من مجزرة إلى أخرى : ( علماء دين في خدمة طغيان الأسد )

هديل الروابدة

في مقطع فيديو على مواقع التواصل الاجتماعي، يظهر عدد من مشايخ دمشق يهتفون: “يا عزيز يا جبار احفظ القائد بشار”، أثناء سيرهم للاقتراع للأسد في الانتخابات الرئاسية يوم 26 أيار/مايو الماضي. إلى جانب ذلك، كانت احتفت وسائل إعلام النظام بـ”الحضور المميز في الانتخابات” لمن وصفتهم بـ”علماء الدين الإسلامي والمسيحي” في البلاد. 

ورغم أنها ليست المرة الأولى التي يستخدم فيها آل الأسد علماء الدين لتثبيت حكمهم عبر انتخابات أو استفتاءات شعبية محسومة النتائج، فإن الطريقة “الهزلية والساخرة” التي شهدتها الانتخابات الأخيرة تكاد تكون غير مسبوقة، برأي مدير مؤسسة أنا إنسان، الصحافي مالك أبو الخير، وذلك بعد أن حول بشار الأسد أولئك المشايخ “في مسرحية انتخابه الأخيرة من مشايخ كانوا يؤيدونه -ومن قبله والده حافظ- من على المنابر وعبر شاشات إعلام النظام، إلى حجارة مسيّرة، تهتف في الشوارع”. 

من الصمت إلى تبرير الجرائم

مع عدم قدرة الأسد على تقديم أي برامج فعلية في حملته الانتخابية، رغم انهيار الأوضاع المعيشية في مناطق سيطرته، فقد لجأ إلى “رجال دين تسيّرهم أجهزة المخابرات”، كما أضاف أبو الخير المنتمي إلى الطائفة الدرزية، “بعد تجريدهم من دورهم التوعوي في المساجد والكنائس ومجالس الطوائف الدرزية والعلوية، ليثبت للمجتمع الدولي شعبيته لدى 95% من السوريين [نسبة الأصوات التي نالها] على اختلاف طوائفهم ومعتقداتهم، عبر مسيرات راقصة تروج لانتخابات مزورة”. 

وكان مدير أوقاف حمص، عصام المصري، ومفتيها، زهير الأتاسي، رفقة مجموعة من رجال دين مسلمين ومسيحيين، أعلنوا “تجديدهم البيعة لبشار الأسد”، مساء الخامس من أيار/مايو الماضي، من فندق ونادي ضباط حمص الذي شهد في بدايات الثورة السورية تمزيق الثوار صورة حافظ الأسد المعلقة فوق باب النادي، وعلى مسافة أربعمائة متر من مكان وقوع ما يعرف بـ”مجزرة الساعة” على يد قوات الأسد في نيسان/أبريل 2011.

من جانبها، ردّت “هيئة علماء حمص” في شمال غرب سوريا، آخر معاقل المعارضة، على “مدح الطاغية الأسد” من قبل شيوخ حمص “المنافقين”، بحسب قولها، ببيان اعتبرت فيه أنه “لا يقل الذي يبرر للطغاة جرائمهم خطراً عنهم، بل ربما يفوقهم”. مضيفة: “من لم تحرك فيهم إراقة الدماء في الشام ساكناً” على يد “الطاغية الصنم وعصاباته المجرمة”، هو “فاسق وفاجر لا خير فيه”.

في هذا السياق، شدد الدكتور محمد راتب النابلسي على أن “علماء الدين لا يخشون إلا الله، وانتفاء هذا الشرط يسقط عنهم صفة التدين أصلاً”. مستشهداً في حديثه إلى “سوريا على طول” بالآية القرآنية التي وصف بها الله تعالى الدعاة المصلحين بقوله: “الذين يبلغون رسالات الله ويخشونه ولا يخشون أحداً إلا الله”. 

وذهب الدكتور النابلسي إلى أن “سكوت العالِم عن الحق خوفاً أو نطقه للباطل تملقاً، ينهي دعوته. موضحاً أن “العالم ثلاثة أثلاث، ثلث لمعلوماته، وثلث لمواقفه، وثلث لحسن تقييمه لما يجري حوله، وإذا اختل أحدها عنده فلا قيمة لعلمه”. 

لكن فقهاء الأسد تجاوزوا مرحلة السكوت عن الحق والنطق بالباطل، حد “اعتماد النظام على فتاويهم ليبرر إجرامه”، كما قال رئيس فريق توثيق أحداث الثورة السورية، الدكتور حسام الحزوري، لـ “سوريا على  طول”. مستشهداً بوصف الشيخ محمد رمضان البوطي، العام 2011، ثوّار حمص بأن “جباههم لا تعرف السجود”، في مقابل تشبيهه “جيش الأسد الذي قتل ودمّر وهجّر بجيش الصحابة”.   

طريق الإخضاع!

في خضم صراعه ضد الإخوان المسلمين نهاية سبعينات وبداية ثمانينات القرن الماضي، تقرّب حافظ الأسد من رجال الدين البارزين في دمشق آنذاك، من أمثال مفتي الجمهورية، أحمد كفتارو ومحمد سعيد رمضان البوطي، اللذين حملا على عاتقهما تسويق شخصِ حافظ ومناصرته في ذلك الصراع، لاسيما عقب مجزرة حماة العام 1982، وترسيخ حكم عائلة الأسد. 

