيّات التي كنا نستخدمها للنوم، وكنت ألتمس له الأعذار، فقد ظنّوا عليه حتى بالأربطة واللفائف، وما تراه على الجدران من بقع الصديد المتعفنة كان يبعث على القرف حتى الغثيان.

كان منتوف الريش طاوياً بلا زاد أو عتاد، ولم أجد من الغضاضة - ولله المنة أولاً وأخيراً - أن أؤثره على نفسي، فقد كنت أحسبها من شيم اللئام أن تتنعم بشيء تملكه، في الوقت الذي غيرك أحوج إليه منك، فرميت إليه بالغيار الداخلي الذي اشتريته لتوي، ثم بقميص من تلك التي اصطحبتها معي يوم قدومي.

لم تكد الأيام الأولى تنقضي، حتى لاحت في الأفق بعض متاعبي مع هشام، والتي كنت أجاهد نفسي في تجاوزها، كان ينام النهار فلا يستيقظ، وبذا لم أجد فيه شيئاً جديداً يؤنس وحشتي ووحدتي، وحين أقوم بمراجعته في ذلك كان يرد في عصبية مزاج بائنة:

- ارقد، حاج بقى (بمعنى يكفى)!!

فأجيب في مرارة:

- حين يضمني القبر، سوف يكون هناك مزيداً من الوقت للرقاد!!

أذكر أنني كنت أبحث عن حذائي، كي أتخلص من حشرة بعوض أيقظتني من سبات نومي وسبات قيدي، كان السجن يضج بهذا النوع من الحشرات المزعجة، وحين كنت أعمل على قتلها، استيقظ صاحبي على هذه الجلبة، ليبادرني دون أي مقدمات بقوله:

- يا أستاذ!! قديماً كانوا يقدمون الذوق على العلم!!

ثم انكفأ دون أن يزيد بعد أن جر الغطاء على رأسه وراح يعلو شخيره، كان لهذه العبارة وقع الخناجر في نفسي، وتذكرت محنتي فآثرت الصمت، ولم أعلق. مثلما صدمتني عبارته تلك، جاءني سؤاله المرير بعد أيام، فيه اجتماع الاتهام والريبة عن السبب الذي دفعني للتبرع له "بالغيار الداخلي والقميص"؟!

- نحن نستدفئ بالهدايا، إذا ما علمنا بأنها جاءت من قلب صادق، فهل كانت تلك الأشياء التي أعطيتني إياها خالصة لوجه الله تعالى؟!

جاء السؤال مفاجئاً فيه اتهام لم أجد له ما يبرره، ولم يكن بودي أن أجعل من ردي تناطحاً، أكسر به القرن والرأس، بل أردته إجابة لفك تلك الوعكة المزاجية الممجوجة، ولم أجد مندوحة من التصدي لهذا الاتهام الذي جاء بائساً مريراً، فقلت:

- كي أستدر ثقتك، فإذا ما وثقت بي أدليت لي بمشكلتك، وبعدها أستطيع أن أستدرجك كي تدلي لي بالمزيد من المعلومات، أقوم بنقلها بعد ذلك للمحقق!! والحال عندك سيان في أخذ الحيطة والحذر، كان ذلك عندي أم عند المحقق.

ثم بكيت لقدري الذي رماني بمثل هؤلاء، وتمنيت من الله أن يهيئ لي من الأسباب ما أستطيع درء هذا الواقع عني ما استطعت، بل تمنيت لو أنهم عادوا بي إلى المنفردة، فهذا الحديث كان وقعه عليّ أشد من البقاء وحيداً بين جدران مهما ضاق عليّ اتساعها، فهي بلا شك ستكون أرحب من شريك يزيدك تنغيصاً فوق ما أنت فيه من تنغيص!!

مضى أسبوعان على هذا الحال، كنت أشعر بأنني مع صاحبي هذا كما لو أنني في زنزانة داخل زنزانة، ولم يعد يأتي الرجل بأي إشارة، فلعله فهم ما أعني، ولعله لم يفهم، فالأمر عندي سواء، غير أن الشيء الذي لن أنساه، هو انخراطي في بكاء مرير، ندبت فيه قدري الذي ساقني لمقابلة هذه الصور الداكنة من البشر، وتمنيت على الله أن يهيئ لي من الأسباب ما أستطيع من خلاله دفع هذا الشقاء الذي يجلبه حتى الأبرياء في مثل هذه الأمكنة، بل صارت كما أسلفت لديّ رغبة أكيدة في إعادتي إلى المنفردة التي ما عدت أريد أن أرى فيها غيري، ولم أفلح فيما تلا من أيام قليلة في العد، لكنها ثقيلة بطيئة في التحرك والتبدل، لم أفلح في نزع فتيل سخطي، مع أنه كان من الأجدى أن أنسى، فكم هي المصائب كثيرة، والتي لا تكاد تخبو إحداها بأوارها حتى تنطلق أخرى أشد هيجاناً لا طاقة لي على تحمل تبعاتها! انتابني شعور بأنني ربما كنت ظالماً لهذا الشاب، في إعطاء حكمي هذا عليه، لكن الأيام كشفت لي فيما بعد بأن كل الذين التقيت بهم، كانوا لا يتجاوزون في نهاية المطاف هذا الحكم وزيادة!

في نهاية الأسبوع الثاني عادوا فنقلونا إلى منفردة جماعية، وها أنا ذا ثانية بين أناس لم ألتقيهم من قبل، ما أن دلفنا بوابة هذا المكان الجديد حتى هبّ الحضور لاستقبالنا، فتعانقنا وكأننا أصدقاء العمر نلتقي بعد طول غياب، وكان عدد الحضور لا يزيد عن تسعة أشخاص بمجيئنا صار العدد أحد عشر، ما لبثنا أن ضمتنا أُلفة عجيبة.

كانوا خليطاً من مشارب مختلفة متعددة، يحملون في صدورهم كل شيء إلا الضغائن والأحقاد، وكانوا جميعاً مذعنين لأقدارهم، يتلقون البلاء بصبر جمٍّ لا ينفذ، في هذا المكان تعرفت إلى المحامي رياض عدّاي "أبو صالح"، ابن مدير غرفة التجارة في دير الزور، جاؤوا به بحجة التوقيع على بيان أصدرته نقابة المحامين تندد بسلطة الفرد، وتطالب بالإصلاحات، وكان برفقته ممّن وقّع على هذا البيان، نقيب المحامين السوريين آنذاك زكريا عبد الجبار رجل قد جاوز السبعين من عمره، وفي المكان إياه تعرفت إلى الشيخ الدمشقي محقق الكتب عبد العزيز السيروان، والتهمة الموجهة إليه أن أحد تلاميذه تبيّن أن له علاقة بالإخوان، كذلك تعرفت إلى الشيخ الإدلبي موفق الشيخ إبراهيم، بالإضافة إلى ضابط أردني متقاعد هو فواز جميعان، أُفرج عنه بعد قرابة عام ونصف من اعتقاله، وعدد آخر من الشباب.

إن نسيت من الأشياء الكثير لا أنسى تلك الأريحية التي استقبلني بها المحامي رياض عداي، فقد قدم لي غياراً داخلياً و"بيجاما"، وكان من المدخنين فأشركني فيما يملك من سجائر، أما المبلغ الذي أعطاني إياه فلا أذكره، أسأل الله له خير الجزاء، كنت أعلم بأنني مهما بذلت من جهد، فسوف أبقى عاجزاً عن أن أفيه بعض ما قدم، كان نحيلاً ذاهباً في الطول، حتى لتخاله قائم على العظم والأعصاب والجلد، كان سريع الانفعال في عصبية ظاهرة، إلا أن جوانب جليلة تبدت في شخصيته الفذة، رجل يحترم نفسه، فاحترمه كل من كان حوله، وكان كثيراً ما يسألني على صغر سني وقلة تجربتي:

- لماذا أجبرت الدولة الناس على الثورة؟ ما الذنب الذي جنيته أنت حتى يقوموا باعتقالك؟

فتأتيه إجابتي عفوَّ الخاطر:

- حين تقوم الدولة بسلب الناس كل ما يملكون، حين تسلبهم الأمن والأمان، ما الذي تبقيه لهم كيلا يثوروا؟

وهو يهز رأسه مبتسماً في تأمل مفرط كان يردد:

- لا عليكم لن يطول بكم وبنا المقام، غداً إن شاء الله مع تباشير الفجر يأتي الفرج!

أما موفق ابن محافظة إدلب فقد استمر في صمته لا يتكلم، وكان يرقبني غير مصدق، كما لو أنني الوحيد الذي تجشم عناء هذه المغامرة المذلة البائسة، وحين تجرأ أخيراً ونطق، سألني عن الفترة التي أعتقد تغيّر الأوضاع والأحوال فيها؟! كما لو أنني أرجم بالغيب، وما كان في اعتقادي أنه يقصد الفترة الزمنية التي سنقضيها وراء القضبان، كان يبدو - برأسه المستدير، والحمرة التي يضرب إليها لون شعره، وبياض جلده وعيونه القاتمة الحزينة، تهيم على محيَّاه ابتسامة روحانية باهتة، وكان هزيلاً، مسلوب الإرادة، قد خضع لقضاء الله وقدره - كخارج لتوه من حلبة مصارعة خاسرة.

كان للقائي ببعض شباب الأردن حين قدومي إلى هذا المكان تخفيفاً لدواعي القنوط التي ملأت نفسي بالإحباط، وذلك حين التقيت بفواز جميعان ظُهر ذلك اليوم، شعرت بنوع من التعزية والسلوان، كان طويلاً في غير قصر، قد ارتدى قميصاً تركه مفتوحاً ليكشف عن صدر بانت نتوءات عظامه، ضابطاً قد أُعفي من كل المهام المطلوبة، أو في كلمة أدق، ضابط مُسح من الجيش، بدت عليه علامات الجد والصرامة التي قلما تجدها إلا عند العسكريين، لقد نفض لي في جلسة امتدت إلى وقت متأخر من الليل قصة ماضٍ شابه كثير مما يصيب الشباب في سني مراهقتهم المبكرة، قضاه متنقلاً بين دمشق وبيروت، وإني لأعجب لحالي اليوم إلى حد السخرية، وقد ذهبت بواكيري مع شهواتها ورغباتها، كيف كنت أصغي لمثل هذه الحكايات، ولا أكاد أجد لها وجه مقارنة مع عشرات، بل آلاف الفجائع التي لا تدخل في حسابات الأبرياء، لأنني تيقنت لاحقاً أن هؤلاء هم أهل البلاء، وأصحاب السبق والمبادئ، الذين تتعلق قلوبهم دوماً هناك، ولئن سألتهم إلى أين المصير؟ جاءتك الإجابة، إلى الله، إلى جنة عدنِ عند مليك عدل مقتدر!

كانت هذه الفترة تضج بعدد من المعتقلين الذين قدموا بهم من بناية سموها في ذلك الحين بناية القزّاز بدمشق، وحين وقفتُ على الحكاية، علمت بأن المخابرات رابطت في هذا المبنى أياماً طويلة، يمسكون بكل من يمر بالبيت، وزاد عدد المعتقلين الذين جاؤوا بهم من هذا المكان عن المائتين، فأقف من هذه الحكاية موقفاً عجيباً، وأعيد الاستفسار مرات عديدة، فلا أكاد أرى للعصابة الحاكمة أي وجه حق في احتلال البناية كل هذه الأيام، مخفية عناصرها خلف الأبواب، ليروعوا الأبرياء، ويقوموا بالتنكيل والاعتقال من غير حسيب أو رقيب!

انتفضت على جراحي الدامية، أنشغل بها عما سواها، وطفحت نفسي بنقمة عارمة على كل شيء، وعُرضت لي صورة والدي وإخوتي في رحلة العمر المرتحل، فأكاد أعض أصابعي ندماً، وتمنيت لو أن للزمن دورة إلى الوراء، كي أعود وأختار، ثم راحت الليالي يطوي بعضها بعضاً، أرقب وجه فواز المستطيل كصفحة بعضها مكتوب عليها، وبعضها بانتظار الكتابة، وأستمع إلى جلبة الأصوات المستغيثة في الدهليز المعتم، وهي في الطريق إلى المجهول، جلبة بالكاد أن تتوقف ولو لبعض يوم، وأنا واقف أودع بعض الراحلين، فيلازمني شعور المخنوق بعد أن اكتنفته الأحزان السرمدية التي لا تنتهي.

خفت أن يأتيني الدور يوماً، فيلتهمني المجهول الذي يلتهم كل هؤلاء، وجعلت بقية الأيام أمعن التفكير في هذه النازلة، فأرى أولها العذاب وآخرها العذاب وأوسطها العذاب، حياة عجيبة تلك التي نحياها، نبدأها بشد القماط وننهيها بشد الرباط!

منذ ذلك الحين بدأت أستمع إلى ما يروى لي عن قوافل الترحيل إلى تدمر، ذلك السجن الأسطورة، وكانت أيامي التالية أيام توديع للراحلين إلى هناك.

تمتّنَت العلاقة بيني وبين فواز، فكلانا من الوافدين على هذا البلد المضياف، ولكم جلسنا معاً نرتب مستقبلات أيامنا إذا ما جاء الفرج، ومع مُضي الأيام أصبحت أعي يقيناً بأن بقائي في هذا المكان قد يطول، وذلك الذي لم أستطع يومها أن أبوح به لأحد!!

كانت حجرتنا هي المكلفة بأعمال "السخرة" حيث كان يقوم أبو عبدو وهو من حلب يساعده آخر في توزيع وجبات الطعام بين الزنازين، وكثيراً ما كان يأتينا بأخبار بعض المعتقلين الجدد، من ذلك عودته لنا بفتوى من الشيخ هاشم المجذوب أحد كبار علماء دمشق المشهورين بالتقوى والصلاح، الذي دست المخابرات من يستفتيه في الطائفة "العلوية"، فلما أجاب الشيخ السائل، لفقوا له تهمة ساقوه بموجبها فيما بعد إلى "كهف تدمر العسكري"، عاد لنا أبو عبدو بفتوى الشيخ هاشم المجذوب وكان الوقت ما زال وقت صيام يفتي لنا بإجازة تبادل صدقة الفطر فيما بيننا.

لم أشأ أن أكون أنانياً في العمل التطوعي "أعمال السخرة"، والمكلفة بها الحجرة الجماعية التي نأوي إليها، والتي كان يرأسها القادم من بناية القزاز المجند أبو عبدو الحلبي، بالوجه الذي تساوى مع بقية الوجوه في الشحوب، والأعين الزائغة، وروائح العرق الفائحة من الأجساد المنهكة تكتم الأنفاس من كل ناحية، ومن حولنا رجالات المخابرات الغلاظ القساة الذين لا يرحمون بسياط التعسف، يحملونها في أيديهم، يذيقوننا بها أشد أنواع التنكيل، ناهيك عن أقذع الشتائم، في هذه الأجواء الموبوءة بكل شر، فلم أشأ أن أكون أنانياً في المساعدة في عمل سخرة تنظيف الأواني، وكان أبو عبدو يشارك أيضاً كما أسلفت في توزيع الطعام على الزنازين في مختلف العنابر، ومن هناك كان يأتينا بالجديد من الأخبار.

