حوار مع شاعر الألغام و السيّارات المفخّخة : د. مازن المعموري

جمال قصودة

clip_image001_dec55.png

  

“أيها الشعراء الرائعون سلاماً : انتم تبتكرون طرقاً جديدة لحضور الشعر في الحياة ، هذه بداية منعطف جديد في الشعرية العراقية ، أحييكم من بعيد وأشعر أني كنت معكم وقرأت معكم ، يا لجمالكم القاسي ، محبة واحتراما”.

-الشاعر خزعل الماجدي-

 

clip_image002_bbc4f.png

جمال قصودة

 

للشّعر نشوة/خمرة  قاتلة ، لكنّ القتل جريمة و خطيئة لم يرتكبها الشّعراء بل كانوا من ضحاياها على مرّ العصور عاشوا النّفي و الابعاد و التهجير و السجن و القتل و التنكيل  ،هذه الحالات الموجعة هي سمة من  السّمات التي طبعت حيوات الشعّراء في القرن العشرين بالعراق الجريح  أرض الشعراء.

المأساة الكبرى ان لا يتحسّن الحال في بداية القرن الواحد و العشرين بل تنضاف الى ما سبق

حالات اخرى أكثر وجعا و أشدّ قتامة جرّاء الاحتلال و الارهاب و الطائفيّة و ما ترتّب عنهم من تفجيرات و سيّارات مفخخة و الغام و موتى .

لئن عاش الشّعراء الحالات الاولى بفردانيّة الشّاعر/الانسان  لأن ما سلّط عليهم كان مخصوصا بهم لانتماءاتهم و لأفكارهم و نصوصهم أيضا فانهم قد عاشوا الحالات الثانية ملتصقين بهموم شعبهم الذّي صبّت على رأسه قنابل الفسفور فتنفّسوا معه الاشعاعات و تلاحموا مع اشلاء اخوتهم و احبّتهم ،

و أمام هذه القتامة الموجعة كان للشّعر ان يصير فوهة بندقيّة في وجه كلّ هذا فالشّعر

و الشعراء كما العنقاء تولد من رمادها ،لانها ترفض الموت و تقارعه و تتحدّاه :

موقع أنتلجنسيا للثقافة و الفكر الحرّ يسلّط الضوء على تجربة طريفة و مبتكرة لم يسبق لأحد ان فكّر فيها او نفّذها ، من العراق يأتي الجديد دائما في تجديد الشعّر و بثّ الروح فيه  من جهة المضامين و البنى و يأتي الخلق و الابتكار في مسرحة و خلق المنابر الجديدة للشّعر التي من شأنها ان  تكون أكثر التصاقا بهموم الشعوب – على سرياليتها – و من شأنها ايضا  ان تلفت الانتباه و تحدث الصدمة المشتهاة ،فكم نحتاج لرجّة تحرّك ما مات فينا .

لئن خرج المتنبّي- في صباه -من  الكوفة الى احدى البوادي ليعيش تجربة “التبدّي ” و يتعلم أصول اللغة العربيّة فان ثلّة من الشعراء العراقيين خرجوا ايضا من الحاضرة باتجاه الصحراء

و الى الخراب قريبا من حقول الالغام في رحلة ” الاحتفاء بالحياة و تحدّي الموت”

هي رحلة لتعلّم ” لغة الحياة” و لنشرها توسّدوا الخراب و الصخر و عفّروا رؤسهم بالطين اللّزج – مصدر الحياة و نطفتها الاولى –و قرؤوا الشّعر بحقول الالغام و داخل السيّارات التي تم تفخيخا و تفجيرها ، من هؤلاء ضيفنا الشاعر /الدكتور مازن المعموري الذي يقول عن التجربة :” إنه عندما يكون الشعر مجرد لغة مستعادة بسبب هيمنة الإرث الشعري العربي الكبير على ذائقة الكتابة التقليدية، يصبح لزاماً أن نختلف في الرؤية الفلسفية والأسلوب وتدمير النمط، وما يحدث على أرض الواقع العراقي منذ عام 1980 وحتى الآن، لا يمكن تجاهله تماماً، وبالتالي فإن الكتابة يجب أن تكون على حافة النار والموت، وبالآلية ذاتها في التناغم مع المغامرة والإحساس بالفجيعة الكبرى التي تنال حصتها كاملاً من الشعب العراقي. ويضيف المعموري: من هنا كانت الرغبة في استكشاف المغيب من الواقع والعمل على متابعة نقاط الدمار بدءاً بلحظة الموت الوجودي للمجتمع، التي قدمناها في فعالية المقابر ومروراً بالمفخخات، والآن حقول الألغام التي تعد أحد أخطر المشاكل التي تعاني منها البيئة العراقية، خاصة منطقة الوسط والجنوب المليئة بالألغام، حسب دراسات عالمية متخصصة تكشف أن ربع ألغام العالم في العراق حصراً، ولك أن تتخيل مدى المساحات الشاسعة في المناطق الحدودية. أما الحلة فإنك تندهش لكثرة الألغام فيها لأن الأعداء تحيطها من كل جانب، جرف الصخر ما زالت حتى الآن منطقة حرب وألغام. أما جنوب الحلة فلا تعجب حين أقول لك إن هناك قنابل عنقودية ما زالت ساكنة على رؤوس النخيل في منطقة الكفل، وهذا الكلام ليس مبالغة أبداً.”([1])

