محمد الحسناوي(1)

محمد صالح حمزة

   أجراها : محمد صالح حمزة   مع     محمد الحسناوي

حاضر النّكتة شديد الاستمتاع بها، إذا ألقاها وإذا سمعها، حباه الله بذهن "استراتيجي" معطاء وربما كانت هذه من عجائبه.. فالأدباء في الغالب أقرب إلى العاطفة ودفقاتها المحدودة بالقصيدة أو القصّة أو الرواية.. وقلّما تمكّنت في نفس الأديب تلك الميزة التي تلزم بالعادة الأكاديميين الذين يتمتّعون بالنّفس الطّويل والنّظرة المتريّثة التـي تتّســم بالتخطيط والتنظير البعيد.. وقد تأتَّى لضيفنا الأديب المفكر الداعية الجمع بين هذه الخصال الطيبة المعطاء.. وباسترساله المحبب حدّثنا حديث قلبه البريء براءة الطّفولة..

بطاقة تعريف

اسم الشّهرة: محمد الحسناوي

الاسم رباعياً: محمد محمود محمد حسناوي

السيرة الذاتية:

ولدتُ في مدينة جسر الشّغور عام 1938، وهي مدينة من أعمال محافظة إدلب، تقع على الطريق بين حلب واللاذقية. تابعت دراستي الثانوية في اللاذقية، والجامعية في دمشق، حيث تخرّجت في كلية الآداب-قسم اللغة العربية بجامعة دمشق-بالإجازة عام 1961م، ومن كلية التربية بدبلوم عامة عام 1962م، وعملتُ مدرساً للّغة العربية في محافظة حلب ومدارسها الثانوية منذ ذلك التاريخ وطوال سبعة عشر عاماً، إلى أن اضطررت إلى مغادرة القطر السوري لملابسات تتعلّق بأوضاع البلاد العامة، وكنتُ قد تخرّجتُ عام 1972 بشهادة الماجستير في الجامعة اللبنانية-كلية الآداب في موضوع "الفاصلة في القرآن".

بدأت حياتي الأدبية بنظم الشعر وصدر لي بعض الدواوين الشّعرية ثمّ انتقلت إلى كتابة القصّة القصيرة ثمّ الرّواية بعد انقطاعي عن الشّعر لفترة عشر سنوات تقريباً /1980-1990/ ثمّ استأنفت كتابة الشّعر بعد توقّفي عن كتابة القصّة، أما الكتابات النقديّة، فكانت في مراحل كتابة الشّعر الخصبة وإن لم أنقطع عنها كلّ الانقطاع في المراحل كلّها.

في مراحل حياتي الأدبية الأولى تابعت الحركة الأدبية المحلية والعربية، وكتبت في المجلاّت الأدبية والإسلامية المعروفة مثل مجلّة (الآداب) و(الأديب) اللبنانيتين، ومجلة (حضارة الإسلام) الدّمشقية، ومجلّة (البعث الإسلامي) الهنديّة.

اشتركتُ في مسابقات أدبية، وفزتُ بجائزة مهرجان عكاظ الجامعي الأول للشعر بالجائزة الثانية عام 1960م، وبالجائزة الأولى عام 1961م.

وكنت وما زلتُ أتطلّع إلى التجديد في الشّكل والمضمون من خلال الإفادة من تراثنا العظيم ومعظيات الآداب الغربية والشرقية ومن ذلك اهتمامي بحركة الشعر الحديث (شعر التفعيلة) ومؤسّسه الأديب الإسلامي المسرحي علي أحمد باكثير. وفي دراستي للفاصلة في القرآن الكريم –وهي كلمة آخر الآي كقافية الشّعر وسجع النّثر- اكتشفت آثاراً مهمة للموسيقى القرآنية على شعر الموشّحات والشعر الحديث –من خلال باكثير- كما اكتشفت مزايا يُمكن أن تُثري الشعر العربي الحديث، كما أثّرت مزايا أُخَر على الشعر العربي القديم.