يرحل رمضان، ويحل العيد الأول، ومع التكبيرات التي كنا نهمس بها همساً، كنت أشعر بأننا أموات في صورة الأحياء، في كل زاوية من زوايا الحجرة انفرد كل بنفسه يبكي ويبتهل، وكان اليوم بالنسبة لي خليطاً من الأحزان والذكريات، لا حاجة كي نسأل إن كان للعيد شيئا من البهجة؟ أو أن أحداً من المسلمين في خارج هذه الأمكنة لديه إحساس العيد وبهجته؟ فأكاد أمزق شفتي ندماً تارة وأسفاً تارة أخرى وأنا أهز رأسي مردداً:

- هل أحداً من الناس يدري، أو يريد أن يدري، بأن هناك بؤساء غيبتهم سجون الظالمين، أو طوتهم أتربة هذه الصحاري المترامية المقفرة، فركونهم إلى الجهل بهذه الأمور يضفي عليهم راحة - ولو مؤقتة- لا يريدون أن يستيقظوا منها، حتى يأتيَ دورهم، عندها يدقون كفاً بكف، متبرمين بهذا الأمر الذي آلو إليه، قد أخذهم الندم، حين لا ينفع الندم، ليتنا عملنا ولو شيئاً، ثمّ تطوف بي الخواطر الدافئة في غير ما فائدة، إلى حيث الأحباب والأصحاب الذين خلفتهم هناك في "فرانكفورت" و"دارمشتات"، وحجرتي البهيجة التي حنت علي بؤسيّ وشقائيّ ولو لأيام، فترة يحسبها المرء من الزمن المقصوص، وأتذكر صاحبي على طرف الهاتف الآخر يأتيني صوته وكأنه ينعى لي الحرية.. "لن تعود".

كنّا نكبّر تكبيرات العيد في أصوات مبحوحة مخنوقة، فيها اختلاط الدموع والأشواق والحنين.

مساء العيد، حيث النهار لم يبرحنا بعد، حصلت قصة طريفة، كان الشيخ السيراون مريضاً، وكان كلما مر الممرض بنا رمى له بقرص من الأسبرين، يرمي لنا بالأقراص المسكنة في قرف زائد، ونظرة تكبّر تستشعر معها الذلة والضعة، وكان الممرض الجلاد يأمرنا بتناول الأقراص تحت إشرافه، طلب إليَّ الشيخ أن أحتاط له بقرص، أحاول إيهام الممرض بأنني تناولته، أخفيه داخل ثيابي بطريقة ما، إذ أن قرصا واحداً لا يكفي لتسكين آلام الشيخ، وكانت الخطة، فأتسلم القرص، لكن الممرض في هذا المرة كان يتبعني بطرف حاقد خفيّ، فيصر على تفتيشي، ويكتشف عدم تناولي للقرص، ويقف أبو صالح ومعه بقية الحاضرين يستجدون الجلاد العفوّ عني، فاليوم هو يوم عيد، والصفح من شيم الكرام، كانوا كمن ينفخ في قربة مثقوبة، فقد زاد ذلك الجلاد إصراراً على تلقيني درساً لا يُنسى، وأترك بقية الحكاية كي يحار فيها أصحاب الحجى، فما هو آت أعم وأغم.

استشعرت الفجيعة، كنت بائساَ، أرقب ما حولي في ذهول وأسى، وجاءت قائمة طويلة من الأسماء لتُتلى علينا عندما حلَّ الظلام، تماماً كما يفعل اللصوص، وقمت مع من قام نودع أحد الشباب من أبناء حلب، كان اسمه أحمد، هذا كل ما بقي في ذاكرتي من اسمه، وكانت الفرصة جدُّ ضيقة، بالكاد أن تظفر بكلمة وداع، فُتح لأحمد الباب، وخرج إلى حيث غيبة لا أظن بأنني سألقاه بعدها، وهمس موفق في أُذني وقد بدت الدمعة مترقرقة في عينيه:

- دفعة جديدة إلى تدمر!!

* * *

ماذا كان يعني أن تلتقط بيدك شيئاً من طعام ساقه الله من غير قصد منك إليك؟ اسألوا بالله عليكم طوب الأرض إن كان ينطق، اسألوا بالله عليكم شجر الأرض وحجرها وبشرها، فلعلها إن لم تجبكم جهاراً أجابتكم اعتباراً، وإلا فاسمعوا الحكاية:

في إحدى المرات أثناء فتح الحجرة علينا كي نقوم بغسل الأواني التي نستخدمها للطعام، وبعد الانتهاء من قضاء الحاجة في دورة المياه، وككل الأيام شرعنا في ذلك اليوم نقتسم البؤس اقتساماً حقيقياً، حمل كل منا نصيبه دون أن يجأر بالشكوى، أو أن يبدي أي شكل من أشكال التذمر، ولو شئنا فِعْل ذلك فلمن بعد الله نشكو؟ في طريق العودة إلى المهجع الذي يؤوينا، حانت من موفق الشيخ التفاتة للحجرة المجاورة، فإذا بيد أحدهم تقذف لنا ببعض الأطعمة، عبر نافذة صغيرة في الباب، وحين همّ موفق في التقاطها، صادف ذلك مرور مدير السجن، وهو ضابط شركسي ينادونه أبا نزار والذي كان الدهن فيه يتراكم بعضه فوق بعض، فشاهد موفق وهو يهم بالتقاط الأطعمة، فانظر يا رعاك الله إلى محاسن الصدف، وعلى رأي من قال رُبَّ صدفة خير من ألف ميعاد، لقد دفع موفق ثمن هذه المصادفة غالياً، وأدركت أن البلاء يساق مترادفاً لا يدفعه سوى القدر، نعم وأيم الله لقد سارت هذه اللحظات كسابقاتها وما يليها عوجاء فيها كل الاعوجاج، ليس فيها موطن لغير الدموع والعويل والصراخ، وكان لا بدَّ من نازلة، وكيف تكون النوازل؟!

لم يطل الانتظار، حين اندفعت البوابة، وأطل من خلفها المعتوه محمود عاقل، ولو دُعيت إلى محكمة لأُدلي فيها بشهادتي لأقسمت غير حانث بأن محمود عاقل هذا ليس له - شهد الله- من اسمه أي نصيب، لقد نزل هذا الجلاد المعتوه الذي سلطوه وابن عمه المعتوه الآخر علينا، نزلا مع الأسف الشديد بسياطهم وعصيّهم على زين شباب مهجعنا موفق ضربوه ضرباً مبرحاً، حتى وكأنني كنت أستمع إلى عظامه ووقع تكسرها تحت لهيب العصيّ والسياط، دون أن أمتلك أو يمتلك غيري الجرأة في قول كلمة كفوا يا أبناء الفجور!!

لقد كانوا ممعنين في طيش عجيب، وكل شيء هنا عجيب، وكانت رعونة الجلادين تأتي كالزوابع، إلى الدرجة التي كنا نقضي بعدها الوقت الكئيب منطوين على أنفسنا، أما هذه الحادثه، فقد تركت كل منا مستلقٍ على بطانيته، في ركن من الأركان الأربعة للمهجع الذي ثبتنا في سقفه ملابسنا المبللة، بانتظار تجفيفها، غارقاً - على الأقل أنا - في تأملاتي بانتظار الأمل الخادع الذي قد لا يأتي بل لعله لن يأتي.

لعل أشد ما كان يبعث على الألم، ذلك النقاش الذي يدور بلا مبرر بين أبو صالح رياض عدّاي، والشيخ السيروان، كان لهما طبعان ناريان، الشيخ السيروان ذا الطبع الناريّ الموقوت، أما الأستاذ عدّاي فذا طبع ناري مستمر، كانا يلتقيان على نقاش مسألة من مسائل الفقه التي أجهدت جهابذة الفقهاء، وكان لكلٍ منهما موقف ورأي يتعصب إليه، فإذا ما حمي وطيس النقاش، ألفيت شراراً ودخاناً يتصاعد من كليهما، ليحرق كل شيء، وغالباً ما كان ينتهي إلى شجار وقطيعة، وكثيراً ما كنت أتدخل للإصلاح بينهم، مستغلاً علاقتي الطيبة بكليهما.

لم تطل هدنة الأيام كثيراً، وأطلت المأساة من جديد، وتكشفت كل الخبايا، وأسرع البغاة فرفعوا السلاح من جديد، ومتى نكسوه حتى يرفعوه، ويطل مساء قاتم مظلم، وتنشط في الدهليز حركة، تنشط الغربان في تلاوة قائمةً من الأسماء، ونعق الدعيُّ في المساء، لتتم فجيعتي الأولى بحقٍ في هذا المكان، فنادوا على موفق، وكنا نظن في البداية بأنهم سيخلون سبيله، لكننا فوجئنا بترحيله إلى تدمر، ذلك السجن الذي ما زال بالنسبة لي سراً غامضاً، وبذلك أكون قد ودعت أحب الموجودين إلى نفسي، وكان مساء رحيله حزيناً، حتى كنت لأخاله قطعة انتزعوها مني انتزاعاً.

ركنت إلى هذا الواقع الجديد، وشرعت أوطن نفسي على شيء من الأنس بوجود هذه الوجوه من حولي، وكان أكثرنا حركة ونشاطاً شاب فلسطيني قد جاؤوا به من الحدود الأردنية السورية، جاء مع زميلين له للالتحاق بالمنظمات الفلسطينية، وقد مضى على اعتقاله قرابة العام، وشى به مخبر كان ينزل في ضيافته في منطقة حوران، وكان ماهراً في تشكيل أحجار الشطرنج من العجين، الذي كان يستخرجه من لب أرغفة الخبز، ولم يكن هناك صحافة أو كتب، ولا ورق ولا أقلام، لقد كنا محرومين من كل حق مدني أو إن شئت أي حق من حقوق الحيوان، فكنا نقضي سحابة يومنا بممارسة هذه اللعبة، وكان المقابل الذي ألعب معه دائماً هو عبد الرحمن العطار من مدينة الميادين بشمال سوريا، كان آخر من تعرفت إليه في هذا المهجع، لم يتجاوز العقد الثالث من عمره، بشارب يتربع تحت أنف أشم، ووجه أبيض ممتلئ مستدير، وعينان واسعتان فيهما براءة ووداعة، مربوع القامة، يعمل في تجارة الأقمشة، قد اتخذ محل إقامة في منطقة الميادين بشمال سوريا، وكان المسكين مصاباً بكسر في ساقه، لم يتركوا له مجال نزع القضيب المعدني الذي تركه له الأطباء حتى يتماثل للشفاء، ومع قسوة الظروف التي كنا نمر بها، فقد كانت تغمره ساعات من السعادة والطمأنينة، ما كان بإمكاني أن أعثر لها على أي إيضاح أو تفسير، إلا أنه سر يهبه الله لمن يشاء من عباده الصالحين.

غير أن هذه السعادة لم تدم طويلاً، والأقدار تحتفظ لنفسها دوماً بالخواتيم، ولها الظفر والغلبة في نهاية كل مطاف، فقد أطلت علينا محنة جديدة، وذلك عصر يوم من الأيام - كان جو المكان خليطاً من الحر والرطوبة- جاءنا نائب مدير السجن أبو منهل في ذلك اليوم، وفي كلمات مقتضبة ألقى إلينا الأمر بأن ينهي كلاً منا علاقته بالآخر، ونهيئ أنفسنا للارتحال!

رافقني إحساس مضطرب مشوش غامض، اشتبكت فيه الزفرات الحارقة بالحسرات المحبطة، وكنت كالمحموم أهذي، كانت الدموع خير رسول يرسله كل منا لأخيه، ونحن نتوادع، في الوقت الذي تنحيت فيه جانباً بفواز جميعان، طالباً منه أن يسامحني فيما إذا بدر مني ما يبعث على الإساءة، وأن يستر عليّ أي تقصير بدر مني عن غير عمد، ثم شددت على يده وطلبت منه أن ينقل خبري إلى أهلي، إذا ما فرّج الله عنه، فشدّ على يدي بدوره وهو يردد: "سوف تبقى في ذاكرتي أبدَ الدهر.. لن أنساك ما حييت"، ولم أنسَ أن أودع بقية الحاضرين، وشكرت لأبي صالح حسن صنيعه معي، ودعوت الله أن يجمعنا لقاءً خارج هذا المكان الظالم أهله، علني أقوى على رد بعض الجميل، وجاء السجان فاقتادنا، وانشغل كل منا بنفسه، في الوقت الذي التهمنا الدهليز، كان يلح عليّ سؤال في انتظار الإجابة، ترى أين ستكون المحطة التالية؟ ومن عساني سألتقي؟!

المهجع رقم "6"

في فرع التحقيق العسكري، وعلى اليمين مباشرة، بعد أن تتجاوز غرفة الإدارة بأمتار لا تزيد عن العشرة، تقع مجموعة من المهاجع على طرفي الدهليز، يشرف كلٌ منها ببوابته على البوابة المقابلة في الطرف الآخر، ومن بين هذه المهاجع كان المهجع رقم "6"، سبقني إليه عبد الرحمن العطار دون علمي، كان مكتظاً بالبشر، ما أن دلفته حتى خُيّل إليّ بأنني أدلف حماماً من الحمامات العامة، أو مستشفى من مستشفيات أصحاب العاهات الناجين من حرب لم تضع أوزارها بعد.

 كان المهجع مستطيلاً بحجم حجرتين متوسطتي المساحة، لا يتجاوز الأربعين متراً مربعاً، يأوون إليه كما تأوي القطعان إلى حظيرة الجزار، يتزاحمون بين مستلقٍ وواقفٍ وجالس، كما لو أنهم في محطة القطارات، بانتظار مجيء القطار كي يقلهم إلى المجهول، غير أنه لا يأتي، وكان عددهم يتجاوز المائة والخمسين، أكوام من البشر على وجوههم صفرة الموت، لا يكاد أحدهم يخلو من عاهة من العاهات، رؤيا الصديد والدماء صارت مألوفة وما عادت تبعث على الغثيان، ومع كل هذا لم تكن البسمة لتفارقهم جميعاً حين شرعوا في استقبالي، وفي الركن الأخير من صدر المكان، رأيت أكثر المتضررين قد افترشوا الأرض لا يقوون على الحراك، ومع أنني تعرضت لأصناف عدة من ألوان العذاب، إلا أنه من الحماقة بمكان أن أتجرأ هنا للقيام بعقد موازنة بين ما حل بي، وما رأيت من الوضع المأساوي لهؤلاء المساكين.

كانت المأساة تلفني كما كانت صرة أمتعتي تلف ما تحوي من الملابس، وبالقرب من البوابة التي أحكموا إغلاقها خلفي، جلست واضعاً الصرة تحتي، ذاهلاً عن كل ما حولي، قد شرد فكري وغيبني إلى حيث لا أدري، ومن بين هذه الجموع سمعت من ينادي عليّ باسمي، كادت الأرجل المزدحمة أن تدوسني حين سرت في المكان حركة مفاجئة، ما لبثت أن اشرأبت الرؤوس صوبي، وسرى همس بين الجموع كمن لا يصدق، ينقله الذي بجواري لمن يليه:

- أردني!! أردني!!

فاضطررت للوقوف، لأنني صرت بينهم كمن هبط للتو بالمظلة من كوكب آخر!!  ثم ما لبث اسمي أن تردد، وراح صاحب الصوت يقترب مني، شاقاً طريقه بصعوبة وسط الزحام، متخطياً بالحذر وشق النفس الأكوام البشرية المتراكمة بعضها فوق بعض، ما أن انتبهت حتى وجدته بجانبي، كان عبد الرحمن العطار فتعانقنا من جديد كما لو أننا ضعنا زمناً ثم التقينا، وهنّأ كل منا صاحبه بالسلامة، ثم قادني بدوره متخطياً في حذر أكوام البشر المزدحمة ثانية، وهناك قدّم لي ابن قضيته شكري الشيخ موسى من أكراد الميادين، يعمل أيضاً في تجارة الأقمشة، لا زلت أذكر تلك الابتسامة النورانية المشرقة التي استقبلني بها، كان في مثل سني، متناسق في كل ما حباه الله من خَلق وخُلق، أجمل ما فيه تلك البساطة العفوية، وذلك الجلال الذي يكلل وجهه الأسمر، لا تعرف الأحقاد سبيلاً إلى قلبه، متعلق بالله، لسانه ذاكراً لا يفتر، بسيطاً في كل أموره من غير تعقيد، منذ أن التقيته ارتفعت بيننا وشائج من المودة والاحترام، حتى أنني لأذكره في كل صلاة وابتهال، سائلاً الله له ولجميع المظلومين المعذبين في الأرض الإنصاف والفرج، ولأمثاله الخير الجزيل من غير انقطاع.