-1-الشّاعر/ التّشكيلي / الدكتور مازن المعموري ،كيف يقدّم نفسه للقرّاء؟

clip_image003_741ab.jpgأقدم نفسي شاعرا يرى محيطة وبيئته, ويحاول أن يقول شيئا عن الأشياء التي تغطيها أفكارنا القديمة , لقد أكتشفت إننا لم نتعامل مع الواقع طيلة قرون , فعندما تلقي نظرة على تاريخ الشعر العربي وخاصة مرحلة الحداثة التجريبية منذ نهاية الستينات من القرن الماضي وحتى الان , فإنك تفاجأ بأن أغلب نتاج تلك المرحلة كان حجبا للحقيقة مقابل بهرجة مظاهر الايديلوجيا كالقومية واليسارية والدينية على حد سواء, فالانظمة القومية حولت فلسطين الى يوتوبيا وهمية, واليسار تحول الى عقيدة دينية كما لو أنه رقعة ناشزة في ثوب شرقي مهلهل , والدين حول الانسان الى آلة للكراهية والقتل ونفي الاخر, كل هذا جعل من فنون الشعر والقصة والمسرح والسينما مجرد إكسسوارات لتجميل وجهنا القبيح .

-2-يقول  بابلو بيكاسو:” بعض الرسّامين يحوّلون الشّمس الى بقعة صفراء. و البعض الآخر يحوّلون البقعة الصفراء الى شمس” ، الدكتور مازن المعموري  هل نجح في أن يكون من “البعض الآخر” ؟

clip_image004_2e9a6.jpgإنه جوهر الفن وحكمته المتعالية …  شخصيا أتمنى أن أسمع هذا الكلام من شخص آخر غيري, لأشعر أنني فعلت شيئا يستحق الإحترام, اذ لا أريد أن أبدو نرجسيا أمام الآخرين , لكنني مع نفسي أشعر أنني أستطيع أن أغزل عيون الشمس وأذريها على الحقول والبحار , إن الروح الشعرية التي بداخلي تكاد تقتلني أحيانا فلا أجرؤ على التفوه بكلمة , لذلك فمقولة بيكاسو تنسجم مع روح بيكاسو التعبيرية,  الا انها لا تناسبني تماما فلست مع تحويل المجازات الى حقائق يقينية ويوتوبيات, لكنني أحاول إنارة الظلمة في بئر, ولا أدعي هنا الحكمة , غير أنني ضد إيهام المتلقي وتفريغ الفن من رسالته الإنسانية, الفن لدى بيكاسو لعبة معلم حاذق, أما بالنسبة لي فهو خيار وجودي حتمي, لا يمكن الفرار منه, لا بد لي من مواجهة مخاوفي في كل مرة أمسك شيئا وأكتشف نصا شعريا جديدا .