المؤلّفات المنشورة، في الأدب الإسلامي:

1- في الشّعر:          

ـ ربيع الوحدة-1958م.

ـ عودة الغائب-1972م.

ـ في غيابة الجبّ (شعر حديث)-1968م.

ـ ملحمة النّور-1976م.

2- في القصّة:          

ـ الحلبة والمرآة-مجموعة قصصيّة

ـ بين القصر والقلعة-مجموعة قصصيّة-1988م.

ـ خطوات في الليل-رواية-1994م.

3- في الدراسات الأدبية:

ـ الفاصلة في القرآن-1973م.

ـ في الأدب والأدب الإسلامي-1986م.

ـ في الأدب والحضارة-1985م.

مخطوطات في الأدب الإسلامي

ـ جراح راعفة-مجموعة قصصيّة. 

الإنتاج الذي تعتزّون به أكثر من غيره.. ولماذا؟!

إنّ مؤلفات الإنسان –كما قيل: مثل أولاده، لذلك يصعب تفضيل ولد على آخر، بل لكلّ عمل من أعمالي موقع خاص أو نكهة خاصة –إن صحّ التعبير- في أعماق النّفس، وفي تلافيف المخيلة والشّعور، ولقد تمنّيت يوماً، وما زلت أتمنى أن أكتب سيرة حياة  الأعمال الأدبية والفكرية التي يسّر الله لي إنجازها. فالقصيدة الواحدة وراءها قصة كاملة، وقد وجد القدماء لكل مثل عربي قصة أو حكاية فدوّنوا الأمثال مع قصصها مثل كتاب (مجمع الأمثال للميداني) وحتى هذا الكتاب الذي ليس من تأليفي لي معه أكثر من قصّة، إحداها إن هذا الكتاب التراثي الأصفر أضحى مادة التوجيه الأولى لمجموعة كبيرة من إخواني المغتربين، وفي أشدّ أيام الانحصار والبطالة القسرية، فكنت شيخ تلك الحلقة الواسعة أدرس معهم فقراته محقّقة مفصّلة مع ما يُناسبها من ربط وإسقاط على الماضي والحاضر والمستقبل، وقد توقّفت تلك الحلقة وتلك القصة بتوقف الظروف الشاذة التي أحاطت بنا آنذاك.

من قصص أعمالي الأدبية التي لم يُتح لي تدوينها قصّة نظم قصيدة (دمعة على السّباعي) في أصيل ذلك اليوم الذي توفّي فيه المرحوم الدكتور مصطفى السباعي يوم السبت الثالث من تشرين الأول عام 1964 كنتُ ماراً بمكتبة دار الفتح بدمشق وباب المكتبة نصف مغلق وقت الظّهيرة أو الاستراحة، فدخلتُ وسلّمت على الإخوة الأربعة الجالسين، فناولوني ورقة صغيرة كُتب عليها بخطّ غير متقن وبقلم رصاص: (ننعى إليكم وإلى العالم الإسلامي وفاة العالم المجاهد المرحوم الدكتور مصطفى السّباعي  الذي توفّاه الله تعالى يوم.. ) وبلا اهتمام يُذكر أعدتُ قصاصة الورق إليهم كأني لم أقرأ ما فيها، فتعجّب الحاضرون، ونظروا إليّ نظرات تساؤل واستنكار، بعد لحظات اكتشفتُ أنني كنتُ غارقاً في حلم من أحلامي أو وهم من أوهامي، أن هول الخبر وغرابته لم تتركا لي مجالاً لتصديقه أو الاستجابة لوقعه منذ اللحظات الأولى.

وتتمّة القصة أنني انزويت في غرفة صديقي الأخ نديم الذي يسكن في إحدى غرف مسجد ونظمت قصيدة الوداع، ثمّ أطلعته عليها، وألقيتها أمام الجماهير التي احتشدت في المقبرة تودّع الفقيد مصطفى السّباعي، ولعل البيت الذي تكرر فيها أكثر من مرة هو مركز الإحساس الذي صدرتْ عنه هذه القصيدة:

أنا لا أصدّق، لا أُطيق، ولستُ أسمع رنّة النّاعين في الآذانِ

على كلّ حال هذا جزء يسير من حكاية قصيدة واحدة، فما بالك بحكايات القصائد والقصص والأعمال الأخرى.