وأنا واقف أمام البوابة، شكري من أمامي وعبد الرحمن عن يميني، الزمن مر ونحن على هذا الحال، إذ أن الشعور بفقدان الزمن في هذه الأمكنة شيء لذيذ ممتع، أبصرت رئيس المهجع واقفاً بجواري يذكرني بنفسه، فأعود برأسي إلى الوراء، كما لو أنني أبحث عن صورته بين صور كثيرة، بعضها اندثر فلا أثر له في الذاكرة، وبعضها ما زال خالداً باقياً ما بقيت، ثم صحت وكأنني عثرت عليه:

- آه.. يا لمحاسن الأقدار أأنت كسكين؟ ثم تعانقنا.

لقد كان اللقاء الأول في فرع العدوي، وكان سبب الاعتقال كما ذكرت حينها أن أحد الفارين من مطاردة المخابرات، فجّر نفسه داخل المحل الذي يعملون فيه، مصحوباً برفقة أخ يكبره، وابن عمه المريض الذي لا يستطيع تناول كل الأطعمة، فالمسكين مصاب بقرحة المعدة. ويحدد لي رئيس المهجع مكان المنامة، وكان النوم بالتناوب، ثلاثة نتناوب على مساحة لا يزيد عرضها عن شبر وإصبعين، يقف الأول على قدميه لمدة ساعتين، وعند قدميه يجلس الثاني فترة الساعتين، في الوقت الذي يجتهد فيه الثالث استدراج النوم فترة الساعتين تلك، على جنب واحد دون أن يكون له أي فرصة في الحركة، فلا مجال للحركة والتقلب لضيق المكان، وكان رفاق المكان يضحكون وهم يذكرونك قبل النوم، بوجوب أن تنام إلى جنبك كحد السيف بقولهم: "سيِّف كيِّف"، ثم على النائم أن يستيقظ ليقف، ولينام الجالس عند رأسه، كي يتسنى للواقف أن يجلس، وهكذا دواليك مع بقية النزلاء على مدار الليل والنهار، هؤلاء الذين تراصوا عن يمينك وشمالك كما لو أنك محشوراً وإياهم داخل علبة سردين، فالوضع هنا يذكرك بيوم المحشر!!

أخذت أمور الحياة هنا تبين وتتضح بالتدريج، وألفيتني أضيق ذرعاً بالسجناء أحياناً كثيرة لا بالسجن نفسه، أعني بذلك هذا الذي يحيط بي من أرضه إلى سمائه، فأعتزل الكثير من الورى، وأقلل التحدث إليهم، يدفعني إلى ذلك كثرة انتشار العيون بيننا من المخبرين، ثم جاء من بعد ذلك شتاء كالح حزين، زادت فيه وطأة المخبرين، وهذا ما أدى بدوره إلى انحسار الثقة ليحل مكانها وجوب توخي الحيطة والحذر، يدفعني لكل هذا ما رواه لي بعض الذين التقيتهم في غفلة من خفافيش الظلام، كيف أن مخبراً، استطاع استدراج أحد الأبرياء، ليعيد فتح ملفه من جديد، ولينتهي به المطاف إلى حبل المشنقة!

هكذا كان الحال والمآل، فالتعذيب لم ينقطع، ورؤية العائدين من مكاتب التحقيق كانت مريرة، وأصوات الاستغاثة التي تطاول عنان السماء، ما عادت تخمد أو تستريح، وإن كان ولا بد، فلإغماءة ضاق صبر الاحتمال بها ذرعاً، وإلا فالموت الذي يمضي بالبائسين إلى رحمن رحيم، يشكون له بطش الطغاة المتجبرين، وظلم العتاة المتألهين، وامتلأت الأيام بالمهلكات من النذر، وصرت إلى ضيق لا يعلم مداه إلا الله، وبين مدٍّ وجزر كنت أدرك بأن الدنيا خارج هذا المكان ما زالت عامرة بالحركة، وقد ظل الناس يواصلون حياتهم الاعتيادية رغم كل المآسي، وكان لهذه الجموع من حولي التي التقت رغم أنفها على غير ميعاد، الأثر الأكبر في تبدد اليسير من الخوف من نفسي التالفة رغم قراري في اعتزال الكثير من الخلق، وما بعض القصص التي كنت أطلع عليها بين الحين والآخر، إلا المخدر الذي كان يسري في بدني، ليسلمني إلى الصمت المطبق في معظم الأحيان متجرعاً طعم العلقم المر الذي لا يطاق، والذي كان بدوره على مرارته يأتي أحياناً سخيفاً مضحكاً في آن معاً، ولعل طرفاً مما سأذكره تباعاً يدلل على هذا الذي ذهبت إليه.

فُتحت بوابة المهجع ذات يوم، وما أكثر ما كانوا يفتحونها على مدار الليل والنهار، وكلما فتح الباب لذنا إلى الدعاء المأثور "اللهم إنا نعوذ بك من كل طارق، إلا طارق يأتي بخير"، فُتحت البوابة، اندفع - مجبوراً في غلظة اعتدناها من الجلادين لكل وافد جديد- رجل قد شارف على الستين من عمره فارع الطول، يهتز منه الصدر والأرداف مع كل حركة يتحركها، عريض المنكبين، تزين وجهه لحية بيضاء، فيها شيء من وقار، وإن كنت أعتقد بأنها طالت عن غير قصد، وأُدخل معه شاب، قيل بأنه ابن أخته، متوسط الطول، بدا شارداً مشتت الفكر، له شارب طال في غير انتظام، وما أن استقر بهما المكان، حتى عرّف الرجل المسن عن نفسه باسم أبو عناد، أما الشاب فلعلة كان يُدعى شلاش، كانا من شوايا حمص.

لم أكن في وضع يأذن لي بالسؤال، لكن الحكاية ما برحت أن جاءت من غير ما طلب، وكانت طريفة، وأي حكاية من حكاياتنا لم تكن طريفة! لقد استمعت إلى هذه الحكاية عشرات المرات، لكثرة ما كررها الخال - المندهش المشدوه المبهوت مما وقع - على مسمع كل من حضر أو وفد، من الأجاويد كما كان يقول.

خف زحام المهجع قليلاً، بعد أن طوى المجهول مجموعة من المُرحَّلين، الذين مضوا بهم عصر يوم من الأيام، وصار بالإمكان أن يتحرك الناس، ويهجع من شاء لفترة أرحب وأوسع، وإن كانت إلى حين، وجاءت جلستي من غير قصد إلى جوار أبو عناد، قد اختفت جلبة الباكين المتضرعين، بعد أن أجهدهم طول الخوف والعناء، فاختطفهم النوم، أسند أبو عناد ظهره إلى حائط دورة المياه، وأنا جالس أمامه قد أتيحت لي فرصة فَرْدَ ساقي للمرة الأولى، ربما منذ دخولي إلى هذا المكان، ورفعت الأخرى، مكوراً يدي التي أسندتها إليها تحت ذقني، وأنا مصغٍ وكأنني التلميذ في حضرة المؤدب، ثم نادى على ابن أخته، وحين حضر التفت إليَّ قائلاً:

- اسمع يا ولدي، أنت على الحياد، سأروى لك قصتنا، أنا وابن أختي هذا على أمر عجيب، احْكُم - طال عمرك- بما تراه عدلاً، واسمع بعد ذلك من ابن أختي، قد تفيدني شهادتك عند المحقق.

مفاد القصة أن شلاش هذا وهو ابن أخت أبو عناد، ظهرت فيه بوادر رجولة مبكرة، من نشاط في العمل، واعتماد على النفس في كسب لقمة العيش، بما يشبه العصامية، مما كان له أطيب الأثر عندي، والعهدة على ذمة الراوي أبو عناد، يضيف قائلاً:

- أخذت أرقب الأيام، وأرقب اندفاعته الحيوية، إلى أن جاءني ظهر يوم من الأيام يرجوني العثور له على شريكة العمر، ولن أثقل عليك بنيَّ في الحديث، سعيت له بالزواج من أجمل بنات العشيرة، وأحسنها خلقاً وسيرة، ولم يزل حبل الود والوفاء بيننا موصولاً، إلى أن ساقته المخابرات بتهمة تهريب وتجارة الأسلحة أثناء غيابي في رحلة من تلك الرحلات، التي أغيب فيها أياماً في تجارة لي، وفوجئت عند عودتي بالكمين الذي نصبوه لي على حين غرة، ولما التقيت هذا العاق في فرع التحقيق العسكري بحمص علمت منه بأنه كان يعمل دون علمي بتهريب السلاح، ولما اشتدوا في تعذيبه - حسب زعمه- اعترف بالتهريب والاتجار، وحين طلب منه ذكر أسماء الذين اتَّجرَ معهم، أو باع لهم، لم يبقَ أحداً من أهل قريته إلا وأورد اسمه، سواء من باع له أو من لم يبع له.

وقطعت حديث أبو عناد لأسأل شلاش عن سبب اعترافه على هؤلاء جميعاً؟ فأجاب بلهجة بدويه صرفة:

- ذبحوني يا خوي!!

لم تنتهِ القصة بعد، فقد سألوه عن مجموع الأسلحة كاملة تلك التي باعها، ولعل ذاكرتي لا تخونني إن قلت بأنه اعترف بحيازته لقرابة "500" خمسمائة قطعة سلاح، بدأ يوزعها يميناً وشمالاً على أهل قريته، حتى إذا ما انتهى من التوزيع، بقي خمس وعشرون قطعة لم يستطيع أن يسندها لأحد، تركوا له مهلة يوم ليفكر ويتذكر، وفي اليوم التالي تفتقت عبقريته عن ذاكرة طيبة، فأخبرهم بأنه باعها لوالدته، ولم يترددوا في إحضارها من حمص حيث جرى معها تحقيق صارم. كان الخال أبو عناد يهدده دائماً بالثأر، ويسأله عن الذنب الذي ارتكبه حتى يقابل بنكران الجميل هذا.

أذكر مرة أنني كنت جالساً أستمع إلى حوار يجري بينهما - الخال وابن الأخت- أنهاه الخال بقوله:

- يا ناكر الجميل، ألم أسعَ في تزويجك من أجمل فتيات العشيرة؟ أقسم بالله إذا دهاني شر، لأجعلنَّ أولادي يقطعون رأسك هذا الذي تحمله بين جنبيك، والذي لا يحوي إلا التبن (علف الحيوانات)، ثم لأجعلنَّهم يبدلونه لك برأس بغل. يومها كنت أضحك ملء فمي، وأبكي ملء قلبي.

أعياني التفكير وأنا أجري خلف تفسير واضح لمثل هذه الظاهرة غير الاعتيادية لوضع هؤلاء البشر، وخَفّتِ الأيام عني من لأوائها، وذلك بالألفة التي نشطت في الأيام اللاحقة بيني وبين الأستاذ عبد الباقي حسين، وهو نحيل فارع الطول، قد سقط شعر رأسه،  من أكراد القامشلي، قد أنهى دراسته الجامعية في كلية الشريعة، كان مثقفاً واسع الاطلاع، وكان يومها يحضّر لرسالة الماجستير في الفلسفة، هادئا مجيداً لفن الكلام، يعمل في الشركة المتحدة للتوزيع والنشر، وكان مقرها يومئذٍ في بيروت، قدموا به من هناك، وكانت التهمة الموجهة إليه إخوانية، لعلاقة تربطه بصاحب الشركة السيد دعبول والذي يزعم الحاكم بأمره بأنه من أقطاب الأخوان، ولقد تعرّض الأستاذ عبد الباقي لوجبات وحشية من التعذيب، كسرت أضلاعه، وشجَّ رأسه، علمت بأنهم جروه في هزيع ليل خانق إلى حجرته المنفردة، قد غاب عن الدنيا لشدة ما ضُرب وعُذِّب، وقد غاص في دمائه التي راح يتخبط فيها، ولمّا استيقظ في اليوم التالي من غيبوبته، حاول أن يحرك أطرافه، أخذته الفجيعة، لقد ذهبوا بساقه التي تعطلت تماماً تحت لهيب السياط!!

لزمت مجلسه الذي بالكاد أن ينفض، أو أن يخلو من محب، ويمّمت وجهي إليه، جسم عليل، ورأس متوقد سليم، كان بدوره يرغب في مجالستنا، ولم يألُ جهداً في إسداء النصح لنا، ما استطاع إلى ذلك سبيلاً، يحذرني دائماً من غفلة الحديث فالمكان موبوء بخفافيش الظلام، لا سيما حين فشت يومها فضيحة شخصيتين لمخبرين، الأول من دروز سوريا ويدعى عادل، بدا لي بأنه كان يعمل جاهداً للتخلص من تهمة انتمائه للبعث اليميني، وكانوا يطلقون عليه اليمين العفن، كان عادل يمشي بأُذنه بين الناس، ومع أنه أقام الشبهات حول نفسه، إلا أن جبنه هذا وتخاذله في الوشاية بالأبرياء لم يكن ليشفع له عند الجلاد، فقد كان يُضرب من غير هوادة، وكان يعود محمولاً على البطانية، قد تغيّرت كل معالم وجهه وتفسخت قدماه، عند كل جلسة تحقيق، بعدها يشرع في تلاوة سورة طه، ولم أكن يومها لأفهم سر قراءته لهذه السورة التي كان يحفظها عن ظهر قلب، ودارت عليه دائرة السوء، بانتهاء مكائده، فألحقته الأيام بتدمر غير آبهين بكل ما قدم من خدمات.

كان عليّ أن أوازن بين حياتي كمعتقل لم يُبتَّ في أمري بعد، تأخذني الريبة في كل شيء يدور من حولي، مع أنه لم يعد هنالك ما أخاف عليه، ومعتقلٌ يرى ما حوله من فتية في مقتبل العمر يساقون إلى الجلاد بلا أدنى خبرة عمّا يدور، فأجدني قد ألممت بخبرة خمسة أشهر، أستطيع من خلالها أن أبدي بعض النصح، وكلما دخل فوج جديد من الوافدين كان الدوار يأخذ بي إلى منتهاه.

ثم قادتني الأيام كي أتعرف إلى وافدٍين جديد، احدهما جاء مدفوعاً بركلةٍ، عصر يوم من الأيام، وحين أخذ مكانه بجانب البوابة واضعاً صرة ملابسه على الأرض أمامه، نحيلاً طويلاً، في رأسه الصغير استدارة، قد كست وجهه التجاعيد، تدور عيناه في محاجرها في تحفز من أُخذ رغم الحذر، تعرف إليه بعض الحضور في تحفظٍ تامٍ، وحين حانت فرصة همس في أذني أحدهم:

- فلان.. من أشهر لصوص دمشق!!

لقد فسحوا له المجال ونال شيئاً من الاحترام، وصار مع الأيام النديم المقرب ممن آلت إليه رئاسة المهجع، وكان لماضيه الذي بدأ يتلألأ، سبباً في صعود نجمه سريعاً في دنيا مهجعنا!!

* * *

  أما الوافد الجديد الثاني فكان يُدعى هيثم خطاب من كرناز التابعة للصقيلبية من ريف حماة، وكان الوحيد الذي تنبأ لي مبكراً بالترحيل إلى تدمر، مبنياً ذلك على حدسه الذي لا يخيب والذي بالكاد أن يرقى إلى حد اليقين، مع أنني لم أدلِ له بأي حديث عن مجريات التحقيق معي!