وعلى خطى حافظ، سار بشار، مواصلاً استجرار شيوخ الدين لصفّه لتثبيت أقدامه في الحكم بعد أن “خلخلت جرائمه” خلال عشر سنوات مضت، كما يقول المعارض جورج صبرا لـ “سوريا على طول”، علاقته بشيوخ الدين. “إذ رغم نجاحه في استعباد بعضهم ممن فضّل العيش خادما له، فإن علماء دين كبار أصدروا بيانات هاجمت النظام وعبيده من أدعياء الوطنية والدين”.

وقد سعى بشّار الأسد، منذ بداية الثورة، إلى السيطرة على طبقة مشايخ السنة أكثر من غيرهم، فعمد إلى “اعتقال واضطهاد من لم يؤيد إجرامه ضد السوريين”، بحسب الحزوري، “فكسر شوكة صمودهم”. مستدركاً بأن هذا لا يعفيهم من مسؤولية مباركتهم إجرام النظام وتنكيله بالسوريين. “إذ كان باستطاعتهم اللحاق بركب كبار العلماء ممن فروا من بطش الأسد إلى خارج سوريا، مثل محمد راتب النابلسي، وعدنان السقا، وأحمد الصياصنة، ومحمد علي الصابوني”، كما أضاف، “لكنهم فضلوا مصالحهم المرتبطة باستمرار النظام”. 

إضافة إلى ذلك، تعمّد الأسد “إذلال المؤسستين الدينية والعسكرية، وتطويعهما، لتثبيت حكمه، وتنزيهه عن صفة الطائفية، ليُظهر وكأن مشايخه يفتون بقتل الناس وعساكره ينفذون”، وفق الحزوري.

وبرأي صبرا، يعتقد “الأسد موهوماً أن الانتخابات فرصة ليعيد التفاف علماء الإسلام والخوارنة والمطارنة حوله”، “لغسل جرائمه” من خلالهم وترميم شعبيته التي انكشف زيفها أخيراً.

مضيفاً أنه “لولا اختراق المؤسسات الدينية الإسلامية والمسيحية”، فضلاً عن “مجالس الدروز والاسماعيلية والعلوية وباقي الطوائف” من خلال “قسم الأديان” المستحدث في كل الفروع الأمنية السورية لتجنيد “العملاء والمخبرين” باسم الدين، لما استمرت الدولة التسلطية التي بناها حافظ وورثها بشار.

مشايخ ضد الحرية والكرامة

في نيسان/أبريل 2011، بعد قرابة شهر على انطلاقة الثورة السورية، اجتمع عشرون عالم دين من مدينة حمص مع بشار الأسد، لأربع ساعات، نصحوه باحتواء غضب السوريين وقهرهم، بالإصلاح، كما استذكر رئيس هيئة علماء حمص السابق الشيخ عبد العزيز بكور. لكن الأسد ظل صامتاً، فقابل العلماء ذلك بالقول: “اتق الله، إجرامكم وصل السماء، سجونكم امتلأت بالمظلومين”. فبقي الأسد صامتاً، لكنه هذه المرّة “اصفرّ واحمرّ غضباً”.

لاحقاً، طلب الأسد مقابلة العلماء، فامتنعوا عن تلبية الطلب، لـ”نقضه الوعد الذي قطعه أمامهم بحقن الدم السوري”. كما فهم المشايخ أنه “عبد مأمور مأجور”، على حد قول بكور في حديثه لـ”سوريا على طول”. مضيفاً أنه مع اشتداد الأزمة، طالبتهم الأجهزة الأمنية بالتدخل لوقف التظاهرات، لكنهم رفضوا الوقوف في وجه الثوّار، “فحوّلها النظام عبر المخبرين والمدسوسين من تظاهرات سلمية إلى مسلّحة لتبرير قصف المتظاهرين”.

بالنتيجة، اتخذ معظم علماء الدين المعروفين في سوريا، أمثال الشيوخ كريم راجح وأسامة الرفاعي وأحمد الصياصنة، “موقفاً معارضا للأسد وجرائمه”، بحسب المنسق العام في الثورة السورية، الدكتور عبد المنعم زين الدين. إذ “شكلوا هيئات ومجالس شرعية أوجبت مقاومته وإسقاط نظامه المجرم”، فضلاً عن انخراطهم في الثورة، بالتظاهر مع الثوار والتوعية والإرشاد والفتاوى المُجرّمة للأسد.

وفي سبيل ردّه على الفتاوى الصادرة عنهم، رسّخ “النظام المجرم حوله زمرة من الشبيحة المنافقين من أدعياء العلم والدين” كما أضاف زين الدين لـ”سوريا على طول”. وهؤلاء بدورهم “برروا إجرامه وحذروا الناس من الانخراط في الثورة معتبرين أنها خروجاً على الحاكم”.

كما برزت حاجة الأسد لأدعياء الدين “للاختباء خلف خطاباتهم الدينية والعاطفية” كوسيلة للاحتيال على حالة التذمر والغضب المتنامية لدى مواطنيه ومؤيديه، بحسب وصف زين الدين، بعد فشله في تنفيذ إصلاحات حقيقية تنعكس على حياتهم ومعيشتهم.

ومع مضي عقد على ثورة لم تكن لتستمر لولا تمسك “الطاغية بكرسيه”، بتعبير زين الدين، فستبقى حاجة الأسد لمشايخه “المنافقين”، لإقناع مؤيديه أن تدمير حياتهم ومستقبلهم وبلادهم كان في سبيل “قضية مقدسة” أو “حرب كونية” وليس من أجل بقاء حكمه.