إذا كان لابدّ من تفضيل، فربّما كان كتاب (الفاصلة في القرآن) هو العمل الذي أعتزّ به أو أحتسبه عند الله تعالى لما حققتُ فيه من رضى نفسي وميول أدبية نقدية عميقة، ولما أرجوه من خدمة القرآن الكريم دستورنا، وكما وصفته الشاعرة المبدعة نازك الملائكة: (القرآن الكريم روحي).

قد يكون مناسباً في هذا السّياق أن أروي لك طرفاً من ذكرياتي المعبّرة مع هذا الكتاب. حينما وصلتُ إلى قمة التحرير للرسالة الجامعية (الفاصلة في القرآن) وأنا في مدينة حلب مكان إقامتي آنذاك بلغني أن الأديب المفكر الدكتور عماد الدين خليل طريح الفراش في أحد مستشفيات مدينة حلب حينما كان زائراً لها بسبب عملية جراحية أُجريت له على أثر انفجار الزائدة الدوديّة فجأة. بعد زيارته أقنعته بالانتقال إلى منزلي الكائن في حي الأنصاري، حيث أقبل الأصدقاء والأدباء يزورونه ليل نهار وأنا أقوم بواجب الضيافة وواجب تحرير الصفحات المهمة من كتاب (الفاصلة) فتصوّر تشتت الذهن وصعوبة التأليف في غرفة محتشدة بالضيوف الأعزاء وبالأفكار المشرقة والأخبار..

مثل ذلك حين انتقلت إلى بيروت لإطلاع الدكتور المشرف على رسالة الماجستير، لأطلعه على ما تمّ تحريره آنذاك، ومعي أسرتي الصغيرة (زوجة، وولدان)، ولأنتهز الفرص لمتابعة الكتابة مثل الجلوس صيفاً في مقهى من مقاهي الروشة أمامي البحر وعن يميني وعن يساري المصطافون والسابحون وبجانبي الأسرة الصغيرة، فاكتب يا قلم إذا استطعت أن تكتب. وقد كتبتُ، بتوفيق من الله تعالى، ما لا يوصف. كنتُ أشعر أحياناً أنني أنقل نقلاً من صفحات مدوّنة مسبقاً في عقلي، ولهذا أيضاً حديث آخر لا مجال للانجذاب إلى إغراءاته الآن.

العمل الحالي

ألزمني إخواني الذين لا تردّ شفاعتهم بمسؤولية عمل متقدّم في الحياة العامة، وهو يشغلني كثيراً عن ميولي واهتماماتي الأدبية، وكلي أمل أن تحلّ عقدتي التي هي جزء من عقدة شعبي ووطني، لأعود إلى ممارسة ما هو أقرب إلى نفسي وطاقتي، والله تعالى هو المستعان وخير مأمول في العسر واليسر.

نبذة عن مجالات العمل السابقة

بعد حياة الطّلب والدراسة تزوّجت وعملتُ مدرّساً لمادة اللغة العربية في محافظة حلب طوال سبعة عشر عاماً إلى أن اضطررت لمغادرة وطني مضطراً. وخلال أيام التلمذة والعمل في التدريس لم أنقطع عن المطالعة والكتابة في الشعر والقصة والنقد الأدبي. ومن أعمالي المتميّزة بالإضافة إلى ذلك عملي عضواً في الصحف الجامعية المُخصّصة ضمن صحف دمشق أيام الدراسة الجامعية، كذلك عملي مديراً للتحرير في مجلّة (حضارة الإسلام) عام 1961م بخدمة صاحبها ومؤسسها قائدنا الدكتور مصطفى السباعي رحمه الله تعالى رحمة واسعة وجزاه عنا وعن الإسلام والمسلمين خير الجزاء.