كان حريصاً على ترتيب ملابسه مرتين في الأسبوع، يخبرني بأنهم يذهبون به إلى المحكمة تارة، وتارة كان يدّعي بأنهم يأخذونه إلى حجرة الزيارات لملاقاة أهله هناك، مع أنه لم يعد يوماً بما يثبت زعمه، كبعض الهدايا التي عادة ما يعود بها الزوار، وكان ذلك مدعاة للشك والريبة، وهذا ما كان يستدعي أخذ الحيطة والحذر من أي حديث يجري معه، وما أكد على ما ذهبت إليه، تلك العلاقة الطيبة التي بدت تربطه ببعض الجلادين، كالمعتوه عاقل، زد على ذلك أنه كان من القلائل الذين سمحوا لهم بإطالة شعرهم، وكان من أسباب حزني، تلك العلاقة التي راحت تجمعه بحسين بطحيش من الباب بحلب، حيث كان الأخير يقوم بتحفيظه بعضاً من سور القرآن الكريم، وما زال حسين يجتهد في تحفيظ هيثم، حتى جاءني يوماً، وأنا في حضرة الأستاذ عبد الباقي، ليلقي إلينا خبراً يقيناً، استقاه من مصدر موثوق، يفيد بما لا يدع مجالاً للشك، صدّق ما ذهبنا إليه من عمل هيثم مخبراً، يتقصى أخبار الأبرياء، ويطلب إلينا حسين النصح في التصرف، هل ينقطع عن تحفيظه؟ هل يستمر؟ وكان الرأي أن يستمر في التحفيظ، من باب دفع الضرر المقدم على جلب المنفعة، ولأن في الانقطاع جلباً للشكوك والظنون، وهما أمران أضيق من أن يحتملهما المرء في هذا الجو الموبوء بالفجائع!!

هذا ما فعله حسين، لم يبدل ولم يغيّر، ولا زالت الأيام بيننا، حتى نادوا عليه مساء يوم حزين، فانسلّ من بيننا كمن يقوم على عجل لأمر أهمه، في طريقه إلى تدمر، منذ ذلك الحين لم تقع عيني له على أثر، لقد بقي هيثم يحفظ ويصلي حتى غادرنا الأخ حسين إلى تدمر، بعدها تحوّل هيثم إلى شيطان فيه تمرد شياطين الأنس مجتمعة، فانقطع عن كل بادرة خير، انقطع عن الصلاة، فلم أراه بعدها قائماً.

وشاءت الأقدار أن ألتقي في هذا المكان ثانية بمحمد خالد العبده ابن مضايا من ريف دمشق، وقد كنت التقيته في فرع العدوي، بالإضافة إلى السيد أبو عمر الديركي والذي أخبرني بأنهم جاؤوا به برفقة زوجته من العدوي حيث كنا سوية هناك، وأفراد آخرين من كناكر قاموا بترحيل بعضهم بعد أيام قليلة من وصولي إلى سجن تدمر العسكري.

ألحقوني منذ اليوم الأول من وصولي بإحدى مجموعات الطعام، فالناس هنا موزعين إلى مجموعات، كل مجموعة لها أوانيها الخاصة قصعات لا يزيد عدد أفرادها عن العشرة، وكانت مجموعتي تحوي كل من "عبد الرحمن العطار، شكري الشيخ موسى، الأستاذ عبد الباقي حسين، سمير طحان، وهو طبيب من اللاذقية، وكان يرأس المجموعة، بالإضافة إلى محمد خالد العبدة، وعدنان بيرقدار، ذكوان كركتلي، وآخرين كثيرون"، منهم من رحل إلى تدمر، ومنهم من بقي ينتظر مصيره المجهول.

كما كان المكان مكتظاً بالبشر، فقد كان مكتظاً بنوع من أنواع الجراذين الغريبة، حين رأيتها للمرة الأولى حسبتها فصيلة من فصائل الأرانب، وذلك لكبر حجمها، كانت مريعة، ولقد برعت في كيفية تصيدها والإمساك بها، كلما سقط من السقف واحداً منها، وهذا ما كنت أقوم به على أكمل وجه تجاه النزلاء هنا، وكان المهجع يحتوي على جهازي سحب وطرد للهواء، أحدهما يقوم بسحب الهواء إلى داخل المكان ويسمى "شفاطاً"، والآخر يقوم بطرده إلى الخارج وكان يسمى "طارداً"، وكانت هذه الأسطوانات معلقة في أسفل السقف، نقوم بنشر ملابسنا التي نغسلها عليها كي يتسنى لها أن تجف، كان لهذا الجهاز الساحب الطارد، أكبر الأثر في إعطاء هذه الجموع من البشر أمل استمرارية الحياة، وكان توقفه عن العمل يعنى لنا الموت والفناء، وهو يعمل بالكهرباء، فإذا ما تعطل التيار الكهربائي عن العمل، أصبنا بضيق التنفس وبالإجهاد الشديد الذي يكاد يذهب بالأرواح، ومن أصابه الشك في ذلك، فليسأل أتربة دمشق وضواحيها عن تلك الجثث الطاهرة، التي أرسلها انعدام وصول الأكسجين، وضيق المكان، في غفلة من الناس والزمان إلى حيث لا رجعة، وفي هذه الأسطوانات وبينها كانت تعيش هذه الجراذين، تتحرك بحرية في الأعلى، متساوية بحرية هؤلاء الجراذين من الجلادين الذين يدبون على قاع الأرض خارج المكان، في الدهليز المقابل ذي البوابات السوداء الكابية المطلة على المهاجع والزنازين المنفردة منها والمزدوجة، وبين هذه الأسطوانات كنت أقيم جسراً صغيراً من فردة نعلٍ، أتركه موصولاً من أحد الأطراف ومعلقاً من الطرف الآخر، على شكل حرف "H" بالإنجليزية، وذلك لإيهام الجراذين بأنها جسر يمكن عبوره إلى الطرف الثاني، وحين يجتمع ثقلها في الطرف غير معلق، كانت تسقط، بعدها كنا نقضي عليها، والمضحك المبكي هو رؤية هؤلاء البائسين المتفسخة أقدامهم، وقد أجبروا على الوقوف، وهم يجرون مذعورين، قد أنستهم مناظر تلك الحيوانات وهي تزحف بدورها مذعورة جراحاتهم وأقدامهم المتفسخة، فارين يرجون السلامة، تماماً كما يفرون من بطش الجراذين من الجلادين خارج هذه البوابة السوداء، حتى يتم لي إلقاء القبض عليها، وكم كانت هذه المناظر في مثل هذه الأجواء الحافلة بالشقاء الدائم تبعث علي الضحك والأسى معاً!!

ثم أطلت ليلة لا زلت أذكرها، سرت في السجن جلبة غريبة وشرعت أبواب تفتح وأخرى تغلق، وبدأ الصراخ في الممر الضيق يملأ فراغ المكان، صراخ وأسواط وجلد، أفواه تجأر، وجلادون قتلة يشتمون ويضربون بلا هوادة، في يد أحدهم قائمة بأسماء يتلوها، وجاء دور بوابتنا، فنادوا على مجموعة من الشباب، كان من بينهم شكري، عبد الرحمن، حسين بطحيش - رئيس مجموعة الطعام التي أنا فيها-، سمير طحان، أبو مصعب مدرس من اللاذقية، الدكتور محمود أبو صالح من حلب، ثم أُمروا جميعاً بإنهاء علاقتهم بالمهجع، وتحضير حاجياتهم، وكانت تلك هي أول رحلة جماعية تراها عيني إلى تدمر، وأظنك يا صاحبي في غنىً عن معرفة حالي، وأنا أودع الجميع، لا زلت أذكر عشية أن نادوا على عبد الرحمن العطار، وشكري الشيخ موسى، الذي أسرني تماماً بمعروفه، ولقد كساني الحزن الشديد، وهو عاكف أمامي مع عبد الرحمن قبل الرحيل بساعات قليلة، قد جمعوا كل ما يملكون من نقود، بطبيعة الحال يومها لم أكن أملك شيئاً، ومع رفضي الذي لم يجدي، أصروا أن نتقاسم المبلغ بيننا بالتساوي، علماً أنهم لم يتوانوا دائماً عن دفعهم لكل فاتورة كنا نقوم بشرائها للمجموعة، وكانوا يدفعون حصتي دون أي منّة يتركون لي بعدها أي شعور يبعث على الدونية، بالإضافة إلى المداراة الواسعة التي كانوا يكلئونني بها أثناء وجودهم معي، وهذا ما زاد من لوعتي على فراقهم إلى درجة أنني بكيت، وبقي هذا الشعور رفيقي لزمن طال كلما لاح لي طيف أو خطر لي خاطر من ذكراهم.

لقد قُدّر مجموع هذه الدفعة بقرابة المائة، أعد لها زبانية السجن حفلة توديع عامرة بكل أصناف التعذيب، كان الجلد جماعياً، فيأتي الصراخ جماعياً، تعلو الاستغاثات، ثم تعود لتهبط رويداً رويداً إلي أن يخيم صمت، لا تلبث أن تخرقه السياط من جديد، وكان الضرب عشوائياً وعلى جميع أطراف الجسم، ومن بين الأصوات المستغيثة، كان يأتي صوت أحدهم مفجعاً بما للكلمة من معنىً:

- يا إلهي راحت عيني.. يا إلهي انطفأت عيني!!

كانت هذه الرحلة بمثابة المسمار الأخير الذي يدق في نعش روحي القانطة البائسة، إيذاناً في تهيئة نفسي إلى أيام لا يعلم سرها إلا الله، ولقد خلعت عليّ هذه الرحلة عقدة كنت في غنىً عنها، لقد خلعت عليّ وضعاً تخاذلياً عجيباً، لم أعد أملك معه الجرأة في ترديد التهمة التي وجهوها لي حتى بيني وبين نفسي المتهاوية.

كمية الطعام التي يقدمونها لنا قليلة رديئة، بالكاد أن تسند أصلابنا المتداعية، يتناوبون علينا بالرز والبرغل، أما اللحمة فقد صارت شهوة، وغالباً ما كان السجانون يسطون عليها فلا يصلنا منها شيء، وكنا نفر من كل هذا العناء إلى الصيام، وبذا يجزئ عن كل ذلك وجبة واحدة نأخذها آخر النهار، ولعلني أزيدك من الطنبور نغماً حين أعلمك بأن البيض صار من الأطعمة النادرة، والتي لا نراها إلا على فترات متباعدة، أذكر أن تلك الحسناء البيضاء كانت توزع على ستة من أفراد المجموعة، لكل منهم السدس، وقد تسألني كيف كنتم تقتسمونها!! فأخبرك خبرة العالم الداري، بأنّ القسمة كانت تتم بالخيط، في غاية الدقة والمعايرة، طبعاً مع المسامحة بين المتقاسمين!!

أما الزيارات فمعدومة، وقليلون من أبناء الذوات هم الذين كانوا يحصلون على هذه الحظوة، لذلك كنا نواجه شحاً في النقود، ومن أراد الحصول على بعضها كان يتوجب عليه أن يعمل في "سخرة تنظيف الأواني"، تتناوب عليها المجموعات، وكان هناك من النزلاء من يستنكف عن القيام بهذا العمل الذي يجد فيه نوعاً من الدونية، فيؤثرون دفع خمس ليرات لمن يقوم بأداء هذا العمل من بعض الشباب عوضاً عنهم، وما أكثر ما قمت بهذه المهمة، حيث كنت أدرأ من خلالها عن نفسي ذل الفاقة والحاجة، والتي كنت أمقتها منذ سني شبابي المبكر.

لم أعدم برحيلهم خيراً، فلقد استأنست بقدوم السيد زهير دهموش من أبناء دير الزور وكان قادماً في زيارة من السعودية، قضاها في دهاليز التحقيق العسكري تحت طائلة استقبال مهيب كاد ينتهي به إلى سجن تدمر، وإن كان قد زارها مع إحدى الدوريات كي يقابلوه هناك بابن خالته الذي برّأه بدوره من التهمة الإخوانية الموجهة إليه، وليتم إطلاق سراحه بعد قرابة الأشهر الثلاث، مخلفاً لي كل ما يملك من ملابس ومال، بعث لي بها مع أحد السجّانين، إلا أن رئيس المهجع الجديد أبو حسن وهو مساعد كان قبل اعتقاله يعمل في الشرطة، ولديه الخبرة الجيدة في جني المال الحلال! وهو من أبناء منطقة الباب بحلب، استولى على الملابس والمال عنوةً دون أن أراجعه في ذلك..!! وإن كان هذا لم يرق لبعض الشباب الذين ذهبوا ليكلموه في هذا الأمر، فرفض أي نقاش، وهدد وتوعد، وإن كنت اليوم لأجدني مدفوعاً لمسامحته من أعماق قلبي، بالرغم من كل ذلك، فقد كان طيباً على جشعه، فلم أسجل عليه أنه تسبب في إيذاء أحد من الشباب.

لعلهم قبل ذلك بأيام قد أفرجوا عن السيد كسكين رئيس المهجع السابق، مضوا به قبيل عصر يوم من الأيام بقليل، وسط شائعات قوية مفادها عدم علاقته بأي تهمة، من تلك التهم التي وُجهت إليه، ومع أنني كنت على يقين بأن تهمة كونه من منطقة الميدان بدمشق كانت كافية في نظر العصابة الحاكمة أن تورده لسنوات موارد الهلاك، تلك المنطقة التي أقامت ليل الدولة ولم تقعدها طوال فترة الأحداث التي شهدتها سوريا، أجل الميدان الذي يضج بالرجال، أي وأيم الله إنهم لنعم الرجال.

ليس من الإنصاف أن أتحول عن مقامي هنا، قبل أن أعرج فأنوه بإجلال إلى أبو أردان من إدلب، ذلك الشرطي الذي حمل على ظهره عبء السنين، لا أبالغ إن قلت بأن السيد أبو أردان هذا كان من أشد الناس بلاءً، يُعذَّب في كل جلسة تحقيق حتى نظن بأنه شارف على الموت، جلده العاري المصبوغ بالحمرة ودماؤه التي ما انكفأت تنزف، تذكرني بالأضاحي أيام الأعياد، سوف تبقى في ذاكرتي وأنا أشاهده محمولاً إثر كل عملية تحقيق على البطانية، لا موضع في جسمه تُرك من غير أثر للهيب سوط أو وقع كرباج وعصا، كان يُضرب حتى يشارف على الموت، يريدونه أن يُثبت في حيثيات التحقيق تسلمه لحقيبة مملوءة بالأسلحة والذخيرة، وأنه شريك في هذه التهمة مع أحد الشباب، ولله در الرجل كم صمد واحتسب، وكم عانى من أجل هذه الفرية، وما زالوا به حتى نقلوه إلى إحدى المنفردات وحيداً ليس له بعد الله من معتني، وبذا صار أبو أردان شيئاً من حكايات البؤس المضافة إلى عالم التغول اليومي الذي يمارسه صنف من البشر ماضون في إعلان الحرب على الله وخلقه، ومضى الرجل من دنيا وجودي، غير أن ذكراه باقية، وإلى الله المآب وعنده الملتقى والحساب.

ويطل يوم جديد مشفوعاً بقدوم أسامة محمود أردني من أصل فلسطيني، طالب يدرس في العراق، أهله المقيمون في الكويت ما زالوا في الانتظار لعلها سنة التخرج الأخيرة، يبزغ في سماء دنياهم، نجم أسامة الذي يرجون ويأملون، غير أن اجتياح إسرائيل للبنان عام 1982، لم يبقِ أمام الغيارى من شباب هذه الأمة أي خيار آخر، فجاؤوا على عجل تدفعهم النخوة، متطوعين للدفاع عن الأرض والعِرض، وكان أسامة واحداً من هؤلاء، إلا أن دولة الصمود والتصدي والممانعة، تلقفته غضاً ندياً قبل أن تطأ أقدامه الميدان، فساقوه مخفوراً من الحدود العراقية السورية، بعد إنزاله من الباص الذي كان يستقله مع ثلة من زملائه في نقطة الحدود بأم الشامات.

