الأحنف بن قيس

أدباء الشام

ضرب به المثل في الحلم

كان زياد بن أبيه يُقرِّب الأحنف ويُدنيه ، فلمَّا مات زياد وولي ابنه عبيدالله لم يرفع به رأسًا ، فتأخَّرت عنده منزلتُه ، فلما وفد برؤساء العراق على معاوية أدخلهم عليه على مراتبهم عندَه ، فكان الأحنف آخِرَ مَن أدخله عليه ، فلمَّا رآه معاوية أجلَّه وأعظمه، وأدْناه وأكرمه ، وأجلسه معه على الفراش ، ثم أقبل عليه يحادثه دونهم، ثم شَرَع الحاضرون في الثناء على ابن زياد ، والأحنف ساكت ، فقال له معاوية : مالك لا تتكلَّم؟ قال : إن تكلمت خالفتُهم ، فقال معاوية : أُشهِدكم أني قد عزلتُه عن العراق ، ثم قال لهم : انظروا لكم نائبًا ، وأجَّلهم ثلاثة أيام ، فاختلفوا بينهم اختلافًا كثيرًا، ولم يذكر أحدٌ منهم بعد ذلك عبيدالله ولا طلبه أحدٌ منهم، ولم يتكلَّم الأحنف في ذلك كلمة واحدة مع أحد منهم.

فلما اجتمعوا بعدَ ثلاثٍ أفاضوا في ذلك الكلام ، وكثر اللغط ، وارتفعت الأصوات ، والأحنف ساكت ، فقال له معاوية : تكلَّم ، فقال له: إن كنتَ تريد أن تولِّيَ فيها أحدًا من أهل بيتك ، فليس فيهم مَن هو مثل عبيدالله ، فإنَّه رجل حازم لا يسدُّ أحد منهم مسدَّه ، وإن كنت تريد غيرَه ، فأنت أعلم بقرابتك ، فردَّه معاوية إلى الولاية، ثم قال له بينه وبينه : كيف جهلتَ مثل الأحنف؟ إنَّه هو الذي عزلَك وولاَّك ، وهو ساكت؟! فعظُمت منزلة الأحنف بعد ذلك عند ابن زياد جدًّا.

قال الأحنف : خير الإخوان مَن إذا استغنيت عنه لم يزدِك في المودة ، وإن احتجتَ إليه لم ينقصك منها ، وإن عثرتَ عضدك ، وإن احتجت إلى مؤونته رفدك وأنشد:

أَخُوكَ الَّذِي إِنْ تَدْعُهُ لِمُلِمَّةٍ

يُجِبْكَ وَإِنْ تَغَضَبْ إِلَى السَّيْفِ يَغْضَبِ

حكى ابنُ أبي عائشة : أنَّ شابًّا كان يجالس الأحنف ، ويطيل الصمت ، فأَعجب ذلك الأحنف ، فخلَتِ الحلقة يومًا، فقال له الأحنف : تكلَّم يا ابن أخي ، فقال: يا عمِّ أرأيت لو أنَّ رجلاً سقط من شرف هذا المسجد ، هل كان يضرُّه شيء؟ فقال: يا ابن أخي ، ليتنا تركناك مستورًا ، ثم تمثَّل بقول الأعور الشني :

وَكَائِنْ تَرَى مِنْ صَامِتٍ لَكَ مُعْجِبٍ

زِيَادَتُهُ أَوْ نَقْصُهُ فِي التَّكَلُّمِ 

لِسَانُ الْفَتَى نِصْفٌ وَنِصْفٌ فُؤَادُهُ

فَلَمْ يَبْقَ إِلاَّ صُورَةُ اللَّحْمِ وَالدَّمِ