ومن الأعمال التي هويتُها ولم أستمر فيها (الرسم) فقد حققت عدداً من اللوحات بالألوان الزيتية والمائية واشتركت في بعض المعارض الجامعية وأهديت تلك اللوحات لأصدقائي. على أن إحدى اللوحات (المجرمون) أدخلتني غرف التحقيق المظلمة وتركت أثراً في شعري، عبّرتُ عنه في قصيدة (لوحة). وبذلك نعود للحديث عن الإنتاج الذي أعتزّ به ولا ضرورة للتفصيل.

وللتاريخ أذكر نوعين من العمل عُرضا عليّ، ولم أستجب لإغرائهما، أحدهما رئيس تحرير جريدة يومية في إحدى دول الخليج العربي، والثاني –وهو أشدّ إغراء من كلّ عمل آخر- ألا وهو رئاسة تحرير مجلة (رابطة الأدب الإسلامي). أما لماذا لم أستجب للإغراء فقصة لا حاجة لبسطها الآن.

آمال عزمتم على تحقيقها: ماذا تحقق منها، وما الذي لم يتحقّق بعد..؟

الإنسان يحلم ويتمنّى كثيراً، أما ما يُحققه فشيء يسير جداً مما سبق له أن تمنّاه أو حقّقه. على سبيل المثال سجّلت موضوعاً لرسالة الدكتوراه (السورة في القرآن) أعرض فيه لأسماء السور ووحدتها الفنية وألوانها في العرض والأداء وشخصية كلّ منها كما يذكر أستاذنا سيد قطب رحمة الله عليه، وقد قطعت شوطاً كبيراً في التّحضير لتلك الرسالة وشرعتُ بتحرير بعض الفصول لكنّ الأحداث عصفت بي وبأهلي وببلدي، وعصفت بهذا المشروع الحلم.

مما رغبتُ بتحقيقه كذلك تأليف مسرحية شعرية عن علم من أعلام الفقه والجهاد ابن تيميه رحمه الله تعالى. فقطعتُ خطوات في ذلك السّبيل، ثمّ وضعته على الرّف.

أكثر من ذلك اشتركتُ مع عدد من الإخوة الأدباء في وضع مشاريع أدبية ضخمة خطونا بها خطوات ثمّ توقفنا عن متابعتها لأسباب يطول شرحها مثل (الحرب الصليبية في آداب اللغة العربية وعلومها) ومثل دراسات جامعة ومطوّلة عن الأديب الكبير علي أحمد باكثير: (شاعراً-أديباً-مسرحيّاً-ناقداً...).

أما ما تحقّق من الآمال فقد نشر معظمه وبعضه جاهز للنّشر.

الساحة الأدبية تعجّ بأدعياء الأدب، ورافعي راية الحداثة. كيف تنظرون إلى هذا الواقع.. وماذا تقولون لهؤلاء؟

من التبسيط الخطير أن نتصوّر المشكلات دائماً بلونين متناقضين: أسود وأبيض. أصالة وحداثة، فعلى الرّغم من تشبّع الأدب بالسياسة والتداخل بينهما، فإنّ التخوم والتصنيفات في الأدب ليست سهلة وليست دقيقة. الأدعياء موجودون للأسف في كلّ الخنادق والمدارس الأدبية، وقد قيل: عدوّ عاقل خيرٌ من صديق جاهل. الذي أستطيع قوله بإيجاز مخلّ: هو أن الحكم الفصل في كثير من الأمور هو العمل، هو الإنتاج، وليس الاتهام أو إطلاق السهام اللفظية وصواريخ الكلام. البقاء للأفضل. الأفضل من حيث المضمون. الأفضل من حيث الشكل، والأفضل من حيث التوفيق أو التآخي أو التماهي بين الشّكل أو المضمون، بين الأصالة والمعاصرة. وإضافة يسيرة: هي أن حركة التاريخ في منطقتنا وفي العالم تعطي مؤشّرات لمن أراد أن يفهم ويستبصر ويختار، وحركة التاريخ قدر من أقدار الله تعالى "ولا غَالِبَ إلاّ الله" فليفهم من أراد أن يفهم، ولينتحر من أراد الانتحار. إنّ اللبيب من الإشارة يفهم، فكيف الرواد وأصحاب الرؤى؟!!.