وفي فرع التحقيق العسكري سيئ الصيت، أذاقوا المسكين من أصناف العذاب، ما دفعه للكفر بكل الثوريين في العالم، وكانوا يطلبون إليه أن يعترف بتوقيعه على بيان أصدره اتحاد طلبة فلسطين يندد باحتلال الجيش السوري لمخيم تل الزعتر بلبنان، مع أنه لم يكن عضواً في الاتحاد عند تحرير القوات السورية الغازية لمخيم تل الزعتر من سكانه الفلسطينيين البسطاء الفقراء المسحوقين! وحين استقر به المقام بيننا، هز الأستاذ عبد الباقي رأسه أسفاً وهو يقول:

- لم تعد وحيداً!

لقد بعث قدومه -على ما فيه من مأساة كنت لا أتمناها لأحد - راحة في نفسي، فقد امتدت بيننا قصة إخاء ومودة، وعرفت بأنه من مواليد مدينة نابلس بفلسطين، وأنه يدرس الاقتصاد وإدارة الأعمال في جامعة الموصل بالعراق، ما أراحني وأثلج صدري شروعه في تأدية الصلاة، هكذا بالفطرة وبعفوية تامة، وحين رحنا نمضي سحابة يومنا معاً، نتناول الأحاديث، نجلس ونأكل معاً، وكلانا يتمنى للآخر فرج الله القريب، عندها قال ابن مضايا:

- حقاً لا يحن على العود إلا قشره!

لم يعلق أي منا، غير أن الأستاذ أضاف:

- هي الأرواح جنود مجندة.

فتح الباب يوماً وأطل من خلفه وجه السجان المكفهر، لا تدري أهي سجية وُلد بها، أم حق مكتسب حازه مع الأيام، وطول الدربة، ثم صاح بصوت أجش:

- أين النعيمي؟!

جرى أبو محمد حافي القدمين باتجاه الباب وهو يرتجف:

- نعم، سيدي، أنا النعيمي!

صاح الجلاد:

- البس نعلك واخرج مهرولاً!

لبى مطيعاً والخوف يلبسه:

- حاضر سيدي.

وحين أغلق الباب، جاء صوت السجان كالرحى:

- بسرعة يا ابن الـ....

في الوقت الذي أخذت خطى أبو محمد في الابتعاد، لفت الأستاذ انتباهنا إلى ضرورة الدعاء لأخينا بالثبات، بينما راح البعض يتلو سورة يس على نية أن يخفف الله عن أبو محمد.

* * *

- هنالك أناس لم يقوموا بتسديد ما عليهم تجاه فاتورة السخرة بعد!

ثم أردف متابعاً:

- فالذين لا ينوون المشاركة، عليهم دفع الخمس ليرات كي نوكل الأمر لمن لديه الرغبة في القيام بهذه المهمة.

هكذا قالها أبو حسن شاويش المهجع في حزم، وكأنه يقولها للمرة الأخيرة، وقد نفذ صبره!

ورد أبو نعيم - أحد نصارى حلب، ممن شرّفوه بمشاركتنا هذه المحنة! بسبب سيارة مشحونة بعجلات كاوتشوك، كان ينوى تهريبها، والعهدة على ذمته كما روى- في سخرية وهو جالس، ماداً ساقيه، سانداً ظهره إلى الجدار، وهو يتابع خيط دخان نفثه من سيجارته التي ما زال ممسكاً بها بين السبابة والوسطى:

- لا أحد ينوى الدفع، وفي يقيني أن الجميع لديهم القدرة على القيام بهذه المهمة!

ولم يزد أبو حسن أن قال:

- نأمل ذلك إن شاء الله!

لم يعدم أبو نعيم المال الكافي، كان يشتري به من يؤدي له أو عنه ما يريد من مهام، داخل ضيق المكان، أو خارج رحبته، ولم يطل به المكث، فقد تم الإفراج عنه لاحقاً، فالتهمة لم تكن تستحق المزيد من التحقيق والتدقيق، ما دامت في إطار الفساد العام، الذي يلف البلاد من أعلى هرم السلطة، إلى الدرجات الدنيا منها، وكان الله في عون البلاد والعباد!

عاد الباب ليُفتح من جديد، ولتداهمنا الوقائع، فالقادمون بهم من إدلب وريفها كجبل الزاوية مثلاً، كانت مناظرهم تذكرك بالمسلخ (مكان ذبح المواشي)، بالكاد أن تظفر بينهم على رجل معافى، لقد رأيت بينهم من سُلخت ساقه، تركوها بلا علاج، وكثيرون هم الذين سرت في عظامهم الغرغرينا دون أن يدركوهم بالعلاج المناسب، ولعزيزي القارئ دعوة إنسانية لزيارة هذه المناطق من مخلفات الحرب الكونية، كي ترى ذلك مجسداً في عبد الباقي، وحمود، وآل الرضوان، وأبناء آل الصغير، وكثيرون تضيق بهم مساحة السجلات، واسأل هناك عن سفاح الإجرام في تلك النواحي إبراهيم العاصي والذي ما فتئ كل من أقبل من هناك يروى لك المآسي عن جرائمه التي لا أعتقد بأن الأيام ستقوى على دملها أو نسيانها.

في حماة معمل الكاوتشوك لصناعة إطارات المركبات، لا زلت أذكر كيف أنهم أدخلوا علينا كبير المهندسين هناك، شاباً حموياً كان يعمل في إدارة المعمل، ولم يطل به المقام بيننا، ليلة واحدة يتيمة أخذوه بعدها في اليوم التالي إلى حجرة التحقيق، ليعودوا به بعد أقل من ساعتين كالجثة الهامدة، يتردد فيه النفس بصعوبة، بالكاد أن أتعرف عليه، قد اصطبغ جلده العاري من أعلاه إلى أدناه، بحمرة داكنة، ودماء موغلة في الزرقة محصورة بين اللحم والجلد، وتبلغ المأساة ذروتها، بتوقف التيار عن الإرسال، وبتوقفه توقف الشفاط عن ضخ الهواء، وكأنه يأبى إلا المشاركة الصامتة في إضفاء جو الأسى على رحيل المهندس، فقد توقف القلب عن إرسال النبض، وتوقفت الرئتان عن إرسال أي نفس ينبئ عن أي بصيص للحياة، مات في صمت كما دخل علينا في صمت، ووقفت أُشرف على تلك الجثة المزجاة أمامي، أذكره قبل ليلة يُعلِمني بأنه مهندس يعمل في حماة، ولم يكن في الوقت متسعاً كي نسأل عن اسمه، حقا إن للموت رهبة، ولم أكد أصدق بأنه مات، كان كالحلم، كما لو أنه نائم بعد قليل سَنوقِظُه، هكذا بكل بساطة قتله الإجرام العنصري الفاشي، ولمّا توقف تردد النفس، وأزف الرحيل، دققنا الباب، مضوا به بعدها إلى جهة لا نعلمها، غير أن الظنون باتت ترجح عند البعض بأن أتربة جبل قاسيون ربما كانت أحن عليه وأرأف من هؤلاء الطغاة، ولعلها كانت آخر مثوىٍ يضمه في هذه الدنيا الفانية.

إن توقف التيار الكهربائي وانقطاعه هو الموت المؤكد لنا، وما أكثر ما كان الشفاط يتوقف عن ضخ الهواء، ولك أن تتصور وضع قرابة المائة والخمسين من البشر في حجرة لا تزيد عن الأربعين متراً مربعاً. ثلاث أيام بلياليها، نتناوب على ثقب الباب لأخذ نفس من الهواء الذي أعطاه الله للناس على اختلاف مذاهبهم ومشاربهم، من غير أن يسألوه، حتى هذا الحق البسيط، ما كنت أعتقد أن هناك من يعمل على حرمان الناس منه!!

لم أكن أنا الغريب الوحيد عن هذا المكان، كان معي خليطٌ من البشر، منهم من جاء من العراق، هؤلاء المساكين الفارين من ويلات الحرب الدائرة مع إيران، تحصد في طريقها الأخضر واليابس، كانوا يعتقدون بأن لهم في سوريا مأوىً يقيهم سوء طالعهم، فإذا بهم كالمستجير من الرمضاء بالنار!!

إضافة إلى لبنانين كان جلهم من طرابلس، تلك المدينة التي لم تخلُ من عبث حكام الفصل العنصري في دمشق، وأتراك، وإيرانيين، وذكر لي بأن بعض الشباب جيء بهم من أفرع كانت تحتوي على معتقلين مسلمين من مختلف البلدان العربية والأجنبية.

الليل والنهار آيتان لهما ضوابط خارج هذا المكان، فالشمس بأشعتها تبدد ظلام الليل، والليل بحلكته يمحو آية النهار، أما هنا فليل سرمدي يبدد سكونه صراخ البائسين في قعر الدولاب (إطار المركبات الخارجي)، وتجاهد ظلامه المصابيح الباهتة المعلقة في أركان المهجع، كنا لا نعلم الليل من النهار، ولولا وجبات الطعام - والتي نادراً ما تأتي في موعدها - لاختلط الأمر علينا، لا أدل على ذلك من مرة قمت فيها من نومي على عجل، قد انتظم بعض الشباب في صلاة مكتوبة - لم يكن الأمر الظالم قد صدر بعد بمعاقبة من يصلي- فأسرعت إلى دورة المياه حيث توضأت ولحقت بالجماعة، ناوياً صلاة الفجر، ولكن الذي أيقظ الاستغراب في نفسي أنني أدركت معهم ثلاث ركعات، واعتقدت بأن الإمام قد سها في الصلاة، وما أن انتهوا من صلاتهم حتى سألت عن السبب فأخبروني بأنهم صلوا العصر!! ولم أعلق حيث أعدت صلاتي ثانية، بعدما تبين لي بأنني نمت بعد صلاة الظهر مباشرة.

لقد مضى زمن طويل في تحضير بعض الأعمال التي شغلتني عن الكتابة، فلم أستطع طوال قرابة الأشهر الخمسة بعد خروجي من تدوين حرف واحد، واليوم وأنا أعود ثانية لأتذكر المحنة القاسية، أكاد أرثي لهؤلاء الذين خلفتهم ورائي دون ذنب جنوه، أو جرم ارتكبوه، ولا زلت أذكر حلول رأس السنة الميلادية، فأصوات الرصاص نستمع إليها من خلف القضبان تلعلع في الخارج، وإني لأعجب لهذا القدر، كيف أن أُناساً في خارج هذا المكان يفرحون ويقيمون الاحتفالات والأعراس، بينما هنا للمآتم والتعازي سرادقات على الدوام منصوبة ما كانت لتهدم في يوم من الأيام!!

قليلون هم الذين كانوا يعودون إلينا ساعين من غرف التحقيق سيراً على الأقدام، لا أملك إحصائية وافية عن هؤلاء الذين ذهبوا ولم يعودوا، والعدد كما سبق وذكرت، أوسع من أن تحيط به دائرة ذاكرتي التالفة، وأغلب الظن أن لجبل قاسيون أو أطراف أخرى من ساحات المدينة المقفرة فضل إيوائهم تحت حنايا أتربتها.

كانت قائمة أو لوحة الحضور تمر بنا مساء كل يوم، وكان نائب مدير السجن، ذلك الحاقد المدعو أبو منهل هو صاحب هذه الوظيفة، وإن غاب فمالك أو أحد معاونيهم، وقلما مرت تلاوة القائمة دون الانفراد بأحد الشباب أو أكثر، لتنفيس أحقادهم الطافحة، على أن العذاب الجسدي والنفسي الذي كان يقع علينا لم يكن له أي حدود، ولا نكاد نتجاوز وضعاً مأساوياً حرجاً، حتى نتأهب لاستقبال آخر، آهل بأصناف الإهانة والإذلال، وكانت المهاجع تتعرض بين حين وآخر إلى غارة تفتيشية مفاجأة، نُجبَر قسراً وظلماً تحت لهيب السياط والركل بالأيدي والأقدام على أنحاء مختلفة من أبداننا الهزيلة، على ترك أمتعتنا والانتقال إلى حجرة مقابلة، يتعرض بعدها المهجع إلى تفتيش دقيق، ليضبطوا "رقية" قد سُجل عليها بعض الآيات القرآنية، لقد عشنا فترة عصيبة، كان الخوف يلفنا جميعاً، ولما لم يتعرفوا إلى صاحب الرقية، هددونا جميعاً بالضرب الموجع، ثم أُذن لنا أن نعود إلى مهجعنا.

فتحت البوابة يوماً، دلفها الجلاد المعتوه عاقل وكنت أظنهم قد جاؤوا به من أحد المصحات العقلية، كان لا يجيد حتى مجرد الكلام، أمرنا بالوقوف مدة ساعتين على قدم وساق، لم يكن بوسعنا أن نعارض، وكنا مجبرين على الخضوع، فنحن في الزمن الرديء، في المكان السيئ، للمعتوهين فيه سطوة وصولة. ثم عاد قبيل الظهر يسأل عن شيخ نظيف؟ كما قال، ولم يجرؤ أحد على الإفصاح عن نفسه، وبقي يسأل ويكرر معلناً بأن قصده شريف، فلديه أسئلة دينية تحتاج إلى بعض الفتاوى، ولما لم نجد من دفع الضرر بُدّ، تقدم له أحد الشباب، كان يعمل إماماً للمسجد الكبير بالقامشلي، سجّل عاقل اسم الإمام، ثم التفت إلى رئيس المهجع متوعداً محذراً:

- هذا الشيخ يجب أن تبحث له عن مكان بالقرب من الباب، وإياك أن توجه له أي إزعاج.

كان النوم بالقرب من الباب أمنية كل النزلاء، لأن جوف المهجع يعج بالهواء الفاسد المضغوط، ثم عاد عاقل ذلك الأبله بحق هذه الكلمة وما تعني، فأقال رئيس المهجع ليعين مكانه الشيخ، غير أن الشيخ اعتذر عن قيامه بهذا الواجب!!

بقدر ما كنا نعاني من لؤم هذا المعتوه الأحمق، وبقدر ما كان يوقع من عذاب وأذى يتلذذ في ممارسته علينا، بهذا القدر وزيادة كنا نرثى لتلك البلاد التي يتحكم فيها أمثال هؤلاء!

بحق الأقدمية تقرر نقل مكان منامتي في اتجاه الباب بالتدريج، غير أن الوضع الجديد لم يرق لأقدم جار لي في المنامة محمد العبدة، لا يريد لهم نقلي من جواره، ليحل غيري هناك، فهو يُكنّ لي من المودة والمحبة، ما لا يمكن التفريط بها، حتى لو كان ذلك في الانتقال لبضع خطوات، حين جاء شاويش المهجع أبو الحسن لترتيب الأمكنة، رفض محمد العبدة، وعمل على إقناعي بالبقاء إلى جواره، ويصيح أبو الحسن وهو مساعد قديم في الأمن العام:

- سوف يصبح صفوان جارك القادم، قُضي الأمر!!

بقي المكان المجاور لمحمد أياماً فارغاً، وأصبحت جاراً لفواز جمّال أياماً أخرى وبحكم الجوار علت بيننا بعض أواصر الصداقة، وفتح لي صدره، فعلمت بأنهم جاؤوا به لأيام خلت من منطقة ظهر البيدر بلبنان، منتزعينه من ثكنته العسكرية التي كان يؤدي فيها الخدمة الإلزامية، وهي المرة الثانية خلال فترة وجيزة التي يتم فيها اعتقاله، لقد صمد مع شريكه في التهمة أمام ما وقع عليهما من عذاب، وتكلل الصمود بالإفراج عنهما لاحقا كما علمت.