لا أريد أن يكون الفن بديلا عن الحياة كما يريد بيكاسو , لان الحياة تستحق أن تعاش بكل ما فيها من فواجع وسعادات , ولك أن ترى كيف إن نصوصنا الشعرية غيرت مجال الرؤية تجاه الحدث وليس الحدث نفسه . وفي مجال الرسم حاولت التعامل مع تجربتي الشخصية في الحب كفكرة مجردة وممارسة حسية تقودني للبوح الشعري رسما , حيث السرير والنافذة وحميمية الإحتضان قادت العمل الفني الى ترشيح العناصر الفنية لتنسجم مع تدفق تعبيري ينفلت احيانا من منطق العقل الى منطق الفن ذاته, وهكذا لن يكون لي سوى العمل باستمرار دون توقف لترسيم قصيدتي بلغة الالوان لا الالفاظ , ومنها الى تواشج الشعري بالتشكيلي بدءا بمجموعتي الاولى (كتاب الموتى) التي كانت بمثابة كسر إجناسي متقدم في الشعرية العراقية , وكنت قد عرفت الشعر بانه معرفة في بيان نشر في حينه وقدمت به الكتاب .

-3- مازن المعموري الشّاعر ،نراه يحمل معاولا للهدم من أجل البناء ،نراه يحدث رجّة و قطيعة ابستمولوجية مع كل اليقينيات و المسلّمات هل تأثّرتم بـــــ ” شاعرية أحلام اليقظة” لغاستون بشلار ؟ الا تكون بهذا الفعل عرضة للتهديد خاصة في  مجتمعات مستكينة و غارقة في بحار اليقينيات ؟

clip_image005_904de.jpgلن أبالغ إن قلت أن باشلار فتح امامي عالما شعريا لا يمكن نسيانه , لقد علمنا كيف نتعامل مع الاشياء والذكريات والاماكن ودورها في تحفيز المخيال الذاتي , لقد اكتشفنا مع باشلار كيف ان كل اساطيرنا صنعها شاعر مهووس بالاحلام والغوايات واللغة, علمنا باشلار كيف نقرأ أنفسنا في محيط مليء بالحيوات بدءا من أصغر كائن الى اكبر فكرة حول الكون والوجود مع تحول كل ذلك الى صورة شعرية منتقاة محبوكة بحرفية صانع ماهر وبساطة طفل يكتشف مكانه لاول مرة .

ما اريد قوله هنا , هو اننا بحاجة ماسة لمن يوقفنا في المكان الصحيح كي نراجع كل معارفنا , ويقينياتنا التي أصبحت عبئاً على البشر , ما زلنا حتى الان محكومين بنصوص تفسر لنا العالم بمنظور صحراوي عشائري تقليدي بل يتجاوز حتى التقليدي الى البدائي المتخلف, فكل دساتير المجتمعات العربية لم تحدد موقفها من المختلف والغريب حتى الان , لا نملك موقفا ثقافيا ( وانا هنا افرق جيدا بين الحضاري والثقافي لاننا بصراحة نحمل ثقافة ولا نحمل حضارة ) معاصرا تجاه المرأة والحيوان والنبات والماء والهواء , كما لا نملك تمثلات لهذه الاشياء التي ذكرتها مثل ( جمعيات حقوق الانسان , والحيوان , الحفاظ على البيئة , وغيرها ) بمعنى إننا لا نملك أي موقف تجاه محيطنا بدءا بالعائلة التي يعاني فيها الضعيف من التهميش والاهانة سواء كان طفلا او امرأة او مريضا او شيخا , الى علاقتنا بوسائل العمل واخلاقيات الشارع والمقهى وكل الاشياء الاخرى, وهذا بالضرورة يؤكد غياب الوعي النقدي, اذ لا ناقد يستطيع ان يوضح الاشياء والمفاهيم والممارسات والسلطات والافكار, كل ذلك يقع اليوم على عاتق الشاعر لان مجتمعاتنا ما زالت ملتصقة بشفاهية الشعري اكثر من صرامة العقل الجدلي , فنحن شعوب بسيطة حد اللعنة , لذلك أشعر بحاجتي الماسة بشكل مستمر للنقد والافصاح بقوة لدرجة الصراخ أحيانا .

لا غرابة بعد ذلك ان نواجه الكثير من الصدامات مع الاخرين , حيث بدأت معاول التشويه والإساءة بكل تفاصيلها تتشعب لإيقاف حضوري الثقافي , فقد طردت من إتحاد الادباء مع مجموعة من الشعراء الشباب عام 2014 وما زلنا نعمل على تحقيق تقدم رائع بشهادة الجميع رغم الحرب الشعواء التي نواجهها ممن يسمون أدباء المؤسسات البليدة والغارقة بوحل الروتين والتبعية الحزبية .