أعداء الإسلام يتّهمون الإسلاميين باحتكار الحقيقة.. وبالتالي نفي الآخر.. كيف تردّون على هذه الفرية، وما هو حكم الإسلام تجاه الرّأي الآخر؟!

إذا تجاوزنا العناد والعصبيات الجديدة ندعو الآخرين إلى دراسة الإسلام دراسة موضوعية بلا أحكام مسبقة كما يدرسون الماركسية والليبرالية، وكما يقول بحق الأستاذ منير شفيق، وتجربة هذا الرجل الفذ بحدّ ذاته شهادة من شهادات العصر على بطلان تلك الدّعاوي.

ومفتاح دراسة الإسلام الحق في أصوله المعتمدة (القرآن والسنّة) أن يبدأ المنصفون بمطالعة الدراسات الحديثة الجادة مثل مؤلفات الأستاذ راشد الغنوشي ويوسف القرضاوي وأمثالهما..

ومما لا يخفى على أحد أن الإسلام اليوم هو المنفي، وهو المحارب المضطهد في أرضه فضلاً عن أراضي الآخرين، فكيف يجوز اتهام الأسير أو المعتقل بجرائم غيره التي يئنّ منها، ويتطلّع إلى رفعها عن كاهله وكاهل البشرية جمعاء، أما الدعوة إلى قراءة التاريخ ومراجعة الذات والماضي، فدعوة مفتوحة لا تحتاج إلى تذكير.

قال تعالى: ( ادْعُ إِلَى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَالْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ ). وقال عزّ من قائل: ( وَجَادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ) وقال أيضاً: ( وَلا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ. إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ. كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْؤُولاً ).

الأمة العربية والإسلامية تمرّ بمرحلة غاية في الدّقة والخطورة.. كيف تنظرون إلى ذلك. وما هو في رأيكم الدّاء وما هو الدّواء؟

إنّ الجواب على هذا السؤال سهل وصعب بآن واحد. سهل لأنّه سبق أن طرح وما يُطرح، وأجاب عليه الكثيرون. وهو صعب في الوقت نفسه لأنه خطير يحتاج إلى توثيق المعلومات والحقائق التي تتضمّنها الإجابة للسائل المعاند أو المشوّش. مما يُساعدني على ذلك كلمات مسدّدة للمفكر الجزائري مالك بن نبي رحمه الله حين قال: العقبات هي علامة على النّهوض في المجتمع العربي. ويضرب مثلاً على ذلك بالرجل الذي يصعد جبلاً فيُلاقي المشقّات أو الرّجل الذي ينحدر إلى وادٍ فيجد سهولة أو يتدحرج دحرجة- ذلك كلام بسيط واضح لمفكر عميق عانى مشكلاتنا بعمق وكتب فيها سلسلة من الدّراسات الجادّة تحت عنوان (مشكلات الحضارة) بدءاً من كتابه (الظاهرة القرآنية) وانتهاء بروايته (شاهد العصر).

ماذا يجول في الخاطر وتودّون أن تقولوه للقارئ؟

ما أودّ قوله للقارئ قلتُه في مؤلفاتي. أما ما يجول في الخاطر في اللحظة، فهو شعوري بأنّ الخير في هذه الأمّة لم ينضب، وأن شعاع الأمل يومض لكل ذي عينين، ففي أشد بقاع الأرض ظلماً وإظلاماً في الأرض المحتلّة تنبض العروق وتتحدّى القمع والطّغيان والتهويد ما في ذلك شك:

أرنو إليكَ، وأنتَ النّبض والأملُ    يا جندلاً في يمين الطّفل يشتعلُ
أرنو إليك، ولا عيبٌ ولا عجبٌ    أن يبدأ الشّوط في مضمارنا حجلُ

أفراد الأسرة. وهل يحمل أحد منهم اهتماماتكم نفسها، وطريقة تفكيركم، ومنظاركم إلى الحياة بشكل عام!