تعرفت في الأيام التالية إلى السيد خالد الرضوان مهندس مكانيك، يعمل في أداء الخدمة الإلزامية برتبة ملازم، كان أسمراً، إذا ما قمت بسبر أغواره ظننته صارماً في كل أموره، حتى لتخاله لا يعرف الابتسام أو الضحك، عيناه فيهما عمق المأساة، لا تبصره إلا محمولاً بين غرف التحقيق ومكان المنامة، لو وُزعت السياط والعصي التي سقطت على جلده وأم رأسه على مدينة بأكملها، لنال كل منهم نصيبه غير منقوص، مصابٌ بشلل خفيف لحادث سيارة تعرض له أيام الدراسة، يعيش بكليةٍ واحدة، متزوج وله - كما الآلاف هنا- أطفال صغار، بانتظار عودته سالماً كما هم بانتظار عودة آبائهم كذلك سالمين، لا يفتر الجلادون عن طلبه مرة على الأقل كل أسبوع يعودون به محمولاً على البطانية، أُغلق ملف التحقيق معه على تهمة مضحكة، مفادها أنه انقطع عن أسرته الإخوانية منذ منتصف الستينات وعلى وجه التحديد عام 1965 م، لم يشفع له هذا الانقطاع الذي مضى عليه خمسة عشر عاماً أمام إصرار الطواغيت على إرساله إلى سجن تدمر الصحراوي، ولعل إصرارهم هذا كان مبعثه، أن شقيق خالد رضوان والذي يُدعى وليد رضوان كان من قيادات الإخوان في منطقة إدلب، والذي علمنا فيما بعد، بأنهم أعدموه في السجن الصحراوي إياه بتدمر!!

لم يكد ينقضي شهر على آخر رحلة إلى تدمر، حتى جاءتنا قائمة جديدة، رحل بموجبها كل من السيد محمد خالد العبدة، وشاب معرّاوي يدعى سمير برفقة شقيقه، وجميع أبناء كناكر، ومجموعة لم أعد أذكر أسماءها من مناطق حلب وريف إدلب، وبعد أيام نادوا على اسم رجل نصراني متهم بالتهريب أشرت إليه سابقاً من سكان حلب يدعى أبو بشار حيث نقل إلى سجن القلعة المدني، ومن هناك قيل لي بأنهم أخلوا سبيله.

يوم التاسع عشر من تشرين الثاني "نوفمبر" نادوا على اسمي، فارتديت ملابسي على عجل وأنا أرتعد فرقاً، ترى إلى أين؟ وعلى الطرف الآخر من امتداد الدهليز، قادوني دون أن يضعوا لي غطاء العين، وهناك رأيت المحقق واقفاً بانتظاري، وجه إليّ سؤلاً واحداً لم يزد عليه:

- الدكتور مصطفى السروجي لماذا لا يعود إلى سوريا؟

زممت شفتاي، وهززت كتفاي، مبدياً جهلي بالأسباب التي تمنعه من الحضور، وبجرأة لم أعهدها في نفسي سألت:

- لقد مضى ما ينوف عن أشهر خمس، كانت كافية للتأكد من كل ما قيل عني ودُوِّن، وكنت أعتقد بأنكم ستخلون سبيلي على أي حال كان.

قاطعني دون أن يلتفت:

- عد إلى مهجعك الآن.

رضيت من الغنيمة بالإياب، لم يضربني أحد على غير العادة، وفاضت مدامعي وأنا أرى شباب المهجع يزحفون لاستقبالي مهنئين، شاكرين الله على السلامة وحسن الخاتمة.

أعترف اليوم وقد مضت رحلة الأيام مخلفة وراءها جبالاً من المآسي، قد كان هذا آخر سؤال يُطرح عليّ فيها قبل أن أترك مدينة دمشق مجبراً، بأنني كنت مغبوناً في هذه الصفقة الخاسرة إلى حد الغباء، لكنه القدر الذي ما كان له من دافع، ولا زلت أذكر السيد موفق وقد نفضت إليه بحكايتي، وما صدر عني من اعترافات كاذبة، لا زلت أذكره يطلب مني إلى حد الرجاء والتمني، أن أدق الباب طالباً مقابلة المحقق لأنفي وأكذّب ما أدليت به سابقاً جملة وتفصيلاً، حتى لو أدى ذلك إلى تعرضي لمزيد من التعذيب، وذكّرني بأن تجلدي وصمودي سوف يدفع عني رحلة تنتهي بي إلى سجن تدمر العسكري سيئ الصيت، وأيام حالكة سوداء قد تنتهي بي إلى حبل المشنقة بموجب المرسوم الجمهوري رقم "49" والذي ينص على إعدام كل من تثبت له صلة من أي شكل كانت بالإخوان المسلمين.

لم تكن الجرأة لتصحبني في دق الباب، سيما والصراخ من غرف التحقيق يتوارد علينا دون انقطاع، وبالكاد أن أتخيّل دورة لهيب السوط ولسع الكابلات من جديد، والذي قد يأتي على حياتي في أي لحظة هوس جنوني يزهو بها الجلاد، فآثرت الاستسلام للقدر حتى ولو كان الموت هو الخاتمة، ومن منا لن يموت!

رحت أشغل نفسي عن التفكير بحكايتي في الاستماع إلى حكايات الوافدين، عن سير التحقيق معهم، وكانت لعبة الشطرنج هي التسلية الوحيدة التي كنت أدفن نفسي فيها كلما تسربت إليّ الأفكار السوداء التي كانت تقض مضجعي وتطرد النوم عن عيني.

كانت رؤيتي لبعض الأحداث يقومون بترحيلهم إلي تدمر، لا لسبب اقترفوه، إلا انتماء آباءهم أو أحد أقربائهم لجهة من الجهات السياسة، فليس لأحد الحق في ممارسة السياسة هنا في سوريا سوى الحاكم بأمر الله من الفاطميين الجدد وأبناء القبيلة. ما زاد في يقيني أن ترحيلي إلى هناك ما هو إلا مسألة وقت ليس إلا!

المهجع رقم "5"

مرت أيام المهجع رقم "6" موغلة في الرتابة والملل، لم تنقطع تأوهات المعذبين وأنّات الجرحى، وكان الدواء على ندرته شحيحاً إذا ما منّوا به، ولم يأذنوا لنا برؤية الفضاء الخارجي ونحن نزلاء الظلم والظلام إلا مرة واحدة عند غروب شمس يوم من الأيام، وذلك بالخروج إلى سطح الأرض، عبر سلالم حديدية تنتهي إلى باحة تذكرك بحلبات الترويض في حدائق الحيوانات، وكنا نسير مترادفين في صمت المراسم الجنائزية، قد آذنتنا الشمس بالمغيب للتوّ خلف جبل قاسيون، قد أشرفت علينا أنوار الجبل شاحبة باكية، تبعث في النفس زوبعة من الحنين والذكريات، ولأول مرة يأتينا صوت الأذان عذباً ندياً بعد أشهر نافت عن الثلاث، وكأنه يبكي صوت بلال لأول مرة يملأ به سمع الدنيا ووجدانها من وهاد مكة والمدينة، فتجول بخاطري خلائط من المشاعر والأحاسيس، وتمنيت أن يطول بنا البقاء، غير أن صوت أحد الجلادين جاء لينتزعنا من كل هذه التخيلات، كي يعيدنا إلى واقعنا المؤلم المرير حين هتف بنا:

- الكل على المهجع يا عـ..

كانت رؤيا المصابين الذين خلفناهم في المهجع، ممن لا يقوون على الحركة أو المشي، تبعث في النفس مكامنها، ولقد جلست عند رأس أحدهم أرثي لحاله المتهالكة، وأحسست بالكبت ينزع بي إلى خبايا جوانحي، ففاضت مدامعي، ويا لطول فيضانها.

لم تمضِ أيام قليلة على رحيل عام ووفود آخر جديد، والناس ولْهى لسماع كل جديد، فالإشاعات ملء السمع والبصر، عن قرب عفوٌ عام قد يصدره النخاس عن الموالي البائسين، حتى أطلت علينا مجموعة من الأخبار، جاء في أحدها، أن مجموعة من شباب القوات المسلحة المصرية، على رأسهم شاب يدعى خالد الإسلامبولي تمكنت من الإطاحة برأس صاحب مبادرة ما سُمي يومها باتفاقية كامب ديفيد للسلام مع إسرائيل أنور السادات، وذلك يوم عرض عسكري مهيل، كان الرجل يحتفل فيه بمناسبة حرب رمضان التي مهدت له عقد تلك الاتفاقية التي حرمت الأمة من كل حقوقها الثابتة والمكتسبة، وأدخلت البلاد والعباد في منزلقات خطيرة من التيه والضياع!

على كل حال أفضى الرجل إلى ما قدم، وقال بعض البؤساء من الحاضرين، لعلها إرادة الله تتحقق من خلال قوله تعالى: ﴿و لا تحسبن الله غافلا عما يعمل الظالمون﴾ وابتهلت في سريرتي، أن يقيض الله لطاغية سوريا من يريح الأمة من غمّه وهمّه.

أما الأخبار الأخرى، فقد جاءت مخيبة للآمال، مزيداً من الاعتقالات بين صفوف الأبرياء، وتلتها مجموعة من الأحداث، أذكر منها حادثة مجلس الشعب، ثم مبنى خاص -والعهدة على ذمة الراوي - بالخبراء الروس، وتوجت بحادثة الآمرية العسكرية للطيران، والتي أودت كما ذكر شهود عيان بحياة عدد كبير من ضباط جهاز المخابرات العنصري، وروى بعض الوافدين لنا عملية الآمرية العسكرية للطيران على نحو من ضروب البطولات الخارقة، وذلك أن سيارة عسكرية كان يقودها ضابط برتبة عالية، تبين فيما بعد بأنه كان من أفراد تنظيم الإخوان، وما كانت البزة التي يرتديها إلا لتيسر له دخول مبنى الآمرية، كان يقود سيارته بسرعة فائقة، في الوقت الذي كانت تندفع سيارة أخرى في أثره، لم تتوقف عن إطلاق الرصاص من مدفعها الرشاش، موهمة بذلك حراس الآمرية بالخطر الذي يلاحق الضابط، قائد المركبة الأولى، إذا لم تفتح له الأبواب دون اعتراض أو تلكؤ!!

قاد هذا الشاب سيارته متخطياً بها درج السلالم الذي ينتهي إلى مبنى آمرية الطيران، في الوقت الذي انشغل فيه الحراس بمعالجة المركبة التي لاذت بالفرار، والتي كانت تطلق النيران في الهواء، كان هذا الشاب يترجل على عجل من سيارته، ليتسلق درج المبنى من الداخل، مقتحماً بعد ذلك مكاتب كبار الضباط الواحد تلو الآخر، متمكناً من قتل بعضهم قبل أن يتنبهوا له ويقتلوه، في نفس الحين الذي هرع فيه معظم العاملين إلى النوافذ والبلكونات، لمشاهدة ما يجري في الخارج، وما أن اكتظت الردهات بالضباط والجنود، حتى دوى انفجار السيارة الملغومة والمتوقفة على الدرج أسفل المبنى، محدثة خسائر مادية وبشرية فادحة.

كان لهذه الحادثة بالإضافة إلى حوادث أخرى، ردة فعل بالغة القسوة على المعتقلين داخل السجون عامة، وعلى شباب منطقة الميدان بدمشق خاصة، فالشاب الذي قام بهذه العملية كان من منطقة الميدان، ومن شباب جامع الغواص الذي يقوم بتخريج حفظة القرآن،

كنت خائفاً، ولم أكن الوحيد، وجاء منظر الغداء مصدقاً لمخاوفي، فقد جاء شحيحاً رديئاً، وحين فُتح الباب جاء فتحه مصحوباً بكل ألوان التنكيل، وكانت مجزرة سقط على إثرها الكثيرون من النزلاء يتخبطون بدمائهم وهم بين الحياة والموت.

أقبلت الأيام حبلى بكل جديد، فإذا المهاجع تزداد اكتظاظاً على اكتظاظها، وإذا بلفيف من شباب الميدان يملؤون علينا المكان على امتلائه، وإذا السوط والجلاد بالمرصاد، وإذا الدنيا تلتئم بلؤمها وأوحالها، وإذا نحن ثانية في الطحن من غير رحى.

فيما نحن نتشاجر على مكان النوم الذي بالكاد يكفي لتضع جنبك كحد السيف كما أسلفت، علمنا بإخلاء المهجع رقم "5" من نزلائه، من غير أن ندري الأسباب، ولا إلى أين مضوا بهم، وفيما نحن على هذا الحال، جاءنا أبو منهل ذلك السفاح نائب مدير السجن، طلب إلينا أن ينهي كل منا علاقته بالآخر والاستعداد للرحيل، ألقى بهذه العبارة ولم يزد، ثم انصرف.

تملكنا الخوف، وفزع كل منا لمن حوله، ودبت في المهجع حركة الرحيل والوداع، ثم ما لبثت أن عصفت بالمهجع تكهنات من التعليقات والافتراضات، وفاضت أنفسنا الغارقة في الذهول بكل ألوان التحسر، والقليل منا هم الذين كانوا يتوخون الخير من وراء هذا الإجراء، وكانت لنا أسبابنا، إذ أن أخبار المجازر التي أقاموها في حلب وجسر الشغور، بالإضافة إلى مجزرة تدمر، لم تكن أخبارها لتذهب من الذاكرة بعد. ولا أدري كيف تذكرت أحلامي في هذه اللحظة، فكانت على تعثرها تبعث في نفسي شيئاً من الطمأنينة التي تفيد بأنني سأعيش، رغم اعتلائي للزورق مقلوبا في بحر لجي تعلوه امواج من فوقها امواج، وسأنجو لأخرج يوماً إلى الحياة والنور، وإن كنت سأقضي أياماً قد تطول.

وبعد عشر دقائق قلت أو زادت، أقبل السفاح يحمل بين يديه سجلاً كبيراً، ما أن فتح الباب حتى اشرأبت الأعناق، وساد صمت، وراح ينعق كغراب وقف على الخراب:

- سوف نقوم بفرزكم على المهاجع كل حسب تهمته!!

سرت في المكان زفرات من الارتياح، وتنفس الحضور شيئاً من الصعداء، في الوقت الذي راح الجلاد يتلو فيه الأسماء، مقرونة برقم المهجع الذي سيتم الانتقال إليه.

نادى على أسماءَ كثيرةٍ إلى أن جاء دوري فحملت صرّة ملابسي، وأُمرت بالوقوف في البهو الطويل، حتى ينتهي سيادته من فرز المجموعة التي سترافقني إلى المهجع رقم "5".

وجاءت المجموعة على النحو التالي:

خالد رضوان الرضوان، عبد الباقي حسين، هيثم خطاب، الدكتور يوسف حميدي، ذكوان كركتلي، محمد دمياطي، بالإضافة إلى لفيف آخر من النزلاء لم أعد أذكر أحداً منهم، قادنا بعدها أحد الجلادين إلى المهجع رقم "5"، بدا خالياً إلا من مجموعة صغيرة من النزلاء، أذكر منهم: عبد السلام تسقيَّة من أبناء حلب، يوسف زين العابدين محامي من أبناء اللاذقية وآخرين.

لم يكن المهجع رقم "5" على كبير اختلاف من المهجع رقم "6"، فالبوابة السوداء تحمل نفس الطلاء القاري الداكن، وقبالة البوابة حين تدلفها على الشمال مباشرة تقع دورة المياه قد أرخينا على مدخلها ستارة، نستر من خلالها عورتنا عند قضاء الحاجة، أو تناول استحمام لم يهنأ فيه أحد منا بالماء الدافئ، ناهيك عن الساخن لغسل ملابسنا، لا خيار لنا، فالماء البارد هو قدرنا هنا صيف شتاء، وفي نهاية الركن الغربي كان هنالك منعطف نحو الداخل أطلق عليه بعض النزلاء اسم المستوصف، كنا نؤوي إليه المنكوبين من ذوى الاحتياجات الخاصة، هؤلاء الذين فقدوا بعض أطرافهم من شدة التعذيب، أو الذين صارت الحركة متعذرة عليهم لشدة ما لحق بهم من أذى وتقرحات والتهابات في شتى أنحاء أجسادهم، قد تُركوا من غير حسيب أو طبيب، كذلك كان يأوي إلى ذات المكان الوافدون الجدد، كي يتدرج بهم الانتقال بعد ذلك حتى يأخذوا أمكنتهم عند فتحة الباب، هذا إن طال بهم المقام، والانتقال مرهون بالأقدمية، فصاحب الحظوة في هذا الزحام من كان له عند طرف البوابة موطن قدم أو مقام، وفي أسفل السقف وعلى موازاته تماماً كانت تقع "شفاطات الهواء" من وإلى الداخل، ولولاها بعد الله لانعدمت الحياة تماماً هنا، إضافة إلى عدد هائل من النزلاء الثقلاء، لقد كان المكان يضج بالمئات من الجراذين.