-4- لديكم جرأة نثّمنها في طرح ما لا يطرح ، في علاج ما وجب أن يعالج ، مازن المعموري من القلّة الباقية التي  تحاول أن تنقّي ثوبها من دنس الطائفيّة ، هل يقبل من الشّاعر أن يكون طائفيًا ؟

clip_image006_17118.jpgكل شعرائنا الكبار منذ البداية, كانوا منتمين حزبياً أو ذوي ميول سياسية معينة, لذلك وجدت إنهم فشلوا في قول الحقيقة لنا, لقد أوهمونا إن الشاعر يجب أن ينتمي لقضية قومية أو يسارية أو دينية كي يكون شاعرا ذا موقف انساني محترم, وهو ما حرمنا من إنجاز نص شعري أو أدبي عالمي , بمعنى امتلاكه لخصائص إبداعية متفق عليها بشكل جمعي, لكن الحقيقة هي إن الشاعر لا بد له من رؤية الواقع كما هو لا كما يراه الآخرون , وعليه ,أحاول أن أتحدث بصراحة عن ظاهرة ثقافية في المجتمع العراقي والعربي هي الطائفية , تلك التي أدت الى حرب شعواء وقد ذقنا ثمرتها وما زلنا نتذوقها يوميا , والشاعر هنا للاسف يعيد إنتاج الماضي بنفس الطريقة وهي الإنتماء الى جهة معينة فيخسر مصداقيته كاملة , أن تكون طائفيا يعني إنك تحمل ثقافة كما هو حالة أي أديب أو روائي أفريقي أو زنجي أميركي, لكن المصيبة العربية تكمن في انه منتم الى جهة سياسية ويدعم القتلة وليس الثقافة أو المكونات الثقافية المؤسسة لرؤيته ورؤية مجتمعه, أن تكون طائفيا هو أن تفسر العالم من وجهة نظر فكرية لا أن تنتمي لطائفة سياسية خاضعة لمصالح كبرى أو إقليمية تهشم المجتمع وتاكل أبنائه , وبالنسبة لي فانا لست طائفيا بقدر ما أريد أن أعمل كأنثربولوجي يفسر ثقافته ويفككها, أنا أرفض الشاعر الذي لا يعرف ماذا يكتب ولا يعرف ماذا يريد .

في ظل هذه الأزمة الوجودية الكبرى , وهي أزمة إبادة مجانية , كنت أفكر بطريقة جديدة للتعبير عن الأحداث , فخرجت بفكرة الفديو الشعري الاول الذي لخّص محنة القتل الجماعي للجنود العراقيين في تكريت, وكان بمثابة صدمة للجميع , وأعتقد إنني لأول مرة شعرت بقوة الشعر وقدرته على إثارة الناس والمجتمع بشكل إستثنائي .

-5- مجازا تقول زوجتكم باحدى نصوصكم:”  إنكَ رجلٌ ملونٌ .. وسوفَ أغسلكَ ذاتَ يوم

هل تراها تنجح في هذا، فتغيّب بذلك ربيعكم الاتي ؟

صدقني .. هذا النص من النصوص القريبة الى قلبي بسبب صدقه وصراحته, اذ بمجرد ان تنتبه الى تصرفاتك اليومية ستجد اننا ابناء ثقافة ( طائفية) عميقة ومؤثرة في كل شيء , لدرجة إن كل سلوكياتنا سرعان ما تكشف عن مرجعياتنا الطائفية والدينية والفكرية , وهكذا تتحدث العلامات التي نضعها في كل مكان, والبيت هو العالم الاهم لمكوناتنا الثقافية , كل واحد منا يضع علامته ويقول ( ها انذا ) ويبدأ الصراع , والمشكلة الاكبر حين تكتشف إن مجتمعنا يعيش في ظل أحادية لونية غريبة لا مكان فيها للالوان والتنوع , وخير دليل هو إبادة التنوع الثقافي والأثني في العراق ومحاولة اختزال المجتمع العراقي الى فئتين هما ( الشيعة والسنة ) وهذا خطأ كبير دفعنا ثمنا جسيما لاجله, والحقيقة هي ان حرب الاختزال التي نعيشها ستعمل على غسل الالوان وتوشيح العالم بالسواد آجلا أم عاجلا . لاننا ببساطة غير قادرين على الصمود امام العرف الاجتماعي , المشكلة ليست في الاخرين,  بل في فهمنا للحياة الاجتماعية والسياسية , ففي البيت غالبا ما يكون الرجل دكتاتورا وفي الشارع غالبا ما يكون الرجل مدحورا وراضخا للقانون او العرف الاجتماعي, لذلك فنحن نعيش أزمة الازدواجية في كل الاحوال دون أن تأخذ الالوان مجالا حقيقيا للظهور الا في مجازات الشعر والاحلام .