زوجتي الأولى التي عاشت معي  معظم أيام الكدح والمواجهة توفيت منذ سنوات رحمها الله تعالى، ووسدتها بيدي تراب الغربة، وخلّفت لي ابنة تزوجت وأنجبت، وشابين تخرج أحدهما في هندسة السيطرة والنّظم، والثاني تخرّج في كليّة أصول الدين. الأوّل منهما محمود برغم تخصصه العلمي يتمتّع بروح شعرية، ولديه محاولات قصصيّة واعدة، أما الثاني يمان فقد ظهرت لديه بواكير موهبة في الخطابة. الزوجة الثانية مجازة في الأدب العربي ولديها إمكانات أدبية قصصيّة يُمكن أن تُعطي شيئاً في المستقبل. رزقت منها بابنتين (مزنة وهبة) وبصبيين (أحمد وأمجد). البارحة مساءً أرغمتني مزنة على سماع محاولاتها القصصية الأولى (وهي طالبة في المرحلة الابتدائية) فإذا هي محاولة أكبر من عمرها العقلي، وتعِد بمستقبل أدعو الله تعالى أن يكون زاهراً.

أما عن طريقة التفكير والمنظار إلى الحياة بشكل عام لديّ ولدى أفراد أسرتي، ففضل الله تعالى عليّ كبير، ولقد دأبتُ على التّحدّث بنعمة الله في هذا الشّأن، لأنّني امرؤ ضعيف الحيلة، قليل التّدبير، جاهل أو متجاهل بإصرار في شؤون العيش والاجتماع، خلقت ميالاً إلى القراءة والكتابة والاعتزال، ولولا الواجب الشرعي لكنتُ رهين محبس أو محبسين في رأس جبل الزاوية. على كلّ حال منّ الله تعالى عليّ بزوجتين صالحتين ولا أزكيهما على الله، كلّ منهما رُزقتها بغير كدح أو تنقيب طويل، وكلّ منهما رُزقت حظّاً جيّداً من التقوى والوعي وحسن التربية والتدبير ما يكفيني عناء البيت والأولاد والصّلات الاجتماعية والعامة. من أفضال الزوجة الأولى مثلاً تمتينها لصلتي بوالديّ رحمهما الله تعالى وببقيّة الأقرباء الذي يتوارثون خلافات أسريّة تافهة. ما انفكّت تصرخ في أذني: يا أبا محمود. أمّك. أبوك. أمّك. أبوك. فكسبت رضاهما ونعِمت بسلام أسري ما كنتُ أطمح إلى بعضه. أما الثانية فقد حملت لي معها همّ العمل العام الذي أحمل مثله قبل أن تفِد إليّ وهو همّ يحلو بمقدار ما يحمل من مرارات، فتصوّر فضل الله عليّ في الزّواج.

أما طريقة الأولاد في التفكير والنّظر فأمر أعجب. الفضل فيه أوّلاً لله عزّ وجلّ الذي فطر والدي على طريقة حرّة في التربية –إن صحّ التّعبير- مضافاً إليها التربية بالقدوة، لا لأنّه –رحمه الله تعالى- كان يقصد تربيتنا بالقدوة، بل لأنّه كان رجلاً صالحاً فاضلاً بنفسه، ولا أزكّيه على الله، لا يتدخّل في تربيتنا، لا يقسرنا على شيء، وهو في الوقت نفسه يُحبّبنا بالخير والاستقامة والتّقوى بسلوكه العفويّ. الأمر نفسه انتقل معي إلى أولادي وطريقة معاملتي لهم، وكلّي أمل أن يكونوا أفضل منّي.