توافدت علينا الجموع من البشر الغارقين في ذهول من يساق إلى الموت، جاؤوا بهم من مهاجع شتى، وصار المكان أشبه بالحظيرة، السلخ والذبح والتقطيع والعلف والدماء والثغاء والخوار والرفث والدماء والصديد والجروح والقروح، بالإضافة إلى العوراء والعرجاء والصماء وما في قاموسك من مترادفات على هذا النحو عرفتها أو هي في الطريق إليك لتعرفها في المنظور من المستقبل أو البعيد، كل ذلك صار في عين المكان من الشاهد والمشهود، وصار للمكان لون من الطيف واحد، لون الإخوان المسلمين ومن ناصرهم أو تعاطف معهم، وكذلك بعض المندسين من عيون الفاطميين الجدد، وما زاد في شقاء المظلومين وبؤسهم هنا، أن هيثم خطاب أمسى رئيساً للمهجع الجديد! ولم يكن لأحد هنا الخيار في تعيين أو اختيار أحد سواه، فقد جاء تعيينه من سلطات عليا لا طاقة لنا في الاعتراض عليها، وصار ما بيني وبينه مع الأيام يصدق فيه قول الشاعر:

ومن نكد الدنيا على الحرِّ أن يرى

 

عدواً له ما من صداقته بدٌّ

لذا صار لا بد من الذي ليس منه بد، سايرته اتقاءً لشره عن العباد، ورحت أخفف ما استطعت من سطوة تلك النفس الخبيثة التي كانت بين جنبيه في إيصال الأذية إلى الناس، وما زادني سر اندفاعه في التقرب إليّ إلا ريبةً وخشيةً، وكنت يومها - عافاكم الله- من المدخنين، ألفيته يغمرني بهذا النعيم الميئوس من نوال الأجر عليه ، في كرم زائد لم يكن له عندي ما يبرره، ولم يكن بوسعي أن أرفض منه ذلك لعلتين إحداهما أقبح من التي تليها، رغبة في الكيف أولاً، والظن الذي رجح عندي في قدرته على إيصال الأذية إلى من أعلن عليه الحرب ثانياً، وجاء توزيعنا على ما يسمى بالقصعات (مجموعات الطعام)، فكان نصيبي بطبيعة الحال مع رئيس المهجع، والتي حوت كل من: السيد عبد الباقي حسين، خالد الرضوان، ذكوان كركتلي، وفي هذا المكان تسنى لذكوان أن يلتقي بأخيه مرهف كركتلي وهو طالب بكلية الآداب بجامعة حلب.

لم يعد بوسعي الآن أن أتذكر متى وكيف نفضت للأستاذ عبد الباقي حكايتي، فهاله ما سمع، وكان يستمع إليّ ساهباً بالكاد أن يصدق، ولم أنتظر منه أي تعليق، فقد جاءت نظراته الزائغة لتغني عن كل تعليق.

حين قمنا بتشكيل مجموع الطعام طلب إليّ الإشراف على إدارتها، فرفضت ذلك واعتذرت، وحاول الأستاذ عبد الباقي إقناعي في إدارتها بقوله:

- ما المانع من الإدارة، وقد كنت تدير المجموعة في المهجع رقم "6"!

- اجعلوا الأمر لغيري، فأنا لا أرغب في تكرار التجربة ثانية!

حين لمس إصراري على الرفض أعلن عليّ القطيعة فلم يعد يكلمني إلا لمماً.

* * *

أبو زهيَّان فلاح موغل في السذاجة وطيبة القلب، ومع علمي ويقيني أن ما سأرويه عنه تباعاً، ما هو إلا نوع من الإسفاف الذي انزلق إليه الظالمون من القرامطة الجدد، أزعم جازماً أن الرجل أمّيٌ لم تَسِرْ به قدم إلى أي مدرسة أو دار تعليم أياً كان اسمها أو مستواها، كان يعمل في الزراعة، وتربية المواشي، جاؤوا به من ريف حماة، مكتنز البنية مربوع القامة، في امتلاءة تنبئ عن بساطة في العيش وراحةٍ في البال، قدموا به للتو من المستشفى حيث كان يعالج من آثار التعذيب الآدمي لا الوحشي، فالوحش إن شبع أمسك، أما هؤلاء فليس لهم من دون الله من ممسك أو ملجم.

لقد مارسوا عليه كما ذكر لي لاحقاً من العذاب ألواناً حتى أماتوه ثم عملوا على إحيائه من جديد، وكان من غُلبه يتساءل:

- لمَ كل ذلك؟

أذكر طلته البهية علينا حين دلف الباب بلحيته الكثة التي طالت في غير انتظام، صاح به هيثم:

- متي اغتسلت للمرة الأخيرة؟

ويجيب بنَفَس مقطوع، وعينان زائغتان:

- منذ ما يزيد عن شهر ونصف!

لم يبدل هيثم لهجة الصريخ هاتفاً:

- إلى الحمام، اخلع جلاّبيتك، وليتبرع له أحدكم بغيار داخلي، وبشيء من الصابون!

في لمح البصر خلع أبو زهيّان الجلاّبية، فإذا به عارياً من غير شيء كيوم ميلاده الميمون، فضج الجمع بالضحك، وجرى آخرون بالبطانيات يسترون عورته.

بعد الاستحمام، جعله الله حماماً هنيئاً، جلس البائس يروي لي كيف سحبوه من حضن زوجته قبيل الفجر بقليل، لم يمهلوه كي يرتدي ثيابه، كانت الجلابية أقرب شيء إليه، اندس فيها على عجل، مضى به زوار الفجر ما بين ركل وصفع لا يلوون على شيء.

في قسم التحقيق واجهوه بالجرم المشهود، لقد أقدم على بيع قطعة سلاح لمجهول لا يعلم عنه شيئاً، تبين فيما بعد أنه عضو في جماعة الإخوان المسلمين.

أيام قليلة ويُدعى أبو زهيان إلى التحقيق، ويبادره المحقق بالسؤال عن قطعة سلاح أخرى زعم المحقق أن السيد زهيان الابن البكر لأبي زهيان اعترف بأن والده باعها لمجهول آخر!

أنكر أبو زهيان التهمة، وحين أوشكوا أن يضعوه تحت السوط والجلاد، أجاب بعفوية:

- إذا كان زهيان ينسب إليّ هذه الفرية، فإني أشهدك يا سيدي، بأن زهيان هو ابن راعي الغنم عندنا، هذا الولد المفتري ليس من صلبي، لا يُعقل أن يكذب ولدٌ على أبيه، لعنة الإنس والجن على زهيان.

لم يتمالك المحقق نفسه من الضحك، وحين همّ بصرفه، التفت أبو زهيان إلى المحقق وبنفس السذاجة أردف قائلاً:

- هل تنوون إخلاء سبيل زهيان؟

وفي صرامة يجيب المحقق:

- هذا شأننا، نفعل ما نريد، ثم لماذا تسأل؟

وبنفس البلاهة:

- أرجوك يا سيدي لا تخلوا سبيله قبلي، هذا العاق يريد الإيقاع بي كي أبقى أنا وينجو هو، وإذا ما نجى، انفرد بقطيع غنمي، فباعه بأي ثمن، فيمضي بالدراهم يبذرها هذا اللص على رغباته ونزواته.

منذ ذلك الحين لم يعد اسم أبو زهيان يتداول في أروقة غرف التحقيق، وبذا طويت الصفحة، كي تليها صفحات أخرى لأبرياء آخرين دون أن يئن الأوان كي تنطوي!

هذا غيض من فيض البؤس الذي جنح بالأمة إلى الإسفاف حتى القاع، يُعتقل أبو زهيان لأنه باع قطعة السلاح التي كان من المؤمل أن نحرر بها الجولان، ولولا هذه الفعلة الدنيئة لما تقهقرنا في كل الحروب، ولك أن تضحك ملءَ فيك، أو أن تبكي - إن شئت - ملء كل جارحة من جوارحك، حين أسرد عليك حكاية طريفة ظريفة، فقد جاؤوا بنزيل من البادية، وكالعادة مارسوا عليه كل أسباب التنكيل، يريدون منه أن يعترف بجلب مناشير (بيانات) من العراق تندد بالنظام، لقد قاسى الرجل طويلاً إلى إن انهار واعترف بجلب المناشير، وحين سُئل عما فعل بهذه المناشير؟ جاءت الإجابة المضحكة المبكية:

- لقد نشرنا بها الأشجار!!

لم تكن لديه القدرة على أن يدرك معنى آخر للمناشير غير أنها تنشر الأخشاب، ومع كل هذا واصلوا اعتقاله وامتهان كرامته، هذا إن كانوا قد أبقوا له على أي شيء منها!

 لعبت الرؤى والأحلام دوراً بارزاً في إدارة دفة الحياة اليومية لهذا السجن الظالم أهله، وكانت الرؤيا التي رأيت فيها مناداتهم على الأستاذ عبد الباقي لإخلاء سبيله، وقصها على إمام المسجد الكبير في مدينة الحسكة، كانت هذه الرؤيا حديث الساعة لأيام تلت، واستوجبت منا الاستغراق في الابتهال والدعاء بأن يمن الله علينا بالفرج جميعاً، وقال بعض المفرطين في التشاؤم والقنوط لعله أمل إبليس في الجنان!

استفحلت الحياة هنا وما عاد الوضع يطاق في اجتماع مصيبتين معاً، التعذيب النفسي والبدني الذي يمارس علينا بأشكاله، وضيوف لعل الحاجة ألجأتها إلينا، الجرذان التي راحت تتكاثر منغصةً علينا آخر فتيل للحياة، بالكاد تصدق أنها جرذان، هي علم الله في حجم ذكر من الأرانب بالغ راشد، وتجرأ البعض فضجوا إلى السجان بالشكوى، وما هي إلا أيام حتى أمرنا بنقل أمتعتنا إلى مهجع صغير، ريثما ينهون تجديد طلاء المهجع رقم "5"، ويسدون المنافذ التي يتوارد علينا منها الجرذان، ولم يكن باستطاعة المكان الجديد أن يستوعب نصف عددنا، كان غاية في الضيق، حتى تمنينا في ساعة ذروة من الازدحام والضيق، العودة لمشاركة الجرذان رحابة المكان الذي خلفناه وراءنا، إذا ما قورن بما نحن فيه، ومع هذا كنا مجبرين على الصبر والاحتساب، فهي من أيام الابتلاء التي تضاف إلى ما قبلها وما سيليها من ذلك الشقاء السرمدي الذي لا يمكن أن يُنسى ما امتدت بنا الأعمار على الإطلاق.

ويطل عصر يوم جديد، وتدب في المكان حركة وتزاحم أرجل، وينادى على الأسماء، في دفعة جديدة إلى مجاهيل تدمر، وكان من بين هذه الأسماء اسم الدكتور يوسف حميدي من أبناء دير الزور، كان دمثاً، سريع البديهة، ليّن الجانب، نحيلاً في غير ضعف، أسمر البشرة، مبتسم المُحَيّا، كان له مع عبد السلام تسقيّة، والأخير من شباب حلب الأقحاح، كان لهما من اللطائف والطرائف ما يذهب عن الأنفس بعض همومها، أذكر حديثاً دار بينهما، قال فيه عبد السلام متهكماً بلهجته الحلبية الأصيلة:

- يا لسواد وجهي منك يا دكتور!

ويسأل الدكتور في استغراب:

- ولم لا قدر الله؟!

ويرد عبد السلام ضاحكاً وهو الصادق:

- أثناء تفتيش ملابسي، لم أتمكن في نهاري هذا من قتل أكثر من خمسة وثمانين قملة!

عندها كنا نضحك ملءَ الفم، وإن كنا نبكي ملءَ القلب على هذا الحال المزري الذي ألنا إليه.

نادوا على يوسف حميدي مجرداً من أي لقب، وهو الذي استعد منذ أيام لحدس جال بخاطره بأنه سيرحل، فقد عمل على تهيئة ملابسه وقص شعره، وحف شاربه، فهذه من الميزات التي تستحق مزيداً من التعذيب والأذى في قوانين السجن والجلاد هناك في سجن تدمر، كان برفقته في هذه الرحلة المحفوفة بكل ما لكلمة الرعب والخوف من معاني، لا من معنىً واحد، طبيبان من ريف إدلب، أحدهما كان يكنى بأبي ياسر، وهو طبيب متخصص، والآخر طبيب أسنان، بالإضافة إلى الأستاذ سامي العمر، قد جاوز يومها الخمسين من عمره، وعدد آخر من أبناء حلب وحماة وإدلب، أذكر منهم عارف الحمود وممدوح درويش رحمهما الله نحسبهما عند الله أحياءً يرزقون، كذلك بعض الأحداث ممن لم تتجاوز سني أعمارهم السادسة عشر، لقد أقاموا لهم حفلة توديع في البهو الممتد بين المهاجع، لم يدخروا فيها وسعاً من ممارسة كل أنواع القهر المجبول بكل أنواع الإجرام والتعسف والخسة.

تم إعادتنا بعد قرابة الأسبوعين إلى مهجعنا السابق، وقد بدا فيه كل شيء جديداً لمّاعاً، يومها وقف مدير السجن أبو نزار - عريض المنكبين ضخم العنق متخماً إلى حد يوشك فيه أن ينفجر- بعدها يتلو علينا تعاليمه التوراتية بصرامة في ضرورة المحافظة على نظافة المهجع، وعدم خدش الجدران بسخافة حفر الأسماء عليها، ونقش عبارات الاستفزاز، ثم هدد وتوعد وما زال كذلك إلى أن أدار لنا ظهره وانصرف.

بعد الانتقال إلى المهجع بأيام قليلة، توافدت علينا وجوه جديدة، أذكر منهم المهندس المعيد في جامعة اللاذقية بشير الحجي، وبطل سوريا في الكاراتيه لسنوات عدة الشاب الدمشقي محمد حنينة، وماهر الطنطاوي ابن الأستاذ عبد الغني الطنطاوي شقيق الشيخ العلامة علي الطنطاوي، وابن خالته الحدث محمد بهاء الدين الخطيب، والذي أعلمني بأنه اعتقل برفقة أخويه، محمد بركات الخطيب، ومحمد بلال الخطيب، والأخيران أعدما فيما بعد في سجن تدمر العسكري عليهما رحمة الله.

بقيت تلاحقني أمنية أن يصفو ما بيني وبين الأستاذ عبد الباقي، واجتهدت لذلك غير أنه لأسباب لا أعلمها تجاهل وانصرف، وفي ظهيرة يوم تَلي نادوا على اسمه في قائمة إخلاء السبيل، فودع الجمع على عجل، ثم التهمته الأيام، فآويت برحيله إلى الأحزان، ولبستني وحشة المكان، فلم أعد أرى إلا ثقل المأساة وفداحة الخطب الجلل.

بغياب الأستاذ عبد الباقي زادت جسارة هيثم رئيس المهجع، وزاد تطاوله على خلق الله من البائسين، كما لو أن وجود الأستاذ عبد الباقي بيننا كان صمّام الأمان الذي بقي هيثم ملجوماً به، فلما مضى الرجل إلى سبيله انفلت هيثم من عقاله كالثور الهائج لا يلوي على شيء.