-5- ورّطنا محمود درويش في مقولته الرجراجة :” كنْ عراقيّا،لتكون شاعرًا ” و لانك شاعرٌ

و عراقيّ، هل من وصفة سحريّة للعمل  بمقولة درويش ؟

الشاعر الكبير محمود درويش يعلم جيدا ان ارض العراق ليست أرضا للشعر, بل أرضا للمآسي, وعليه فمن الطبيعي جدا ظهور الشعر كرد فعل للقهر والاستبداد , ولك أن ترى ما قدمته كل من سوريا وفلسطين ولبنان من شعراء أفذاذ, إن الأماكن المدحورة والمستباحة تقدم لك نصوصا شعرية في الطريق والبيت والعمل بدون ثمن, الشاعر في العراق مدلل جدا, لا يحتاج سوى قلم وورقة ليلتقط ما يشاء من الشعر المنثور في الشوارع والمقاهي والأسواق, إننا لا نحتاج هنا غير أن ننظر بعمق .

مقولة درويش فيها الكثير من الإحتيال على الحقيقة , لان الشعر لا يأتي الا في ظل الحرية , وما حصل معنا بعد 2003 هو إننا عشنا الحرية الأميركية بكل تفاصيلها, تصور إننا نقرأ الشعر على أجنحة طائرة حربية , وما من أحد منعنا, بل سهل لنا الموضوع بعض الأصدقاء الرائعين, في الوقت الذي لا يمكن لأحد أن يحلم بهذا المشهد في أي مكان في العالم الا بعد موافقات أمنية معقدة, وكذلك مفاعل تموز وسيارات الإسعاف وغيرها .

أنت تعلم إن التجديد والتجريب وجنونات الشعر والفن بشكل عام لا يمكن لها أن ترى النور الا في مجتمعات تحترم الحرية والابداع , ولا أخفيك فان الواقع العراقي لا يشجع تماما على الابداع الشعري , ولكن هذا ما يحدث في كل مرة يولد فيها مبدع أو فنان أو عبقري , ولا أملك أي تفسير للموضوع

-6- كيف للُغْمٍ شعريّ أن يتفجّر بحقل الألغام فيشكّل الأرض من جديد  و يبثّ فيها الحياة ؟

clip_image007_9963a.jpgكانت فكرة الألغام في غاية الخطورة , فعندما تم الاتفاق على الذهاب الى حقل الألغام غمرتنا الدهشة وفرحة من وجد كنزا , الا إن الاداء الذي قمت به كان عفويا جدا, لإنني فكرت كما لو إنني داخل سيارة تحترق الان, والسؤال هو ماذا أفعل في مثل هذا الموقف؟ لا يمكن أن أكون أنيقا أو بملابس رسمية في مثل هذا الموقف , فنزعت ملابسي فورا ودون تردد وقفزت نحو السيارة ومن داخلها بدأ الغضب يشتعل حتى لم تعد الكلمات سوى صراخ متواصل , فكان مشهدا مثيرا ومدهشا بالنسبة لمن تعود على رؤية الشاعر بكامل أناقته الكلاسيكية  .

أستطيع ان ازعم ان الشعر لاول مرة يستطيع أن يقول كلمة عالية ومشرفة في ظل فوضى عارمة, وفي أرض مليئة بالالغام, منسية ومحاطة ببعض البنايات القديمة والمهدمة وجدنا أشياء لا يمكن ان نتصورها لو اننا بقينا في بيوتنا نكتب او نقرأ, لقد استطعنا ان نستنطق الاماكن ونكسر التابوات والمحرمات بالشعر , فاصبحت الارض العاقر لاول مرة يانعة بالشعر المعاني والدروس وعلامة من علامات الثقافة المعاصرة .