لعل من الغريب العجيب أن يتم تعييني نائباً له في إدارة المهجع، جاء ذلك على غير توقع، إثر آخر استدعاء لي صبيحة يوم تلا الإفراج عن الأستاذ عبد الباقي، فقد اقتادوني معصوب العينين إلى الأدوار العليا، هناك كان رئيس الفرع مظهر فارس في انتظاري، ما أن دلفت بوابة مكتبه الوثير واستقر بي المقام، حتى أشار عليَّ أحدٌ ما بالجلوس، ونبهني إلى كنبة تقع على مرمى خطوة ورائي، فجلست محاطاً بكل هواجس الخوف والهلع، ثم رنَّ في صمت المكان صوت كأنه فحيح الأفعى:

- يا سيد سليمان أبو الخير، مع كل ما ثبت عليك من اعترافات، إلا أن هذا لا يعني أن ننكر أن في داخلك جانباً من جوانب الوطنية، لا بد من استنهاضه.

لا أدري إن كان يقرأ ما يقول من خلال قرطاس أمامه، أم أنه كان يقول هذا الكلام الموزون عن ظهر قلب، ثم أنهى كل ذلك بقوله:

- لك أهل وأحباب تتوق إلى لقياهم، ونحن لا نريد لك إلا كل خير.

كدت أن أقاطعه لولا وحشة المكان وانقطاع الظهير، لأسأله الاختصار في كلمة واحدة، ما المطلوب؟! لكنني أفقت عليه، وقد رق فحيحه إلى حد الرجاء:

- أقسم لك بأولادي، والذين هم أعز ما أملك في هذه الدنيا، وبالقرآن والإنجيل، بأنني صادق فيما أقول، فسوريا هي البلد الوحيد اليوم، الذي يقف في وجه الصهيونية والإمبريالية والرجعية، وأنت الفلسطيني المثقف الذي يعلم يقيناً كيف تخلى عنكم القاصي والداني، ولم يبقَ لكم إلا حضن سوريا الدافئ، ساعدنا كي نساعدك!

وأنا على ما أنا عليه من هواجس الخوف والهلع، ابتلعت ريقي في صعوبة مَن جرى شوطاً طويلاً، ثم راح يبحث عن شربة ماء، غير أني بدلاً من أن أطلب، رحت أسأل:

- وهل بقي عندي شيء كي أساعدكم؟

وكما لو أنه أمسك بطرف الخيط:

- لا نشك بأنك تعرف الكثير من الشخصيات هنا في سوريا، من أولئك الذين لهم ارتباط بالعطار، أو أولئك الذين كان يلتقيهم في ألمانيا، أنت تعرف الكثير الكثير، لكنك ما زلت تكابر، سوف أعطيك كومة من الأوراق، إذا أردت النجاة لنفسك، فما عليك إلا الاجتهاد في خط كل ما تعرف.

ضغط سيادته على الجرس إعلاناً بانتهاء المقابلة، ودخل الحاجب، فأمره باقتيادي إلى حجرة من حجرات التحقيق، ثم أمره بأن يوفر لي المكتب والورق اللازميْن للكتابة.

عادت لتصطف في نفسي أنواعاً من البؤس التي اعتقدت بأنني خلفتها ورائي في فرع العدوي، شعور تتحكم فيه الأنانية في أعلى المراتب على سلم الأولويات عند هؤلاء الناس، ووجدتني معزولاً في كل أحوالي، بلا دفاع أو سلاح، ولم يكن أمامي إلا أن أسجل أي شيء، أي شيء مهما كان تافهاً، فلعل وعسى، وفي حجرة الإدارة أطل أبو منهل برفقة الأوراق، قدمها لي مصحوبة برقم قياسي على درجات سلم الأنانية إياه:

- اكتب كل الذي تعرفه، ودع كل عيون الأمهات تبكي، على ألا تبكي لأمك عيناً!

تماماً كما قال جدهم الأول: "إذا مت ظَمْئَانَاً فلا نزل القطر"!!

وأنا أجد السير في إثره إلى إحدى غرف التحقيق، استأذنته في جلب علبة التبغ الخاصة بي، فأذن لي، تعمدت دخول المهجع مصحوباً بالأوراق لغاية في نفسي، أرويها لك عزيزي القارئ تباعاً.

ما أن فتحت باب المهجع بنفسي، وما أن دلفت البوابة في يدي كومة الأوراق والقلم، حتى ساد صمت، واشرأبت الأعناق، الكل ينظر إليّ مستغرباً متعجباً، أيقنت بأن الريبة والظنون قد صاحبت الجميع، وكان أكثر المرتابين على وجه التحديد هيثم رئيس المهجع، وهذا ما أردته يقيناً، أردت أن أُدخِل الروع والخوف لهذه النفس الخبيثة ولو إلى حين، ولعلني أفلحت إلى أبعد ما رجوت من هذه الخطوة، التي أردتها محسوبة لله، علني من خلالها أدفع عن الناس مِن أذاه ما استطعت!!

خلاصة القول، في حجرة التحقيق التي تركوني فيها وحيداً، طفقت فيها على تدوين خطاب موجه إلى إدارة السجن متمثلة في رئيس الفرع والذي لعله هو الذي قابلني، متمنياً عليهم في البداية، أن يكونوا قد تكرموا في تدقيق الأقوال التي أدليت بها غصباً آنفاً فيما مضى من الأيام، وأكدت فيه بأن سوريا هي البلد الوحيد الذي ما زال القلعة الشامخة في وجه إسرائيل!

وقلت في نفسي لعلها فرصة أخيرة، أجتهد فيها للنجاة، فدوّنت استعدادي لخدمة هذا البلد المتدثر بكل أسباب الوطنية، غير أن ما يبعث على الأسف هو أنني لا أعرف أحداً داخل هذا القطر المعطاء، يمكنني أن أدوّن اسمه أو أن أدل عليه، وأعلنت بأن بقائي في سوريا لن يفيدهم بشيء، وأن الأمل المرجوَّ هو السماح لي بالعودة لمتابعة دراستي، ثم ذيلت الخطاب بتوقيعي وقمت بتسليمه بعد ذلك.

من أجل هذه القصة التي لم أبح بها لأي كان، اجتهد هيثم وسعه في أن أكون نائباً له في إدارة شؤون المهجع، لا بل رجاني في أن أقبل ذلك!!

أمعن الرجل في إيصال الأذى للناس، وما عاد يقيم وزناً لأحد من أولئك الذين كانوا يشاركوننا شرف الذل والمهانة علي أيدي زبانية البعث في سوريا الثورة، والذي جعل لهيثم وأمثاله سطوة الحَمَلِ الذي علا سطحاً من الأسطح، فلما مرَّ به الذئب راح الحمل يشتمه ويسبه، فرد الذئب قائلاً: "مكانك الذي يشتمني لا أنت"!!

لم يكن أمامي إلا إشغاله عنهم، ومحاولة التأثير عليه ما استطعت، وهالني مع الأيام ذلك الصلف الذي كان مدفوعاً إليه، وذلك التواطؤ الذي شارك فيه في فتح ملف جديد لأحد أبناء حماة البررة، كان شاباً يُدعى أبو صالح جريئاً في نقده لهيثم، وكان يصلي بالناس جماعة، أمرٌ لم يكن ليروق هيثم، ويبوح لي أبو صالح ذات يوم في غياب عين الواشي عنا، بخبر مفاده أن الحقارة وصلت بالمولى رئيس المهجع إلى رفع تقرير إلى أسياده يثبت من خلاله انتساب أبو صالح إلى أحد التنظيمات الإسلامية المحظورة.

في أيام تالية خلوت بهيثم، فانبسطت معه في الحديث، ومما قلته له على غير توقع منه:

- إن بعض هؤلاء الناس سيخرجون إلى الدنيا يوماً، إن لم يخرجوا جميعاً، وأخشى ما أخشاه عليك عملية ثأر وتصفية حسابات، والأيام دوالي، فخذ الحيطة والحذر، وإياك وطول الأمل، فأنت كالمنبت الذي لا أرضاً قطع ولا ظهراً أُبقي و..!!

كان لَمقدم دفعة جديدة وقعها السيئ علينا جميعاً، لا سيما الشاب صلاح من سقطاء مدينة إدلب، من شبيبة كتائب ثورة البعث، قدموا به برفقة خالٍ له، اجتمعت فيه أردأ الصفات، ما كاد ينسى الناس هيثم وقرف هيثم حتى أتاهم صلاح، ولقد ذكر أحد الإخوة ممن لم أجرب عليه الكذب قط بأنه استدرج صلاح يوماً، حتى أقر له بأنه - أي صلاح- في الدعوة الأخيرة التي اقتيد فيها لمقابلة مدير الفرع، طلب إليه هذا الأخير رفع تقرير وافٍ عن سير الحركة في المهجع، وكان لصلاح بعض الأقرباء بيننا، فقام بتدوين كل ما رأى وسمع دون استثناء أي شيء، أو أي أحد من أقربائه، ولعل ذلك كان سبباً في التعجيل بترحيل الكثيرين، لا سيما من أقربائه، ومن الناس الذين لم يكن التحقيق قد أُقفل بتوجيه أي اتهام محدد لهم بتقريره، أُلحقت بهم تهم أوجبت الترحيل إلى تدمر، وكان من لطف الله ألا يطول مكث صلاح بيننا، فقد أُفرج عنه وعن خاله بعد أيام كي يواصل رحلة العمل الصالح في مكان آخر، هم بلا شك حريصون في المحافظة على أمثال هؤلاء من أصحاب الخبرات والثروات الوطنية!!

كان من بين الذين استقبلناهم في تلك الدفعة آنفة الذكر، كل من شاهر شموط وزياد بالإضافة إلى محمد خير دبورة، وجميعهم من منطقة الميدان بدمشق، كانت تجمعني بهم علاقة طيبة، وصارت لنا مع الأيام القليلة التي قضيناها سوياً شيئاً من الذكريات والتي تعدتنا إلى كل من عبد السلام تسقيّة وأحمد سراج الدين.

كانت إدارة السجن تستدعي بين الفينة والأخرى كل من شاهر وزياد، لتعرض عليهما بعض الصور لبعض المطلوبين أو بعض الذين صاروا كما كان يقال عند ربهم أحياء يرزقون، من أبناء منطقة الميدان، ولقد ذكر لي أحدهم بأنهم حين كانوا موقوفين في الطوابق العليا، بالقرب من غرف أفراد السرية العسكرية التي كانت تقوم على حراسة المبنى، هناك كانوا يشاهدون أحياناً، ويستمعون إلى صوت الممثل السوري الناقد دريد لحام يدخل على الزبانية من الضباط دون إذن أو تكليف، فازددت عندها اعتقاداً باننا ابناء سوق عظيمة، هذه بضاعة اغلت قيمتها الامانة، وهناك أخرى اردت قيمتها الخيانة، وشتان بين هذه وتلك، كي نفهم حكمة البارى!

أُخلي سراح أحمد سراج الدين، ثم تلاه بعد أيام إخلاء سراح إمام مسجد الحسكة الكبير بعد أن ثبتت براءته، وسُمح له بمقابلة أخيه قبل إطلاق سراحهما بأيام، فأثلجت هذه الخطوة صدري، وأبكتني في آنٍ واحد، أما الفرح فليس له من معنى إلا الفرج الذي مضى بهم جميعاً إلى الدنيا والحرية والضياء، سائلاً الله لهم جميعاً الثبات، وأما البكاء فلعل أسبابه ما عادت خافية عليك عزيزي القارئ، فأنا باقٍ مع من بقي وما أكثر من بقي!!

كنت أعتقد دوماً أن من أدنى واجبات الدولة أياً كان نظامها أن تحمي مواطنيها، سيما البسطاء من عامة الناس ودهمائها، ناهيك عن الأبرياء منهم، حتى بموجب تلك الأحكام العرفية التي تُسيّر بها البلاد منذ استلام البعث العنصري مقاليد الحكم، في انقلابات وحركات تصحيحية متتالية، لقد كانت الأحكام العرفية أبداً في عرفهم، ضرورة من ضرورات المرحلة، على اعتبار أن البلاد في حالة حرب وتحرير، ويقيني أن التحرير وقيام نار عدن رديفان لمعنىً واحد، لن يكونا بحال من الأحوال على أيدي هؤلاء الأوباش من البشر، ويزداد يقينك في حق هذه الدولة إن جاز لنا القول أن نقول بأننا هنا أمام نمط جديد غريب عجيب من أنماط الدول الكرتونية، فمتى كان الحق لبشر أن يَحتجز مواطنيه لأكثر من ستة أشهر، وأي دستور هذا الذي يخوّل لهؤلاء الإبقاء على الأبرياء هذه المدد المتفاوتة من الارتهان التعسفي دون المحاكمة، أو توجيه أي تهمة محددة، ويزداد عجبك حين تتلفت باحثاً عن منظمات حقوق الإنسان، هل ترى منهم من أحد أو تسمع لهم ركزاً؟

لقد كان من حق كل متهم أن يطالب بالإفراج الفوري أو الانتقال إلى محكمة، أياً كان نوعها شريطة أن تتوافر فيها بعضاً من مقومات المحاكم، ولِمَ كل هذا التعجب؟ وأنا اليوم على وشك الانتهاء من شهري الثامن غريباً عابر سبيل منقطعاً عن أهلي وأصحابي وأحبابي، لم يتركوا لأهلي سبباً من أسباب التواصل معي، ولم يتركوا لغيري فعل ذلك من مواطنيهم، إن هؤلاء تبلدت أحاسيسهم، فما عاد يحرك فيهم بكاء أم على اختفاء ولدها، أو نواح زوجة وأطفالها على ضياع معيلهم، ما عاد اجتماع ذلك كله يحرك فيهم أي نوع من أنواع الأحاسيس أو المشاعر، إن هؤلاء فقدوا مع الأيام أمام تلك المناظر كل المقومات الدنيا من الشفقة والإنسانية على حد سواء.

لقد مضى عيد الأضحى قبل أشهر قليلة، كانت أيامه حافلة بألوان شتى من المآسي، لقد تركونا ليلة العيد نلملم جراحنا النازفة، إثر جولة من زبانية المبغى، لم يبقوا معها على أي منا سليماً معافىً، وكأنهم كانوا ينوون تذكيرنا، بأن اليوم هو يوم عيد، يوم فرح ولبس الجديد! ومع أن اليوم لكثير منهم كان يوم عطلة رسمية، إلا أنه كان لمن بقي في الخدمة، يوم من أيام العقلانية والمنطق العلوي العنصري اللئيم، في الانتقام والأخذ بالثأر، وممن؟ ولأي سبب؟ أي والله على الأقل الانتقام مني أنا!! لأي سبب كي يبطل العجب؟!

وإني لأحدث نفسي بعد انقضاء كل هذا الزمن الذي كان يعبق بالمأساة، فأقول:

- لقد نلت أيها الحالم كل ما تستحق، بمجيئك بحثاً عن المال وموارد الأرزاق، في بلد العسكر، فأضعت الدليل وركبت الصعاب، أما كان الأجدر بك أن تبقى في جامعتك حيث طوق النجاة والمستقبل الذي خلفته هناك. فأرد ردَّ من أعيته الحيلة، وقَصُرت به المكيدة:

- أيها الأبله أما علمت بأنه إذا وقع القدر عميَ البصر؟

ما عاد في الزمن بقية، وألقى هيثم بالخبر، وكأنه آخر سهم في كنانة أحقاده:

- يبدو لي بأن ترحيلك صار قاب قوسين أو أدنى، فاحتط لنفسك!!

وفجأة حل عصر يوم كئيب من أيام يناير، سرت في الدهليز جلبة، وعلا صراخ، دوّى صفير ولفَّ المكان نفير، وجاء دور بوابة المهجع الذي حنَّ على بؤسي أياماً، وليت عصر ذلك اليوم لم يحلل، وليت البوابة ظلت عصية فلم تُفتح.