-7- حدّثنا عن تجربتكم مع  ” ميليشيا الثقافة ” و عن فعلها” الميليشاويّ”؟

clip_image008_6cfde.jpgلقد بدأت تجربة ميليشيا الثقافة كصدمة مثيرة للرفض والتهكم منذ البدء, غير ان نجاح حركتنا وضع الجميع امام احراج كبير , لاننا دخلنا من حيث لا يتوقع أحد, فالثقافة العراقية كنموذج للثقافة العربية عانت من قمع الدكتاتورية لفترة طويلة , كما ساهمت الحرب بتدمير صورة الشاعر والاديب, وتحول بنظر الناس الى مجرد شخص مداح لا يساوي شيئا, هذه الصورة وأشياء كثيرة وضعتنا أمام تساؤل عن فرصة تحول إجرائي لابد منه, وهو التخلص من أعباء الماضي والإستفادة من أخطائه, وبهذا نكون في مجال الفعل والقوة لتحريك التراكم التقليدي للادب العراقي, فكان التجريب هو الحل, لخوض غمار التجربة الجديدة في ضوء حوارات ونقاشات مستمرة للقيام بجولة شعرية تبدأ بالمقابر الا ان هذه الفكرة نضجت أكثر بعد الفعالية الاولى وكانت مرحلة الالغام هي الحد الفاصل الذي لفت الانظار كلها بعد عرضه على صفحات الفيس بوك, وتكالب الفضائيات لعرض المشروع على شاشاتها التلفازية , ومنها الى قناة 24 الفرنسية , وأصبح الطموح كبيرا لتنفيذ مغامرات أخرى أقوى من الاولى .

هذه التجربة ساهمت في دعم فكرة إن الواقع مغيب في الادب بسبب الحركات الشكلانية, تلك الحركات المستوردة من الخارج طيلة العقود المنصرمة من القرن العشرين, سيقول البعض ان كل المفاهيم غربية , وانا اقول ان الواقع العراقي ليس غربيا بالكامل , وعليه لابد من قرائته بشكله الثقافي كما هو , ليس من أجل المتعة بل من أجل أن نواجه أنفسنا أولا ومن ثم نصل بالمجتمع كله ونحن في مقدمته الى حلول واقعية لتجاوزها , وانا هنا لا أنصّبُ نفسي مسؤولا عن تغيير , فهذا مستحيل, لكنني أشير الى لحظة إختلاف جذري ومنعطف تاريخي في مسيرة الادب العربي كله, بمعنى إنني أرى الأشياء من وجهة نظر شرقية غير معنية بمستوى القبول او الرفض من قبل الاخر, ولنا في مشروع الألغام مثالا مهما كدليل على إن العالم لا يعرف بما يحدث في العراق الا بعد ان تعرفوا على الصور والمشاهد, فاصبحت الألغام قضية انسانية ووطنية ودولية للتخلص من الالغام والقنابل المتاخمة للمدن, وهكذا مع ما حدث في مفاعل تموز الذي نشر أورامه السرطانية بعد تفجيرات 1981 المعروفة من قبل اسرائيل, وهذا أحد آثار المشروع الجانبية , الا ان الاهم هو المعطيات الفنية للعمل, فقد إنتقلنا في هذه المرحلة من الكتابة الى الفعل , في محاولة لتجاوز النسق العام والروتيني للكتابة بشكل عام, وهو ما جعلنا نقف في مقدمة الحركات الشعرية العربية بلا منازع, ويمكن لكل دارس أن يراجع ما كتبته عن الحركة وبياناتها .

clip_image009_04eed.jpg-8- “كتاب الموتى” ديوانكم الشعريّ البكر الصادر سنة 1998، لماذا كان علينا ان ننتظر ثلاثة عشر سنة لنعانق ديوانكم الثاني “حب مطلق ” ؟

لقد عشت أزمة الاحباط واللاجدوى من الكتابة , ففي مرحلة التسعينات أصبحنا بشكل مادي وملموس مثل قطيع يساق الى موته, بدون إرادة ولا وعي ولا رد فعل , وهذا الخنوع الجماعي للمصير المحتوم هو من قاد الدكتاتور للمضي قدما لاستباحة دولة الكويت , فهو يمتلك 30 مليون جندي يمكن استخدامهم بسهولة, ويمكن التضحية بهم بدم بارد, وبعد 2003 ودخول الجيش الاميركي, شعرنا لاول مرة ان الحياة تعود لاجسادنا الميتة, وهذا الموضوع لا يفهمه العرب قاطبة , لان صدام في عيونهم كان رمزا قوميا, الا ان الحقيقة ليست كذلك, ومع تطور الاحداث وتدخل الدول المجاورة في اللعبة السياسية , عاد القطيع لممارسة نفس الدور بعد الاحباط الذي صنعته اميركا مجددا وهو تسليم زمام الامور لمن لا يملك أي قدرة على إدارة البلد , ودخلنا نفقا مظلما جديدا لا يقل خطورة عن النفق السابق, فماذا يمكن أن أفعل؟

مثلما حدث وأن سجلت موقفي في كتاب الموتى , حاولت العودة الى كتابة الشعر وكنت اكثر تفاؤلا في ( حب مطلق) ومن ثم بدأ العد التنازلي للتفاؤل بسرعة كبيرة , ومنه الى كائنات سرية الذي حاولت به أن أقدم رؤيتي لتحولات المسوخ بصور سريالية مرة وفنتازية مرة اخرى وهكذا تتابعت صور السواد والظلمة حتى بدأت مواجهة مباشرة لا تقبل المهادنة بدأتها بنشر قصيدة ( خرب الله ) عام 2014, وكانت صدمة للكثيرين ممن تابعوا الردود الانعكاسية على صفحات الفيس بوك وفي المحافل الادبية في العراق وخارجه .

لم تعد الكتابة بحد ذاتها مهمة , فنحن شعوب لا تقرأ , ولا يمكن أن يجلب أي كتاب شهرة جيدة الا بعد أن تسلط عليه الأضواء من قبل مؤسسات خاصة أو جوائز مدعومة , لذلك ابتعدت كثيرا عن أي مشاركة في هذه الفوضى العارمة من الإحتيال والنصب الجماعي على الادب, في الحقيقة كان عليّ أن أتحمل تبعات ذلك , الا إنني أستطيع أن أزعم إنني عشت عصرين مختلفين جدا, هما زمن الدكتاتورية وزمن الحرية الاميركية , وكي لا يفهمني المتابعون خطأ, فلا بد من شرح هذا التوصيف ( الحرية الاميركية ) وهو نمط الحرية الذي جاءت به أميركا فيما يسمى احيانا ( الفوضى الخلاقة ) سيعتبره البعض فسادا أو مؤامرة أو أي شيء يخطر ببالك , لكن الحقيقة هي إننا نعيش حرية لا يمكن تصورها أو بالاحرى لا يمكن تحمل تبعاتها الى حد الجنون والضياع والفوضى, وهذا ما ذكرته في أحد نصوصي أيضا بشكل مباشر .

من هنا أقول: إن المسافة التي تقع بين كتاب الموتى وحب مطلق هي عبارة عن تحول تأريخي في الثقافة العراقية على المستوى الشخصي بصفتي شاعرا يمتلك رسالة نحو العالم .

-9-ماذا عن بقيّة الاصدارات ؟

لقد كتبت في مجالات مختلفة منها النقد التشكيلي, وقد نشرت كتابي النقدي المعنون ( كاظم نوير .. الغصن الذهبي في الرسم العراقي المعاصر ) فقد عملت على تناول تجربة الفنان كاظم نوير كنموذج لتحولات كبيرة في مجال الرسم العراقي المعاصر , وهو فنان قدم نفسه منذ التسعينات وهو ـأستاذ دكتور في جامعة بابل / كلية الفنون, وله تحولات كبيرة وسريعة في مجال التجريب والتحديث , كانت بالنسبة لي ملفتة للنظر فدرستها وفق المنهج الوصفي التأويلي, وقد حقق مساحة طيبة من الشهرة والانتشار في الوسط الفني والجامعي .

أما في المجال الشعري وهو مجالي الاساسي في الكتابة , فانا على أبواب نشر مجموعتي القادمة في دار المتوسط بعنوان ( ماذا تفعل الظلمة في غرفتي ) وهناك مشاريع دراسية قادمة أيضا, أتمنى أن تكون محط إنتباه الوسط الثقافي في العالم العربي قريبا .

-10- كلمة الختام

دائما ما تكون الكلمة الأخيرة للشعر وليس للشاعر , أو هكذا أتصور الموضوع , لأن ما يبقى هو النصوص العظيمة , تلك الروح الحية للإبداع الإنساني , لذلك أقول : الكلمة التي لا تصدر عن تجربة معاشة لن تمنحنا القدرة على الدهشة, لذا كن نفسك دون أقنعة وتزييف في الحياة قبل الشعر

[1] -صفاء ذياب ، في تجربة فريدة قام بها شباب من مدينة الحلة ….القدس العربي ،16 افريل 2015